في الشعر والأدب

بقلم
توفيق الشّابي
عن تحوّلات الشعر العربي المعاصر، جماعة أبولو مثالا
 مع أنّ التأريخ لبداية التّحولات في الشّعر العربي ينطلق مع بداية عصر النّهضة في القرن التّاسع عشر إلاّ أنّ السّائد في الدّراسات الأدبيّة والنّقدية يقتصر على البداية من ميلاد الشّعر الحرّ على يد الشّاعرة العراقية «نازك الملائكة» في نهاية الأربعينات. مع ايماننا بأنّ ميلاد هذا الشّعر مثّل نقلة نوعيّة في تاريخ الشّعر العربي إلاّ أنّ ذلك يجب أن لا يبخس مساهمة السّابقين في تعبيدهم الطّريق لمثل هذه التّحولات ونقصد بذلك خاصّة الجماعات الشّعرية التي نشأت في بداية القرن العشرين. لاشكّ أنّ هذا التّحول كان نوعيّا وخصوصا على مستوى الشّكل لكنّ ذلك لم يكن دون مقدّمات أو ارهاصات ساهمت في الوصول إليه ،ذلك أنّ العقود الأربعة التي سبقت ميلاد الشّعر الحرّ شهدت حركيّة شعرية كبيرة كان هدفها تحديث الشّعر العربي.
فقد شهدت هذه الفترة ميلاد عدد مهمّ من الجماعات الأدبيّة التي كان هاجسها الأساسي تطوير الشّعر العربي انطلاقا من الموروث من جهة وبانفتاح على المدارس الأدبيّة والفنيّة التي عرفها الغرب خصوصا. فكانت جماعة الاحياء التي تزعمها «أحمد شوقي» ثم مدرسة الديوان مع «عباس محمود العقاد» و«ابراهيم المازني» و«عبد الرحمان شكري»، ثم الرّابطة القلميّة في أمريكا الشّمالية والتي عرف أصحابها بأدباء المهجر والتي من أعلامها «جبران خليل جبران» و«ميخائيل نعيمة» و«إيليا أبو ماضي». ثم كانت خاتمة الجماعات الشّهيرة جماعة «أبولو» التي أسسها «أحمد زكي أبو شادي» سنة 1932. وفي دليل على أنّ هذه الجماعات هي حلقات متواصلة من أجل تحديث وتطوير الشّعر العربي هو تسمية «أحمد شوقي» ثم بعده «خليل مطران»  الشاعر البناني رؤساء شرف لهذه الجماعة. وقد كان من أبرز أعلامها: مؤسسها «أحمد زكي أبو شادي» والشعراء «علي محمود طه» و«أبو القاسم الشابي» و«إبراهيم ناجي» و«نازك الملائكة» وغيرهم من الشعراء من أغلب البلدان العربيّة.
إنّ الدّارس الموضوعي لشعر تلك المرحلة من النّشاط من أجل تحديث الشّعر العربي سيدرك أن ذلك الحراك لم يكن خاويا بل قدّم اضافات نوعية على المستويين الفنّي والمضموني مثّلت جوانب من التّحولات التي عرفها الشّعر العربي. وهي اضافات وجدناها في بدايات الشّعر الحرّ ونجد صداها اليوم في الشّعر المعاصر فما هي أهمّ هذه الإضافات؟
لقد عرفت قصائد تلك المرحلة وخاصّة لدى شعراء جماعة «أبولو» تجديدا في المضامين وذلك من خلال الخروج من تحت عباءة الأغراض الشّعرية القديمة (المدح والهجاء) والتّأسيس لشعر يتناول مواضيع معاصرة. وقد مثل ذلك تحولا نوعيا بحكم المدة الزمنية التي طغت فيها هذه الأغراض وحوصر فيها الشعر العربي بين المدح والهجاء وما يفرضه ذلك على بناء القصيدة. لقد تأثر شعراء تلك المرحلة بالمدرسة الرومنطيقية الغربيّة التي تولّي اهتمامها الأكبر لمواضيع تتعلّق بالطّبيعة والمرأة والحبّ وتُعالج بطرق غير معتادة في الشّعر العربي عمادها الـتّأمل الفكري من أجل معانقة عالم المطلق بعيدا عمّا هو حسّي ومادي. هذا التحول في الكتابة الشعرية في جزء منه أيضا تفاعل مع التحولات الاجتماعية والفكرية التي شهدتها المنطقة العربية منذ عصر النهضة والتي تعمق فيها السؤال حول علاقة الإنسان بنفسه وبمحيطه.
