الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
البصمة الطيفية و كنز المعلومات
 الطيف الكهرمغنطيسي
يتكون الضّوء الأبيض من مجموعة ألوان يمكن إبصارها في ظاهرة «قوس قزح». تمكن الإنسان، بعد اكتشافه للطّبيعة التموّجية للضّوء، من تحديد مجال التّرددات (أي أطوال الموجات باعتبار أنّ الموجة تعين بسرعتها وهي سرعة الضّوء في الفراغ وطول موجتها وتردّدها) للإشعاعات الممثّلة لتلك الألوان. تبيّن لاحقا أنّ الطّيف المرئي (ألوان قوس قزح) لا يمثّل سوى جزء بسيط من مجموع الإشعاعات الموجودة في الكون والتي يغيب أغلبها عن المشاهدة بالعين المجرّدة.
فقد تنبأت، في البداية، معادلات «مكسوال» التي تصف الشّعاع على أنّه موجة، بوجود طيف من الإشعاعات، منها من له طول موجة أصغر من أصغر طول موجي تستطيع العين إبصاره وهو 380 نانو متر ( أي جزء من مليار جزء من متر) المتمثل في اللّون البنفسجي ومنها من طول موجته أكبر من أكبر طول موجيّ للعين البشريّة القدرة على إبصاره وهو 740 نانو متر والمتمثل في اللّون الأحمر.. وقد تمّ فعلا إثبات وجود أمواج ذات أطوال مختلفة تمتدّ من بضعة عشرات من الأمتار وتسمّى أمواج الرّاديو إلى جزء من ألف مليار جزء من المتر تسمّى أمواج «غاما».
يسمّى طيف الإشعاعات الطبيعيّة بالطّيف الكهرمغنطيسي وتشترك كلّ مكوناته أي إشعاعاته في السّرعة ولا تتميّز عن بعضها البعض إلاّ بالطّول الموجي وبالتّالي بالتّردد أي بعدد الذّبذبات في الثّانية الواحدة. تتوزّع الإشعاعات الكهرمغنطيسيّة في الطّيف حسب تردّداتها من أشعّة الرّاديو في إحدى طرفيه إلى أشعة غاما في الطّرف الآخر مرورا بالتّوالي بالإشعاع تحت الأحمر فالضّوء المرئي فالأشعة فوق البنفسجيّة ثمّ الأشعّة السينيّة. تمثل تلك الإشعاعات والتي يمكن اعتبارها أضواء غير مرئية 96 بالمائة من مجموع الإشعاعات الموجودة في الكون.
طيف الانبعاث
عند تسخين أيّ عنصر كيميائي من العناصر الطبيعيّة (الهيدروجين مثلا) فانّه يصدر طيفا من الإشعاعات يميّزه عن بقية العناصر الأخرى.  وإذا كان طيف الضّوء الأبيض يظهر سلسلة متّصلة من الإشعاعات فإنّ طيف الانبعاث لا يظهر إلاّ مجموعة متقطّعة من الخطوط الضّوئية المتوازية ذات التّرددات المحدّدة، أي ذات المواقع المحدّدة بالنّسبة لطرفي طيف الضّوء المرئي.  يعتبر طيف الانبعاث بصمة ذلك العنصر أو بطاقة تعريفه لذلك يمكن معرفة أيّ عنصر عن طريق قياس الطّيف الخاصّ به.
 طيف الامتصاص
عند تمرير شعاع ضوء أبيض خلال عنصر ونقوم بتحليل الضّوء بعد مروره نحصل على طيف به عدد محدّد من الخطوط السّوداء عند تردّدات محدّدة (أي تحتلّ مواقع محدّدة بالنّسبة لطرفي الطيف المرئي) ومميزة للعنصر. ومثل طيف الانبعاث فإنّ لكلّ عنصر طيف امتصاص يميّزه عن العناصر الأخرى ويمكن اعتماده للتّعرف عليه. 
تأثير دوبلر
اكتشف كريستيان دوبلر(1803 – 1853) عام 1848 ظاهرة التغير الظاهري للتردّد أو الطّول الموجي للأمواج عندما ترصد من قبل مراقب متحرّك بالنّسبة للمصدر الموجي. ولتقريب الظّاهرة يمكن القيام بالتّجربة التالية: عند وجودنا في الطّريق ويصادف أن تمرّ سيارة إسعاف علينا أن نركّز على صوت صفّارتها لنلاحظ أنّ ذلك الصّوت يتغيّر بتغيّر موقعها بالنّسبة لنا. والصوت هو موجة ميكانيكيّة تنتشر بفضل جزيئات الهواء مثلما تنتشر الأمواج على سطح الماء إثر سقوط حجر عليه ولها طول موجي محدّد عند مغادرتها المصدر. وقد فسر «دوبلر» تغير الصّوت باعتماد الطّبيعة التّموجية للصّوت. فعندما تقترب السّيارة يصبح الصّوت حادّا ويعني ذلك فيزيائيّا أنّ الموجة تضغط بفعل حركة الاقتراب فيقصر طولها وترتفع تردّداتها وتصبح حادّة لأذن السّامع. أمّا عند الابتعاد فيزداد طول موجتها وينخفض تردّدها وتصبح أقلّ حدّة. ويمكن تطبيق تأثير «دوبلر» على الضّوء باعتباره ظاهرة تموجيّة.
