قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
الاستبداد بالربيع
 جاء الربيع العربي حاملا لآمال شعوبه في التّحرر من قبضة الاستبداد التي رانت عليها لقرون طويلة، ومع الآمال والأحلام كان هناك في الأفق كمّ هائل من الصّعوبات والمخاطر التي ظهرت في سماء هذا الرّبيع منذ الأيّام الأولى لحلوله.
لم يكن لدى النخبة بكل مكوناتها ما كان يجب من الاستعداد لقطف زهور هذا الرّبيع من دون إفساد الحديقة أو تجريفها أو القضاء على أشجارها، ولم يكن لدى ما تبقي من الدّولة أي استعداد لاقتناص اللّحظة التي كانت مناسبة لتحقيق المصالحة التّاريخية بين الدّولة الموصومة بالاستبداد وأجهزتها التي تولّت رعاية هذا الاستبداد مكرهة لزمن طويل. 
جاء الربيع العربي ردّا مدويّا من الشّعوب على كل ما أصابها من حيف وعسف، وجاء كذلك تتويجا لنضالات عقود وحتّى قرون كانت فيها هذه الشّعوب تتبع المحاولة بأخرى في طريق التّحرر الطّويل. جاء الرّبيع ولكنّه لم يطل وسرعان ما بدأ الخراب يحلّ شيئا فشيئا حتى وصلنا بسرعة إلى الزّمن الذي صار فيه الكثيرون لا يتوانون عن إدانة هذا الرّبيع وتحميله شرور كلّ ما حلّ ويحل بنا من أزمات، فهل كانت العلّة في ربيع الثورات والانتفاضات أم العلّة في ما حفّ بهذا الربيع من مؤامرات وسوء تدبير؟ .
(2)
فاجأت تونس محيطها الإقليمي والدّولي بهبة شعبها وتصميمه على اقتلاع المستبد من دياره وتحرير نفسه من ربقة الاستبداد والتّحوّل بالبلد من ضفّة القهر إلى ضفّة الحريّة. ولم يدر بخلد التّونسيين والتونسيات أن يقوموا بتصدير ثورتهم ولكن جيرانهم تلقّفوا اللّحظة وثاروا هم أيضا ليعمّ الرّبيع العربي شعوبا أخرى كانت تعيش استبدادا أشدّ قهرا وسوءا ممّا كنا نعيشه. حلّت الثّورة بليبيا ومصر وانتقلت الى اليمن بسرعة مذهلة، وكان الغالب على النخبة في بلداننا تقبّل هذه الثورات وتفهّمها حتى حلّ قطارها بسوريا فكانت تلك بداية الانحدار أو لنقل بداية الطّامة الكبرى.
ثار السّوريون على نظام حكمهم لعقود تحوّل فيها هذا النّظام من البعثيّة المحمّلة بوعود الاشتراكيّة إلى الطّائفية والتّوريث صلب العائلة الواحدة بقوّة القهر والسّلطان. ولم تكن ثورتهم مسلّحة ولا هدفت إلى إسقاط النّظام وإنّما كان الهدف إحداث تغيير ملموس في بنية النّظام الاستبداديّة والوصول بالبلد الى نوع من الحكم يتيح للأحزاب والمواطنين نوعا من المشاركة في الحياة السّياسية وفي الشّأن العام ولو بالتّدريج.
(3)
هل كانت ثورة السّوريين ردّا طبيعيّا على مآسي عقود من الاستبداد والحكم الجائر أم كانت مؤامرة دوليّة وإقليمية بأياد محلّية وأجنبية على نظام ممانع للقوى الكبرى وللكيان الصّهيوني خاصة؟ وهل كان بإمكان الشّعب السّوري مزيدا من السّكوت على نظام لا مثيل له في القمع والتّنكيل بكافّة المعارضين على حدّ السّواء؟ وهل أنّ ما فعله النّظام على مدى العقود السّابقة من تحويل وجهة السّلطة من حزب الى عائلة وطائفة وحرمان الطّائفة الكبري من الحكم والمشاركة هو الذي قضى على كل أمل في التّغيير؟ أم أنّ القوى الكبرى هي من  تآمرت على سوريا مستغلّة موجة الرّبيع العربي للإطاحة بمحور الممانعة تمكينا للكيان الصّهيوني ومن والاه؟ 
(4)
هذه الأسئلة هي أسئلة مستهلكة تلوكها النّخب منذ قيام الثّورة في سوريا من دون أن تتّفق حول إجابة مقنعة يمكن الاطمئنان إليها من الجميع، وليس ثمّة شكّ في أنّ هذه الإجابة المقنعة لن تتاح في المدى القريب ما دام جزء من هذه النّخب يمارس خداعا ايديولوجيّا يجري تغليفه بشحنات من الأفكار لا يمكنها أن تصمد أمام هول ما يجري في سوريا من كارثة وماساة إنسانية لا مثيل لها.
لا بد للجميع من الكفّ عن ممارسة الدّجل إزاء مأساة شعب كان يرزخ تحت وطأة نظام لا همّ له إلاّ البقاء في السّلطة وإبقاء هذه السّلطة داخل دائرة العائلة الحاكمة. ولعلّ ما يدور الآن من مفاوضات لترتيب الأوضاع في سوريا بعد تدخّل روسيا وما يروج عن تمسّك هذه الأخيرة ببشار أو أحد إخوته يؤكّد ما نذهب إليه. ليست المشكلة حينئذ في ممانعة النّظام من عدمها ولا هي في تدخّل قوى على خطّ الثّورة وإنّما المشكلة في إصرار بعض القوى في الدّاخل وفي الخارج على إعادة رسكلة الاستبداد نفسه رغم ما أحلّه بالبلد من خراب.
(5)
أن تكون «داعش» صاحبة النّظام وصنيعته، أو تكون تجلّيا للغباء والقراءة الخاطئة لبعض الدّين تعسّفا على ما فيه من دعوة للسّلام والمحبّة، أو تكون سكّينا أخرى من سكاكين القوى الكبرى، فإنّ كلّ هذا لن يستطيع طمس حقيقة كون «داعش» كانت عونا للاستبداد ومشروعا لإستبداد أشدّ، وهي لن تستطيع أن تفعل في السّوريين أكثر ممّا فعله النّظام بهم وسوف تكون إرادة الشّعب السّوري أقوى من عمالتهم ومن غبائهم، ولن يمرّ وقت طويل حتى نشهد فيه تهاوي هذا الصّنم الجديد.
 لعلّ روسيا قد قرّرت أخيرا خوض غمار الحرب على الشّعب السّوري بعيدا عن وكلائها أو بمساعدتهم، أو لعلّها قد قرّرت تقاسم الكعكة السّورية مع أولي الشّأن مباشرة، ولكن كلّ هذا لن يحجب عنّا حقيقة أنّ الشّعب السّوري كما الشّعوب الأخرى يظلّ صاحب الشّأن ولن يستبدل استبداد السّوري باستبداد قادم من وراء البحار نصرة للمستبد الأول. ولن تستطيع روسيا تبرير تدخّلها المباشر في شأن الثّورة السّورية فضلا عن كونها ستكتوى لاحقا بنيران هذا التّدخل، فشعبها يعاني من استبداد بوتين وحاشيته ولا يأمن مكر الشّعوب إلاّ الأغبياء من الحكام..
 .------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com