الإنسان والكون

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
إشكالية الإلحاد والعلوم الطبيعية - حلقة 1
 مقدمة
«الإلحاد» في اللّغة هو مطلق الميل، و اصطلاحا «الملحد» هو المائل عن الصواب، فكل مشرك أو كافر ملحد لميله عن الحق، واختصاص اسم الإلحاد بمن ينكر وجود الله تعالى اصطلاح حادث، والملحد بهذا الاصطلاح أي المنكر لوجود الله.  الملحد هو ذاك الذي لا يعتقد في وجود الله أو أنّه أرسل الرّسل بكتب تحمل تعليمات للبشر تنظّم دنياهم وأخراهم. والملحد الذي يناقش قضايا فرعيّة (فقهيّة وأغلبها خلافيّة تتعلّق بفروع دين الإسلام على وجه الخصوص كأنّما صنع الإلحاد للهجوم على الإسلام كدين) ويترك هذه القضايا الأساسيّة الكبار كالإيمان بوجود إله له صفات الكمال والجلال هو ملحد تافه يقتات علي فضلات ملحدين آخرين أكبر منه تفاهة وسفاهة، ويصحّ أن يطلق عليه أنّه كائن يأكل فعلا على كل الموائد. أمّا الملحد الذي يناقش القضايا العظمي أوّلا بتجرّد وصبر ربّما يكون باحثا عن الحقيقة فعلا. الملحد ينظر إلى أنّ أصل مادّته جاءت من حشرة أو فراشة أو من كلب أو من خنزير أو من بشر مثله أو من أيّ شئ آخر عبر دورة كونيّة كبرى، ولقد حدثني بذلك ملحدون غربيّون عن حرق الجسد بعد الموت وفلسفة ذلك عندهم فربّما يتحوّل التراب المحروق عندهم إلى زهرة أو فراشة أو كلب أو أي شئ آخر. وينظر الملحد إلى حياته اليوميّة على أنّها مجرّد تفاعلات كيميائيّة بين ذرّات جسمه المترابطة كيميائيّا، تثور في البشر الانفعالات المختلفة من تفاعلات هذه الذّرات كما قال الملحد «ستيفن هوكنغ». هذا الاعتقاد لدى الملحد ينسف مبدأ الحرّية المطلقة الذي يعتقده. حين يقول الملحد أريد أن أكون حرّا ينسف إلحاده أصغر مكونات المادّة «الذرّة».  فعند حدوث تفاعل هل تقول الذّرة لا أنا حرّة لا أريد أن أتفاعل؟ ... فعلماء المادّية ينكرون حرّية الإرادة و يعترفون بأن الإنسان مسير من طرف جيناته ولا يملك أي خيار ليكون حرّا، فقط تفاعلاته هي التي تقرّر ذلك ...لذلك ينسف الملحد إلحاده بقوله «أريد أن تكون حرّا». 
وحين يذوق الإنسان طعم الحرّية التي كان يحرّمها الطغاة عليه، يظنّ أنه حرّ في أن يتذوق طعم أيّ شئ حتى الفضلات الثّقافية للآخرين. ويشكّ في أيّ شئ حتى في وجوده ووجود أبيه وأمّه اللذين يشاركهما نفس الفضاء، والعجيب أنّ الملحد ينفي الألوهيّة عن الله الذي له صفات الكمال والجلال ويؤلّه نفسه بالعجز لا في صفاته البدنيّة فقط بل وفي كل صفاته المستمدّة من العقل. والغريب أنّ كلا من المؤمن والملحد يبني اعتقاده (فلسفته) على مسلّمات، ولا تُبنى الاعتقادات بالغيبيّات المطلقة أبدا على العلم الطبيعي. حتى أن العلم الطبيعي نفسه يبنى على مسلّمات، يعني أشياء غير مبرهنة إلى الآن، فالهندسة مثلا مبنيّة على مسلّمات «إقليدس»، إحساس داخلي فقط بصدق القضيّة المسلّمة، أنا أقول أنّ الذي زرع فيك الإحساس بمسلّمات الإيمان هو الله والملحد يقول الطبيعة، والردّ عليه بسيط ويكمن في أن الإنسان وهو أرقى الكائنات في  الكون ومع ذلك يمرض ويؤذي من أصغر الكائنات ويهرم ويضعف ويموت ويجهل ويخاف ويهرب ويجبن ويغلب على أمره ويحتاج لوقت للتفكير وفي كل أحواله يظهر عليه التّغيير بشكل جليّ، وكلّ ذلك صفات نقص مركّب منها، فهل يستطيع من يتركّب من النّقص أن يزرع بداخله هو نفسه فكرة الاطمئنان إلى صدق صحّة قضيّة ما وهو يحتاج إلى من يطمئنه ساعة خوفه ويعلّمه ساعة جهله، يحتاج إلى من يتّصف بصفات الكمال والجلال ليركن إليه حتى من جانب العقل، أنظر إلى حالة الطّفل حين يفقد والده في الزّحام ثم يلقاه. أنت أيّها الإنسان أشبّهك بكائن محبوس في بعدين أسير دنياك هذه فلا تستطيع أبدا أن تدرك أن هناك بعدا ثالثا، إلاّ إذا أرسل لك من يعيش في الأبعاد الثلاثة إشارات تنبؤك بوجوده ترى إسقاطها في دنياك تحيّر عقلك لكن بالتفكير تدرك ذلك. هل تستطيع أن توصل أفكار «ألبرت أينشتين» و«ماكس بلانك» وغيرهم كثير من العلماء والفلاسفة إلى الحمار مثلا ثمّ يناقشك الحمار بعد ذلك في هذه الأفكار مع أنّ خلايا  الحمار نفس خلاياك وهو أسير نفس الفضاء الذي أنت أسير فيه أي أنت وهو في رتبة الخلق تقريبا سواء، ومع ذلك أنت تحتاج إلى مالانهاية من الزمن لتفعل ذلك أي أنه مستحيل. فكيف تحيط بخالق يغيّر ولا يتغيّر ما كان وما لم يكن وما هو كائن عنده سواء له العلم المطلق والقدرة المطلقة والحياة المطلقة لا يحدّه زمان ولا مكان. هو الذي زرع في كلّ الموجودات الإحساس بوجوده كأرض مجهّزة لاستقبال الإشارات التّفصيليّة منه على يد الرّسل الكرام، فالاعتقاد بالغيبيّات المطلقة لا يُبنى إلا على قبول الخبر من الصادق المصدوق الذي لا يكذب أبدا. فلو أخبرك «أيّها الملحد» من لا تشكّ في صدقه أبدا أنّ في حجرتك ثعبانا فلا تصدقه ونم قرير العين حتى تثبته علميا وعمليّا مع إمكانية إثبات ذلك فما بالك بالغيب المطلق.
الحرية المطلقة والحرية المقيدة
 الشكّ هو مذهب الحرّية المطلق من كلّ شئ والذي كان يسمّى قديما بالكفر، والإيمان مذهب الحرّية المطلقة من جهة البشر المقيّدة من جهة من آمنت به. والذي لا يصدق إلا العلوم الطبيعية فليأتي لي بمثال واحد على نظام طبيعي حرّ حرّية مطلقة من كلّ شئ. كلّ الأنظمة الطبيعية حرّة من جهة مقيّدة من جهة أخرى. أيّها التائه لا تنتظر عمرك كله حتى تؤمن أو تكفر، آسف تشك لكن فكر في الموت وما بعده هل كان من الأجدى والأنفع لك أن تكفر حيث آمنت أو هل كان من الأجدى لك أن تؤمن حيث كفرت أسف مرة أخرى حيث شككت. 
تفكر في فكرة المالانهاية في الرّياضيات - وهي عنوان لجهل الإنسان وعجزه عن معرفة أكبر عدد- ومبتكرها الأب الروحي لمذهب الشكّ «ديكارت» هو الذي قال: «الذي زرع هذه الفكرة اللانهائية في العقل المحدود هو الله وهو يعبّر عن المرجعيّة المتجاوزة». عمرك كلّه بل وأعمار من سبقوك ومن سيأتوا بعدك تعدّ لا شئ إلى جوار اللانهاية التي تشكّل حجرا أساسيّا غير مبرهن في العلوم الطبيعية، وغاية ما هنالك إشارات وصلت إلى العقل بصدق وجودها. أنا قلت لك سابقا آلاف الأمثلة في العلوم الطبيعية مثل ذلك ودراستها هي التي تُعطي طعما للاعتقاد بالغيبيّات، ربّما تقول إنّ كثيرا من علماء الطبيعة والفلك والرياضيات ملحدون وعلى رأسهم «لابلاس»، أقول لك وكثير منهم غير ذلك لكن لا يبني الإنسان مصيره على كفر زيد أو إيمان عمرو. على أنّ في كل علم علماؤه وعماله والأولون قليلون نادرون ندرة الزئبق الأحمر والآخرون كثيرون وهم بمثابة الأيدي العاملة في العلم.  
