الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
نشأة الكون
 لقد انبثق الكون من «العدم» في اللّحظة «الصّفر». وخلال الجزء الأول من عشرة مليون مليار مليار مليار مليار جزء من الثّانية كان الزمان والمكان ممتزجان بلا انفصام. أما ماذا حدث قبل تلك اللحظة فلا إجابة.
اللّحظة «الصفر»
من أين جاءت اللّحظة الصّفر؟ سؤال أساسي يطرح عند الكلام في تاريخ الكون. لنذكر بأساس نموذج الانفجار العظيم. بني النّموذج انطلاقا من حقيقة مفادها أنّ المجرّات الموجودة خارج المجموعة المحليّة تبتعد عنا وذلك مهما كان اتّجاه الرّصد. تكفلت النّسبية العامّة بتفسير ذلك وقالت أنّ تلك الظّاهرة لا يمكن أن تفهم على أساس أنّ المجرات تتحرّك في فضاء لا مبال، بل وعلى مستوى تلك الأبعاد الكونية، فإنّ المفاهيم الجديدة للمادّة والطاقة والزّمن والفضاء تؤدّي إلى القول بأنّ الفضاء بين المجرّات يتمدّد وأنّ ما يبدو لنا فراغا كونيّا تتوزّع فيه المجرّات هو في الحقيقة نسيج خفيّ محكم البناء تقوم فيه الجاذبيّة الثقاليّة (أي تلك القوّة التي تجعل المادّة والطّاقة منجذبة لبعضها البعض ومتماسكة ) بدور الاسمنت المسلّح الذي يحفظ البناءات الضّخمة ويمنعها من الاختلال والانهيار. يحمل ذلك النّسيج المرن المجرّات التي تمثّل جزءا لا يتجزأ منه وعندما يتمدّد فإنّ المسافات بينها تكبر.  حسنا، ولكن النّتيجة المنطقيّة لتبنّي ذلك التّفسير الذي تقدّمه معادلات النّسبية والتي وقع التّأكد من مصداقيتها هي أغرب من الخيال. فإذا سلّمنا بأنّ الفضاء يتمدّد فإنّ العودة بتلك الحركة إلى الماضي تعني ببساطة أنّ المجرّات ستكون قريبة أكثر فأكثر من بعضها البعض وأنّ حجم الكون سيتقلص أكثر فأكثر ولو تركنا المعادلات الرّياضية تصف لنا بقيّة «الحكاية» وسايرنا المنطق الرّياضي إلى مداه فإنّها، أي المعادلات الحسابية، ستوصّلنا إلى حالة لا يمكن تصوّرها أي إلى كون ذي حجم يساوي صفرا وذي كثافة لانهائيّة. عندها لا معنى لأيّ شيء حتى الزمن. 
واضح جدّا هنا أنّ نظرية الانفجار العظيم لا تعتمد إلاّ على مفهوم الجاذبيّة الثقالية النّابع من النّسبية العامة. ومبرر ذلك أنّ مجال تطبيقها هو المستوى الكوني. ولكنّ الكون غير محكوم فقط بالجاذبيّة الثّقالية إذ عندما نقترب من اللّحظة «الصّفر» ويصبح حجم الكون قريبا من حجم نقطة فإنّ قوى طبيعيّة أساسيّة أخرى تدخل إلى مسرح الأحداث ولن يكون بمقدور الثّقالة وحدها وصف ما يقع. 
