مشاغبات

بقلم
الحبيب بلقاسم
هَلَّا أنْتَجَتْ قُرَيْشٌ الطَّاغِيَةُ دُعَيْشًا البَاغِيَةَ ؟
 كُلٌّ شَاهَدَ فِلْمَ الرِّسَالَةِ، البَدِيعَ المُتَمَيِّزَ، الفَرِيدَ المُتَألِّقَ، قَدْ صَاغَهُ العَقَّادُ الصِّيَاغَةَ الحَسَنَةَ المُحْكَمَةَ، وسَاقَهُ إِلَيْنَا مَسَاقًا تَرُوقُهُ البَصَائِرُ والأبْصَارُ، هُوَ عَمَلٌ لَا يَمَلُّ مُشَاهِدٌ مُشَاهَدَتَهُ، ولَا نَاظِرٌ النَّظَرَ إِلَيْهِ، والدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أنَّنَا تَابَعْنَا فُصُولَهُ وتَفَاصِيلَهُ تِسْعًا وتِسْعِينَ مَرَّةً، ومَا زِلْنَا إِلَيْهِ ظَامِئِينَ مُتَشَوِّقِينَ، وكِدْنَا نَعُدُّ مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ صُورِ التَّعْذِيبِ والتَّنْكِيلِ والتَّمْثِيلِ، مِنْ أسَاطِيرِ الأوَّلِينَ، وأقَاصِيصِ الوَضَّاعِينَ، اِسْتَطَرَهَا قَوْمٌ بَارِعُونَ، واَخْتَلَقَهَا نَاسٌ حَاقِدُونَ، اِنْتَهَزَهَا العَقَّادُ لِيَغْنَمَ مِنْهَا مَالًا وَفِيرًا، وتُكْسِبَهُ صِيتًا كَبِيرًا، فَالَّذِي رَأيْنَاهُ فِي فِلْمِ العَقَّادِ، ضَرْبٌ مِنَ العَجَبِ العُجَابِ، هُوَ عِنْدَ قَوْمٍ مَرْدُودٌ، وفِي قَائِمَةِ المُفْتَرَيَاتِ مَعْدُودٌ، لَكِنَّ النَّاظِرَ العَارِفَ المُنْصِفَ المُدْرِكَ لِحَقَائِقِ التَّارِيخِ، لَا يُذْهِلُهُ مَا رَأتْ عَيْنَاهُ، فَهْوَ نُقْطَةٌ فِي بَحْرٍ، وغَيْضٌ مِنْ فَيْضٍ، وعَيِّنَاتٌ مِنْ بَيِّنَاتٍ، آهٍ كَمْ تَعَرَّضَ المُسْلِمُونَ فِي بِدَايَةِ البَعْثَةِ والدَّعْوَةِ والرِّسَالَةِ، إِلَى ضُرُوبٍ مِنَ الظُّلْمِ والإِذْلَالِ، وأصْنَافٍ مِنَ القَهْرِ والإِيذَاءِ، وكَانَ هَدَفُ أكَابِرِ قُرَيْشٍ، الكَفَرَةِ الفَجَرَةِ، الظَّلَمَةِ العُتَاةِ، كَسْرُ شَوْكَةِ المُسْلِمِينَ، وهَدْمُ دِينِهِمْ الجَدِيدِ، الحَامِلِ ثَقَافَةً جَدِيدَةً، وقِيَمًا جَدِيدَةً، ونُظُمًا جَدِيدَةً، لَا يَرْتَضُونَهَا مَسْلَكًا وسَبِيلًا، ولَا يَبْتَغُونَهَا شَرِيعَةً ومِنْهَاجًا، وهُمْ يَرَوْنَهَا تَهْدِيدًا لِمَصَالِحِهِمْ، وتَنْدِيدًا بِجَرَائِمِهِمْ، ونَسْفًا لِكِيَانِهِمْ، وكَسْرًا لِبَيَانِهِمْ، وإِزَاءَ ذَلِكَ شَنُّوا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الحَمَلَاتِ الشَّعْوَاءَ، وهَذِهِ الهَجَمَاتِ الحَمْقَاءَ، ظَنًّا مِنْهُمْ أنَّ مَنْطِقَ القُوَّةِ غَالِبٌ قُوَّةَ المَنْطقِ، ونَسُوا أوْ جَهِلُوا أنَّ هَذَا الدِّينَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ مُؤَيَّدٌ بِوَحْيٍ مٍنَ اللَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ، الحَيِّ القَيُّومِ، المُحْيِي المُمِيتِ، يُلْهِمُهُ الرَّشَادَ، ويَرْزُقُهُ السَّدَادَ، ويَحْفَظُهُ مِنْ ضَيْمِ الظَّالِمِينَ، وحَيْفِ الحَاقِدِينَ، إِنَّ المَرْءَ لَتَؤُّزُّهُ مَشَاهِدُ التَّعْذِيبِ أزًّا، وتَهُزُّهُ هَزًّا، كَانَ تَعْذِيبًا فَوْقَ الوَصْفِ، وفَوْقَ الرَّسْمِ، وفَوْقَ الخَيَالِ، قَتَّلُوهُمْ، شَرَّدُوهُمْ، جَوَّعُوهُمْ، مَزَّقُوهُمْ، أخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، اِغْتَصَبُوا نِسَاءَهُمْ، رَوَّعُوا أطْفَالَهُمْ، نَهَبُوا مُمْتَلَكَاتِهِمْ، صَادَرُوا حُرِّيَّاتِهِمْ، حَاصَرُوهُمْ أيَنَمَا ثَقِفُوهُمْ، فِي يَثْرِبَ، فِي مَكَّةَ، فِي الطَّائِفِ، فِي بِلَادِ الحَبَشَةِ، فِي ثَوْرٍ، فِي أُحُدٍ، فِي كُلِّ مَكَانٍ.
إِنَّ مُعَامَلَةً كَهَذِهِ، بِوَحْشِيَّةٍ كَهَذِهِ، لَا بُدَّ أنْ تُنْشِئَ جِيلًا ثَائِرًا سَاخِطًا مُتَمَرِّدًا، ولَا عَجَبَ أنْ تُنْتِجَ مُعَامَلَةً مِثْلَهَا، يَفْقَدُ فِيهَا قِيَمًا رُبِّيَ عَلَيْهَا وغُذِّيَ بِهَا، وبِذَلِكَ يَدْخُلُ المُجْتَمَعُ فِي مُنْعَرَجٍ جَدِيدٍ، لَا تُحْمَدُ عُقْبَاهُ، لَكِنَّمَا المُسْلِمُونَ وهُمُ الحَامِلُونَ المَشْرُوعَ الجَدِيدَ، والآتُونَ بِتَقَالِيدَ جَدِيدَةٍ، لَنْ يَدْخُلُوا هَذَا المُنْعَرَجَ الوَخِيمَ العَاقِبَةِ، وفِيهِمْ نَبِيٌّ خُلُقُهُ القُرْآنُ، يَحْفَظُهُ الرَّحْمَانُ، سَيُقِيمُ بَعْدَ هُنَيْهَةٍ دَوْلَةَ الإِسْلَامِ، وحَضَارَةَ الإِسْلَامِ، وعِمَارَةَ الإِسْلَامِ، وحَسْبِي أنَّ كُلَّ مُطَّلِعٍ عَلَى تَارِيخِ المُسْلِمِينَ، عَارِفٍ بِالغَزَوَاتِ، مُحِيطٍ بِالفُتُوحِ، نَاظِرٍ إِلَى الوُفُودِ، دَارٍ تَفَاصِيلَ المَلَاحِمِ، مُتَتَبِّعٍ سِيَرَ الصَّحَابَةِ، ودَعْوَةَ الرِّسَالَةِ، مُدْرِكٌ عَظَمَةَ الإِسْلَامِ، وجَلَالَةَ المُسْلِمِينَ، إِنَّهُ دِينُ الرَّحْمَةِ والإِحْسَانِ، دِينُ العَدْلِ والإِنْصَافِ، قِيَمٌ نَبِيلَةٌ يُحْيِيهَا، وشِيَمٌ جَلِيلَةٌ يُعْلِيهَا، ولَمْ يَكُنْ دِينَ تَشَفٍّ واَنْتِقَامٍ، وشِدَّةٍ واَعْتِسَافٍ، يُقَابِلُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، والظُّلْمَ بِمِثْلِهِ، لِذَلِكَ نَهَى عَنِ المُثْلَةِ، والعُدْوَانِ، ولَكُمْ فِي السِّيَرِ والغَزَوَاتِ والفَتْحِ الأعْظَمِ العِبْرَةُ والدَّلِيلُ، ومَا نَشَأَ فِي