فلو أخذنا مثلا عنصر الهيدروجين وحلّلنا طيف إصداره بعد تسخينه وهو في حالة تحرّك بالنّسبة لآلة القيس، فسوف لن نجد تلك المجموعة المتقطّعة من الخطوط الضّوئية في مواقعها التي اعتدناها بل سنجدها قد تحرّكت جميعها وبنفس المقدار، إمّا لجهة اللون الأحمر أو البنفسجي. وتفسر نتيجة التجربة بتأثر أطوال موجات الإشعاعات الصّادرة عن الهيدروجين بالحركة. فعند اقتراب المصدر من آلة القيس تضغط الأمواج فيقصر طولها وتتحرك خطوطها الضّوئية نحو الأزرق لتحتل المواقع المناسبة لها من حيث التردّد في مجال طيف الضّوء المرئي. أمّا عند الابتعاد فترصد الخطوط الضوئية وقد غيّرت مواقعها متزحزحة نحو الأحمر. صاغ «دوبلر» المعادلات الرّياضية التي تصف الظّاهرة (أي التّغير الظّاهري للتردّد بفعل الحركة). وبفضلها أصبحنا قادرين على معرفة خصائص حركة جسم يصدر عنه إشعاع مثل سرعته والمسافة التي تفصله عنّا، وهل يقترب منّا أم يبتعد عنا وهو ما يمثل فتحا عظيما للعلم سيستثمره علماء الفلك خير استثمار.
 المادة و الإشعاع
يخفي التّنوع الهائل للأجسام المادّيـــة التي تكوّن البناء الكوني حقيقة جوهريّة تتمثّل في وجود مجموعـــة محدّدة من الأحجار الأساسيّة يسمّى كل واحد منها «ذرّة». يوجد في الطّبيعة حوالـــي مائة «ذرّة» مستقــــرة. من الـــذّراة ذات الشّهرة والصيت نذكر مثلا «ذرة الكربون» التي من دونها ليس هناك مادّة حيّة ولا حياة و« ذرة الهيدروجين» التي تنتشر في الكون بنسبة عالية جـــدّا قياسا بالذرّات الأخرى التي لا تمثّل إلاّ نسبة ضئيلة لا تكاد تذكـــر رغم حضورها الحاســـم في بيئتنا الأرضيّة مثل «الأكسجين» و«الحديد». 
أثبتت التّجارب التي أجريت في بداية القرن العشرين أنّ الذرّة تتكوّن من نواة ذات شحنة موجبة تدور حولها في مدارات جسيمات سالبة الشّحنة وأصغر منها بكثير تسمّى «الكترونــات». تولّدت عن تلك النّتيجة معضلة لم يكن بالمقدور حلّها في إطار المفاهيم الفيزيائية التقليديّة السّائـــدة. فالالكترونات عندما تدور في مداراتها لا بدّ أن تشعّ الطّاقة ومــع الوقت لا بدّ من أن تقلّ طاقتهـــا الحركيّة ممّــا يؤدّي بهــا إلى السّقوط في النّواة وهو ما يتعارض مع الواقع. وقد وُجد حلّ لتلك المعضلة في نموذج العالم «بور» للذّرة.اشتهر  «نيلس هنريك دافيد بور» (1885 – 1962) بنموذجه للذّرة الذي يصوّرها كالنّظام الشّمسي حيث تحتلّ النّواة المركز مثل الشّمس وتدور الكهارب حولها مثل الكواكب. 
في هذا النموذج والذي اقترح في البداية لذرّة الهيدروجين (نواة ذات جسيم موجب يسمى «بروتون» و كهرب يدور حولها) لا يمكن للكهارب أن تكون إلاّ على مسافة معيّنة من النّواة وفي حالة مستقرّة من الطّاقة أي لا تشعّ وإنّه إذا غيّر كهرب موقعه فلا يكون ذلك إلاّ بالقفز من مدار إلى آخر إمّا بالاقتراب من البروتون و إطلاق كميّة محدّدة (فوتون) من الطّاقة في شكل إشعاع أو بالابتعاد عن البروتون إذا توفّرت له طاقة من مصدر خارجي يثير الذّرة.
 وبالاعتماد على تلك النموذج وقع تفسير طيف الامتصاص وطيف البثّ لذرة الهيدروجين وهو ما جعله يحظى بالقبول من طرف العلماء.
فطيف الذرّة المتقطّع (الخطي) يدلّ بوضوح أن الأشعّة التي تخرج من الذرّة أو التي تستهلكها لها قيم محدّدة ممّا يعني أنّ الطّاقة تلك تتمثل في إشعاعات ذات أطوال موجيّة محدّدة ممّا يفسّر مواقع الخطوط في الطّيف الذري. ومن النتائج المهمّة التي توصل إليها العلماء من دراسة التفاعل بين المادة والأشعة هو تلك العلاقة الحسابية التي تربط طاقة الشّعاع أي حرارته بطول موجته وهي علاقة هامّة جدّا في مجال علم الفلك كما سيتبين لاحقا.
و نختم هذا الجزء المخصص للضوء بالرسم البياني التالي و فيه أهم الخصائص التي تتميز بها الإشعاعات الكهرمغنطيسية. في أسفل الرّسم محرار يحدّد درجة حرارة الجسم المشعّ وفوقه مباشرة تردّد الإشعاع الصّادر منه بوحدة الهرتز (عدد الاهتزازات في الثّانية). ثم مثال لكلّ مجال من مجالات أطوال الأمواج يبدأ من الذّرة ليصل إلى ناطحات السّحاب مرورا بالإنسان والتي نجدها في الطّيف الكهرمغنطيسي. أمّا في الأعلى فنرى ما هي الأمواج القادرة على اختراق الغلاف الغازي للأرض والتي لا يمكنها الوصول إلينا.    
------
- أستاذ بالجامعة التونسية
ghorbel_nabil@yahoo.fr