يعدّد العلماء أربعة قوى أساسيّة في الكون بفضلها استطعنا فهم الكثير عن البناء الكوني نشأة وتطوّرا. فما هي تلك القوى و لماذا سمّيت أساسيّة؟  
النموذج المعياري 
كلّ متساكني الكون هم إمّا «بوزونات» أو «فرميونات» فلا تغرنّكم المظاهر ولا يغرنّكم التّعدد اللاّنهائي للأجسام الموجودة في كوننا.  هكذا يقول التّصور العلمي الذي صاغه العلماء على شكل بناء منطقي من سلسلة من العلاقات السّببية وبلغة الرّياضيات بعد جهد نظري وتجريبي مظن. يسمّى ذلك البناء النّموذج المعياري ويمثل أداة ناجعة في يد العلماء في مجال دراسة الظواهر الطبيعيّة في كل زمان ومكان. فما هي هذه الكائنات؟ أهي مخلوقة أم مصنوعة؟ إنّها الاثنان معا. فهي مخلوقة باعتبار أنّها موجودة قبل وجود الإنسان وهي مصنوعة باعتبار الصّورة التي صنعها ذهن الإنسان عنها. ورغم المعلومات الوفيرة عنها ورغم تعامل العلماء معها على هذا النّحو واستعمالها في حياتنا اليوميّة، فإنّنا نعجز تماما عن مشاهدتها مباشرة ومعاينتها بأمّ عيننا. وعجزنا هذا ليس لنقص في معدّاتنا أو لخلل في تصوّراتنا بل لأنّها غاية في الصّغر ولأنّ كلّ جهد نبذله للتّعرف عليها تزداد هي في الصّغر. تمثل «الفرميونات» اللّبنات الأساسية للمادّة مثلها مثل الحجارة والآجر التي نشيّد بها بنياننا، أما «البوزونات» فهي «حبيبات» من الطّاقة لا حجم لها تنقل القوى الأساسية وتضمن تفاعل «الفرميونات» مع بعضها البعض. ويمكن تشبيه دور «البوزونات» بدور الاسمنت الذي يمسك بالحجارة والآجر وراء ما نراه من تعدّد لانهائي من البناءات. فبفضل «البوزونات» تبنى أجسام الموجودات وتتفاعل فيما بينها لتكوّن الكون الذي نحن جزء منه. ففيما تختلف «البوزونات» عن بعضها البعض؟ وما علاقة ذلك بمستويات تنظم المادة؟  
القوى الأساسية الأربعة
قبل أن نكتشف السيناريو الذي يوفّره نموذج الانفجار العظيم بعلاقة بتلك القوى الطبيعية لا بدّ من تعريفها انطلاقا من أمثلة من حياتنا اليوميّة.
القوة التثاقلية
تعتبر تلك القوة أكثر ألفة بالنّسبة للإنسان. إنّه يحسّ بأثرها منذ أن يبدأ بوعي من حوله. فهي التي تمسك به على الأرض وتمنعه من الصعود إلى أعلى وأن صعد فبشق الأنفس. وهي التي تجعل الأجسام تسقط تلقائيّا نحو الأرض. وتحت تأثيرها عرف العرب كل ما علا بكلمة سماء. ثم جاء «نيوتن» ووحد السّماء والأرض بمنظومة واحدة من القوانين تمثل الجاذبية التثاقلية مركز الرّحى فيها وذلك في القرن السّابع عشر ميلادي. وبيّن أنّ دوران الأرض حول الشّمس ودوران الأقمار حول الكواكب محكوم بالجاذبية الثقالية التي هي نفسها تجعل الإنسان ثابتا على الأرض. ثم اتّضحت الصّورة وتوصّل العلماء إلى أنّ قوة الجاذبية التثاقلية تعمل بين كلّ الأجسام الماديّة مهما كان مقدار كتلتها وأن مداها لانهائي هي تعمل على مدى مسافات فلكيّة كبيرة جدا إذ تحفظ مليارات النجوم في مجموعات تسمى مجرات وتحفظ كذلك تماسك أعداد ضخمة من المجرّات في  نسيج غير مرئي محبوك بدقّة لامتناهية. أما أغرب ما يميّزها عن القوى الأخرى هو ضعف شدّتها قياسا بشدّة القوى الأخرى مثل القوة الكهرمغنطيسية.