بداية طريق الاستدلال
الدليل العقلي على وجود الله أو ما يسميه المناطقة القوة العظمى أو المسبب الأعظم، من ناحية التنظير العقلي البحت وعلى وجود خالق أعظم تقف عنده سلسلة الخلق أي خالقا ليس مخلوقا هو مبدأ السببيّة الذي يقضي بأنّ كلّ شئ موجود له مسبّب أوجده وهو نفسه قريب الصلّة بقانون نيوتن الأول ومعناه العام أنّ «التغير الحادث في شئ ما ينشأ من مؤثر خارج عن ماهية هذا الشئ وأنّ هذا الشئ نفسه عاجز عن إحداث هذا التغيير بنفسه» ويسميه الفيزيائيون القصور الذاتي،  ولو أنّ ملحدا قال أنّ الذي قام بالتّغيير في هذا الشئ هو شئ آخر غير الشئ المحدث فيه التغيير، ويستمر ذلك في دورة كونية كبرى، ولو فكّر قليلا لعلم أنّ إنعدام شئ واحد (وهي من ضروريات الأشياء الطبيعيّة) يقضي بانعدام المنظومة كلّها البالغة التّعقيد على الإنسان وهذا ما لا يحدث.
الإنسان وهو أرقى المخلوقات لم يستطع حلّ لغز أبسط المسائل العلميّة (مسألة جسمين في الميكانيكا) إلى الآن حلاّ كاملا وكلّما حلّ لغزا ظهرت ألغاز أخرى أمامه لم يكن يراها من قبل وهذا أكبر دليل على عجزه، فكيف يدير الكون نفسه يا ملحد مع أنّ أرقى مفرداته «الإنسان» لم يفهم جزئياته البسيطة حتى الآن.  وبالتالي ليس بمقدورنا في هذا السياق قبول الفكرة القائلة إنّ العقل يفرض على الكون ما يريد، وذلك لأنّ العقل عاجزٌ عن الإحاطة الفيزيائية بالكون بل بأبسط الأنظمة الجزئيّة منه. والمفارقة الكبرى أنّنا صرنا في الوقت الرّاهن نفهم الكون أعمق بكثير ممّا فهمناه قط من قبل في التّاريخ، ولدينا نظريات يمكن اختبارها تبيّن لنا كيف انبثق الكون وكيف سيكون مستقبلا محصورا في عدّة احتمالات، إلا أنّنا في المقابل أصبحنا نعي أنّنا كلّما زاد فهمنا زادت الاحتمالات الغريبة لجهلنا، فالكون قد يكون في الحقيقة أغرب بكثير مما يمكننا أن ندركه وربما أغرب مما يمكننا تصوره .  كما قال «فيرنر هايزنبيرغ»: 
«Not only is the Universe stranger than we think, it is stranger than we can think.» [1]
وربما كما قال «فيرنر هايزنبيرغ» أيضا في كتابه الفيزياء والفلسفة: ثورة في العلم الحديث. أن ما نرصده ليس الطبيعة نفسها بل هي الطبيعة المعرضة لاستفساراتنا واستجوابنا. 
«What we observe is not nature itself, but nature exposed to our method of questioning.»  [2]
فحجم الكون وعمره خارج إدراك الإنسان،  وبالتالي فلابد من مسبّب أعظم له صفات الكمال فلا يقضى عليه بالانعدام أو التّراخي أو التّكاسل أو عدم القدرة على الفعل أو عدم العلم بإدارة المنظومة أو عدم الحكمة في الفعل أو أي صفة من صفات النّقص. فالقوة العُظمى لابدّ أن تكون كاملة لكمال التّنسيق والخلق والإبداع وهي التي أودعت هذه الوسيلة في عقل الإنسان لبداية طريق الاستدلال على وجوده أولا (وللمؤمنين وليس للملحدين أقول ذاك مقتضي آية الميثاق) « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» [الأعراف: 172]. هذه القوة العظمي ستكون بمثابة المرجع في كل شئ.
الهوامش
[1] ديفيز، بول ، الكون العرضي، كامبريدج، مطبعة جامعة كامبريدج (1982) .
[2] هايزنبيرغ، فيرنر، الفيزياء والفلسفة: ثورة في العلم الحديث، ترجمة خالد قطب، المركز القومي للترجمة (2014).   
------
- أستاذ ديناميكا الفضاء  بكلية العلوم - جامعة القاهرة
أستاذ الرياضيات التطبيقية  بكلية العلوم - جامعة طيبة - المدينة المنورة  
f.a.abdelsalam@gmail.com