زَمَنِ الحُدَيْبِيَةِ ومَا تَمَّ فِيهَا مِنْ صُلْحٍ رَآهُ الفَارُوقُ عُمَرُ دَنِيَّةً فِي دِينٍ، تَيَّارٌ قَالَ إِنَّهُ نَاصِرٌ للِشَّرِيعَةِ، ومُبْتَدِعٌ مَقَالَاتٍ شَنِيعَةً، فَأحْدَثَ فِي البِلَادِ هَرْجًا ومَرْجًا، ومَلَأهَا قَتْلًا لِلَّذِينَ رَضُوا بِالدَّنِيَّةِ فِي الدِّينِ، ولَمْ يَنْشَأْ تَيَّارٌ آخَرُ نَقَضَ المِيثَاقَ وأفْسَدَ الصُّلْحَ وتَمَرَّدُوا عَلَى القَائِدِ المُلْهَمِ، وإِنَّ لَكُمْ أيْضًا فِي شَهَادَاتِ أكَابِرِ الأعَاجِمِ مِنْ فَلَاسِفَةٍ ومُؤَرِّخِينَ ومُفَكِّرِينَ وكُتَّابٍ، حَوْلَ عَدَالَةِ الإِسْلَامِ، ورَحْمَةِ الرَّسُولِ، ومُرُوءَةِ الصَّحَابَةِ، أوْضَحَ بُرْهَانٍ وخَيْرَ شَاهِدٍ، فَمَا لِجَمَاعَاتٍ تَنْتَسِبُ لِهَذَا الدِّينِ، لَا تَعْتَبِرُ ولَا تَتَّعِظُ ولَا تَرْعَوِي ولَا تَنْزَجِرُ ؟ ألَا يَعْلَمُونَ أنَّهُمْ بِصَنِيعِهِمْ هَذَا يُقَدِّمُونَ للَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِنَا الدَّوَائِرَ، أجَلَّ الخِدْمَاتِ، وأفْخَمَ الهَدَايَا، ألَا عَقْلٌ مُتَدَبِّرٌ، ألَا أذُنٌ وَاعِيَةٌ، ألَا فِكْرٌ مُسْتَنِيرٌ، رَبِّ اِهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
فِي اللَّحَظَاتِ الَّتِي كُنْتُ أُعِدُّ فِيهَا مَقَالَتِي هَذِهِ إِنْتَاجًا وإِخْرَاجًا، وأهَيِّئُ لَهَا فِكْرَةً فِي فَقْرَةٍ، وسُطُورًا فِي صُدُورٍ، أتْحَفَتْنَا قَنَاةُ حَنَّ بَعْلُ بِفِلْمٍ مَا كَانَ أحَدٌ مُرْتَقِبٌ بَثَّهُ وظُهُورَهُ، رُغْمَ أنَّنَا فِي زَمَنِ ثَوْرَةٍ، هُوَ فِلْمُ الصِّرَاعِ، المُؤَرِّخُ أعْسَرَ زَمَنٍ عَاشَتْهُ تُونِسُ، المُؤَرِّقُ عُيُونَ التُّونِسِيِّينَ، حَيْثُ سُلِّطَ ظُلْمٌ يُشْبِهُ ذَاكَ الظُّلْمَ، وتَعْذِيبٌ قًرِيبٌ مِنْ ذَاكَ التَّعْذِيبِ، لَا تَزَالُ آلَافُ العَائِلَاتِ تُعَانِي آثَارَهُ حَتَّى اللَّحْظَةِ، ومَعَ ذَلِكَ لَمْ تُنْشِئْ تِلْكَ الوَحْشِيَّةُ حَرَكَةً هَمَجِيَّةً عُنْفِيَّةً مُتَهَوِّرَةً، لَمْ تَسْتَخْدِمْ الرَّصَاصَ، وإِنَّمَا كَانَتْ تُدَافِعُ عَنْ حَقِّهَا فِي الوُجُودِ بِقَلَمِ الرَّصَاصِ، وبِصَدْرٍ عَارٍ، الحَمْدُ للَّهِ أنْ وَاجَهَتْ سُلْطَةُ الَبَطْشِ حَرَكَةً عَاقِلَةً رَاشِدَةً تُؤْثِرُ الوَطَنَ عَلَى الحِزْبِ، وظَلَّتْ صَابِرَةً تُجَنِّبُ البَلَدَ وَيْلَاتِ الفِتْنَةِ وغَوَائِلَ الفَوْضَى، وبِذَلِكَ جُوزِيتْ جَزَاءً وِفَاقًا.
----
- عاشق الضاد
habib.belgecem.fattouma@gmail.com