الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
بعض ألغاز الكون
 التضخم
يتّصف إشعاع الخلفيّة الكوني الميكروي الموجة الذي تبقى من الكون المبكّر الحارّ جدا بخصائص تسترعي الانتباه. أولا أنّه يأتي من كلّ الاتّجاهات وثانيا انّه يُظهر الخواص ذاتها في كل الاتّجاهات. إنّها خصائص يعبر عنها بمصطلح «ايزوتروبي» والذي يعني باليونانية «هو نفسه أينما استدار المرء». فالخلفيّة الإشعاعية للكون تظهر ايزوتروبيّة فائقة للعادة. ورغم أنّ الايزوتروبيّة أصبحت اليوم أمرا راسخا فالمعضلة التي تطرحها هو كيف يمكن تفسيرها. فالحسابات تبيّن أنّ العمليّات الفيزيائيّة التي أنتجت هذا الإشعاع والتي يمكن أن تعطي له نفس الخصائص في كلّ مكان في الكون تتطلّب حجما للكون يقدر بمليار سنة ضوئيّة وذلك من بداية التّمدد إلى الآن، لكن الأرصاد تعطي كونا متجانسا وبمقياس أكبر 14 مرّة تقريبا. وفي محاولة لتفسير ذلك اقترحت في بواكير الثمانينات من القرن الماضي فرضيّة «التّضخم» أو «الانتفاخ» inflation.
تقول الفرضيّة أنّ الكون شهد تمدّدا متسارعا مباشرة إثر انبثاقه للوجود، بحيث أصبح الحجم الذي وقعت فيه العمليّات الفيزيائيّة المرتبطة سببيّا بآثارها أكبر بكثير من حجم الكون الذي تعطيه حساباتنا النّظرية. إنّ الخصائص الغريبة التي يُظهرها الإشعاع الخلفي للكون تكون قد تحدّدت حسب فرضيّة التّضخم قبل التّضخم ذاته، ثم تكفّل التّضخم بجعلها خاصّية كوننا الحالي أي أنّ كوننا حافظ على خصائصه الأوّليّة رغم ما شهده حجمه من تمدّد هائل يقدر بـ 1026 مرّة على الأقل.
كما إنّ لكوننا خاصّية أخرى يمكن أن تُفسّر بفرضيّة التّضخم إذ تُبيّن الأرصاد أنّ التّركيب الكيميائي للنّجوم والمجرّات لا يتغيّر مهما كان الاتّجاه الذي تُرصَد منه ومهما كان بُعدها عنّا. فكوننا المرئي - وسمي كذلك باعتبار أنّنا نتعامل مع ما يمدّنا به الضّوء من معلومات- يتكوّن جوهريّا من ثلاثة أرباع من الهيدروجين وربع من الهليوم وهو ما يعني تجانسا فائقا في تركيبته المادّية يحبس الأنفاس.
إنّ كوننا المرئي بما يظهر من خصائص للخلفيّة الإشعاعيّة وللوفرة للعناصر الكيميائيّة يمثّل وسطا متجانسا وموحّد النّسق لا يمكن لآليات الفيزياء التي نعرفها ليوم الناس هذا أن تفسّره إلاّ بافتراض التّضخم وهو افتراض يفتقر بذاته إلى أساس فيزيائي لتبريره. إنّ القبول به كآلية تفسيرية لتجانس الكون يرتقي إلى مرتبة الاعتقاد في الغيب إذ لا يفهم العلماء الكوسمولوجيين والمتخصصون في فيزياء الجسيمات ما سبب حدوثه وما هي القوانين التي أحدثته. 
تمدّد الكون يتسارع
لا تنفرد ظاهرة التضخم وحدها بالألغاز بل إنّ العديد من الظّواهر الكونية الأخرى تمثّل تحدّيا للذّكاء الإنساني ولمقدرته على الفهم والتفسير ومن أهمها ما اكتشف في عام 1998. فقد تمكّن العلماء من اكتشاف ظاهرة محيّرة بفضل مراقبة النّجوم التي تبتعد عنّا بأكثر من سبعة مليارات من السّنين الضّوئية. فالاكتشاف الذي أنجزه فريقان علميّان وبصورة مستقلّة من كاليفورنيا واستراليا يتمثّل في أنّ الكون وخلافا لما كان يعتقد لم يتوقّف عن التّوسع بل وتصاعدت وتيرة توسّعه نحو سرعة أعلى.