من الإضافات الأساسية أيضا هو دخول الخيال على خطّ الكتابة الشّعرية. هذا الخيال الذي كاد أن يكون غائبا تمام الغياب في الشّعر العربي، وقد لخّصه «أبو القاسم الشابي» في كتابه «الخيال الشعري عند العرب» بقوله: «إن كل ما أنتجه الذهن العربي في مختلف عصوره ليس له من الخيال الشّعري حظّ ولا نصيب». لقد كان جلّ الشّعر العربي قبل مرحلة النّهضة شعر محاكاة للطّبيعة والموجودات وذلك بالبناء على الأساليب البلاغيّة المألوفة كالتّشبيه والاستعارة. مع دخول الخيال بقوة إلى القصيدة الجديدة أصبح الشعر يطمح إلى إعادة بناء العالم وتقديمه للقارئ بوجه آخر وبعلاقات أخرى غير مألوفة. نلاحظ ذلك في ميل الشعراء إلى التّشخيص وإضفاء الحياة على الكائنات ومحاورتها والتّفاعل معها ككائن انساني. وهو ما جعل اللّغة الشّعرية لغة ايحائيّة لا تكتفي بالمجاز والاستعارة والتّقنيات والأساليب البلاغيّة المألوفة، إنّما تعتمد أيضا على المعاني الثّواني والدّلالات الحافّة للكلمات وهو ما يجعل المجال أرحب أمام القارئ لفهم النّص وتأويله بناء على ثقافته ومعرفته. 
على صعيد بناء القصيدة قطعت نصوص تلك المرحلة مع وحدة البيت في الشعر العربي القديم حيث كان البيت الشعري هو العمود الفقري للقصيدة والذي عادة ما يكون مكتملا مبنى ومعنى، لتصبح القصيدة الجديدة وحدة عضوية تًقرأ كاملة وهو ما سماه النّقاد «بالبنية الحيّة للقصيدة» وذلك من خلال وحدة الموضوع ووحدة البناء. وهي خصائص جديدة للنّص الشّعري ستتعمّق لاحقا مع ميلاد قصيدة التّفعيلة أين وقع التّخلي على البيت الشّعري لصالح السّطر الشعري.
لم تكتف قصيدة جماعة «أبولو» بهذه المميزات بل غيّرت أيضا على صعيد الشّكل باعتماد البناء المقطعي واستعمال اللّوازم الشعّرية. كما مال الشّعراء إلى البحور ذات الطّابع التّوشيحي وهي بحور أقلّ صرامة وتمنح الشّاعر حريّة أكبر على مستوى القافية ، كما نلاحظ في هذه القصائد استعمال الكلمات الأجنبيّة ذات المرجعية التاريخيّة والأسطوريّة وهي الميزة التي تدعّمت أكثر مع ميلاد الشّعر الحرّ وخاصّة على يد الشاعر العراقي «بدر شاكر السياب» الذي برز في استعمال الأسطورة في أكثر من عمل شعري.
خلاصة القول أن ميلاد الشعر الحر في نهاية الاربعينات من القرن العشرين لم يكن إلا مرحلة من مراحل التحول في الشعر العربي المعاصر. وأن هذا الميلاد لم يكن منقطعا عما سبقه من انجاز على مستوى الكتابة الشعرية ،بل إن المرحلة السابقة مثلت ارهاصات ناضجة سهلت ميلاد الشعر الحر وما تلاه من تحولات. وكل ما تميزت به نصوص تلك المرحلة نجده في الكتابات الشعرية المعاصرة بنفس الروح ولكن بطعم المرحلة التاريخية التي وجد فيها لأن كل إبداع هو ابن عصره وشاهد عليه. إن إعادة النظر في أشعار المرحلة السابقة على ميلاد الشعر الحر في ضوء المنجز الشعري المعاصر من شأنه أن يضئ أكثر الاضافات التي قدمتها نصوص تلك المرحلة وخاصة شعراء جماعة أبولو ومنهم أبو القاسم الشابي وما كانت تحتويه من مقدمات أساسية لما نقرأه اليوم وهو أمر طبيعي لأن الإبداع والمعرفة بصفة عامة تتطور بالتراكم والتواصل بين الأجيال والأزمنة.
-------
        -  كاتب وشاعر  تونسي
tchebbi@yahoo.com