القوة الكهرمغنطيسية
اكتشفت القوّة الكهرمغنطيسية في القرن التاسع عشر من طرف «مكسوال». إنّها القوّة التي بفضلها تضاء بيوتنا وشوارعنا ومدننا. إن آثارها أصبحت في كل مكان. فالراديو والتلفاز والكمبيوتر والانترنت والحاسبات كلها نتائج القوة الكهرمغنطيسية. تعمل هذه القوة على تجاذب أو تنافر الجسيمات المشحونة كهربائيا. تعتبر تلك القوّة شديدة جدّا قياسا بالجاذبيّة التّثاقلية فيكفي مثلا استعمال قطعة مغنطيس لجذب مسمار ورفعه للأعلى في حين تعجز قوة الجذب ألثقالي لكوكب الأرض الذي يزن أكثر من تريليون تريليون كيلوغرام مسكه وإبقاؤه على الأرض. أمّا على المستوى الصّغير جدّا فيعزى إليها ارتباط الذّرات ببعضها أي بفضلها تحافظ الأجسام على شكلها وبنيتها. 
القوة النووية الشديدة 
تعمل القوة النووية الشديدة على مستوى نواة الذرة كما يعبر اسمها عن ذلك. تحفظ تلك القوة تماسك البروتونات و النيوترونات داخل نواة الذرة. مدى تلك القوة قصير جدا إذا إلا أن شدتها عالية فهي اكبر ألفي مرة من شدة القوة الكهرومغناطيسية. 
القوة النووية الضعيفة
اكتشفت القوة النووية الضعيفة في الثلاثينيات من القرن الماضي أي في نفس الفترة تقريبا والقوّة النووية القويّة. تعمل هذه القوّة مثل سابقتها على المستوى ما دون الذّري. فهي المسؤولة على التّحلل الإشعاعي للنّواة إذ هناك العديد من الذّرات أنويتها ثقيلة ولا تتحمل ذلك فتبث تلقائيا جزءا من كتلتها على شكل أشعّة. كما تنشأ طاقة الشّمس من القوّة النوويّة الضعيفة التي تتحكّم في عملية انصهار ننوّي للهيدروجين. فنحن مدينون إليها بما تبثه الشّمس من نور ودفء يجعل الحياة ممكنة على الأرض. 
النسبية العامّة و بداية الكون
لا تأخذ النسبيّة العامّة بعين الاعتبار كل القوى الأساسية بل فقط قوة الثقالة ولذلك فهي غير مؤهّلة لوصف الكون في بدايته. فمعادلاتها لا تستطيع وصف تفاعلات الجسيمات التي انبثقت من الطاقة في درجات حرارة عالية جدّا وهي تفاعلات تتحكّم فيها القوى الأساسية الأخرى. إنّ النسبية العامّة لا يمكن أن تخبرنا إلاّ على حالة الكون في زمن متأخّر عن البداية التي تسيطر فيها القوى النووية والكهرمغنطيسية. لذلك فإنّ ما نسميه اللّحظة الصفر هو مفهوم غير قابل للتّصور. إنّها لحظة تخيّلية تنتج عن استقراء سيء لمعادلات رياضيّة عاجزة أصلا عن وصف كون عالي الكثافة والحرارة وهي بالضّبط خصائص كوننا في بداياته. إنّ الجذب ألثقالي، لو عدنا بالزّمن إلى الوراء، يؤدّي إلى كون منعدم الأبعاد بالضّرورة ولا يمكن تفادي النّتيجة التي يوصلنا إليها على ضوء المعارف العلميّة التي نمتلكها اليوم. صحيح أن الاعتماد على معادلات النسبيّة العامّة التي تصف الجاذبيّة الثقاليّة يمكننا من وصف دقيق للعديد من المراحل التي مرّ بها الكون لكن وعند الاقتراب من البداية يصبح الكون يعج بالفرميونات والبوزونات الشديدة الهيجان ممّا ينتج عنه استحالة استعمالها وبالتالي استحالة معرفة ما حدث في بداية الكون وما هو السّبب الممكن الذي أدّى إلى انبثاق الكون في اللّحظة التي يمكن أن نعتبرها اللّحظة الصفر لكن ليس ذلك الصّفر الذي يجول بخلدنا. 
تمثل بداية كوننا مأزقا حقيقيا يواجه العلماء الذين يرفضون الإقرار بالعجز ويسعون جاهدين لإيجاد معادلات حسابية قادرة على وصف للكون في تلك الظروف البدائيّة التي يستحيل اختراقها بكل ما نملك من نظريات.
------
- أستاذ بالجامعة التونسية
ghorbel_nabil@yahoo.fr