حدث التّسارع في التّمدد بعد أن بلغ الكون من العمر حوالي ثمانية مليار سنة وهو حدث هائل بكلّ المقاييس ولم يكن أحد يتوقّعه. لم يستطع العلماء إلى الآن معرفة طبيعة تلك الطّاقة الغير مرئيّة التي أدّت إلى تزايد وتيرة التّمدد الكوني فأطلقوا عليها اسم الطاقة المظلمة. تبين الحسابات التي أجريت عليها أنّها تمثل 70 % من مجمل طاقة الكون، أمّا الثلاثون بالمائة الأخرى فهي المادّة العادية والمادّة المظلمة. إنّ الطّاقة المجهولة زادت من مقاومة الجاذبية الثّقالية التي ومنذ خلق الكون كانت تعمل على إعادته إلى حالته الأولى أي إلى العدم. وقبل تناول لغز المادة المظلمة يمكن أن نذكر بكثير من التبسيط الطريقة التي أدت إلى اكتشاف الطّاقة المظلمة.
 يوجد في الكون أجرام تسمّى مستعيرات عظمى. وهي نجوم عملاقة تموت بانفجار ضخم وتطلق طاقة عالية جدّا لا تتغير بمرور الوقت ممّا يجعل منها منارات كونيّة يهتدى بها لتحديد سرعة التّمدد الكوني. قام العلماء بتحديد المسافات التي يجب أن تكون عليها مجموعة من المستعيرات وفقا لوتيرة معينة للتّمدد تسمح بها النّظرية السّائدة لوصف الكون من الانفجار العظيم إلى اليوم. وعند مقارنتها بالمسافات التي وقع قياسها وجدوا أنّها أصغر منها بنسبة 10 % إلى 15 % ممّا يعني أنّ تمدّد الكون أسرع ممّا كان متوقّعا وهو ما لا تظهره الأرصاد بالنّسبة للمستعيرات الأبعد أي تلك التي تنتمي إلى زمن أبكر من عمر الكون أي قبل أكثر من 7 مليارات سنة.
المادة المظلمة
تمثّل المادّة المظلمة نوعا من المادّة ذات الوجود الافتراضي والتي لم يقع معرفة طبيعتها لحدّ الآن. وقد التجأ العلماء إلى افتراض وجودها لتفسير ظاهرة الشذوذ الحاصل بين نتائج الحسابات المتعلّقة بتحديد كتل المجرات وأكداس المجرّات المبنية على كمّية الضوء المنبعثة منها من ناحية وباعتمـــاد قوانين «نيوتن» للحركة من ناحية ثانيـــة. وقد اكتشف «فريتز زويكي» (1898-1974) ذلك الشّذوذ لأول مرّة في بداية الثّلاثينات من القرن المنصرم.
عاد موضوع المادّة المظلمة إلى مسرح الأحداث العلميّة الفلكيّة من جديد في السّبعينات من القرن الماضي. فقد بينت بيانات الأرصاد المتعلّقة بسرعة دوران النّجوم حول مركز المجرّة أنّ تلك السّرعات أكبر من السّرعات التي تعطيها قوانين «كيبلر» المبنية على تحديد كتلة المجرّة باعتماد الضّوء المنبعث منها. إنّ افتراض وجود مادّة لها تأثير ثقالي قادر على الحفاظ على النّجوم في مداراتها يفرض نفسه إذ لا يمكن للمادّة العاديّة وحدها المسك بجاذبيتها الثّقالية بتلك النّجوم السّريعة في مداراتها.  
طاقة الكون
تمثّل طاقة المادّة المظلمة أربعة أضعاف طاقة المادّة العاديّة المتكوّنة من الذّرات. واعتمادا على المعطيات المتوفّرة اليـــوم فإنّ طاقـــة كوننا المرئي تتوزّع كما يلــــي: 75 % طاقة معتمة و21 % مادة مظلمة و 4 % مادة عادية وهي مادّة ذات طبيعة معلومة، إنّها المادّة المكونة لأجسامنا ولكلّ ما يحيط بنا ومنها تتكون كل الأجرام السّماوية من كواكب وأقمار ونيازك ومذنبات وشهب ونجوم وسدم غازية وكل ما يبث أشعة كهرمغنطيسية مهما كانت طاقتها. إنّها المادّة موضوع مداركنا ومناهجنا العلميّة إنّها موضوع القوانين الفيزيائيّة والنظريات العلميّة. إنّنا لا نتعامل إذا إلاّ مع 4 % من طاقة الكون، فكلّ معارفنا لا تتعلّق إلاّ بجزء يسير جدّا من محتوى الكون من الطّاقة لذلك وجب التّواضع.
------
- أستاذ بالجامعة التونسية
ghorbel_nabil@yahoo.fr