فلسطين بوصلتنا

بقلم
مصطفى يوسف اللدّاوي
إسرائيل تحضر الحفلة وتشارك في تقسيم الكعكة
 بوقاحةٍ وغير خجلٍ، وسفالةٍ وقلة أدبٍ، يرتفع الصوت الإسرائيلي انتصاراً للإنسان العربي المعرض للقصف والمــــوت، وكأنهم يقفون معـــه، وينتصرون لحياته، ويؤيدون مطالبه، ويحزنهم ما أصابــــه وما لحق به، ولا يرضيهـــم ما ينزل به من محنٍ ومصائب، في الوقت الذي لا تتوقف طائراتهم عن الإغارة، وصواريخهم عن القصف، ولا تهـــدأ عملياتهم الأمنيــــة اليوميــــة، وعمليات المداهمـــة والاعتقال، وكأنهــــم في فلسطين رحماء، ومع المواطن الفلسطينـــي كرمـــاء وعـــدول، وطيبون وصادقون ومخلصون، ولا يظلمون ولا يعتـــدون، ولا يقتلـــون ولا يغــــدرون، وكأنهم هم المثال الأفضل، والنظام الأنسب، وعلى الآخريــــن أن يحذوا حذوهم، وأن يكونــــوا مثلهم ويتعلموا منهم.
إسرائيل ليست غائبة عما يجري في المنطقة العربية، فهي حاضرةٌ تتابع وتراقب، وليست بريئة مما ينفذ فيها ويخطط، فهي إن لم تكن تنفذ جرائمها بيديها، فإنها توكل إلى عملائها وزبائنها القيام بما تريد، وتنفيذ ما ترغب، وتحقيق ما تصبو إليه وتأمل، وما تدمير بلادنا، وخراب أوطاننا، وشتات شعوبنا، وتمزيق أمتنا، وضياع مستقبلنا إلا أحلاماً يهودية، وأمنياتٍ صهيونية، عملوا من أجلها طويلاً، ودفعوا في سبيلها كثيراً، وتآمروا مع الكون كله لتكون، إذ أن فيها بقاءهم، وفي تحقيقها أمنهم وسلامتهم، وعكسها خطرٌ عليهم، وتهديدٌ لمصالحهم، وتعريضٌ لأمن ومستقبل وجودهم، ولهذا فإنهم لا يغيبون عن الساحة، ولا يتأخرون عن المساهمة، ويتدخلون حيث يرون لهم نفعاً، وينسحبون عندما يعتقدون أن انسحابهم خيرٌ لهم وأفضل.
بلغ الأمر في الإسرائيليين، حكومةً وجيشاً، ومثقفين وإعلاميين، وقاحةً عجيبة، وصفاقةً غريبة، وتدخلاً سافراً وصريحــاً في شؤوننا العربية، إذ بات لهم رأيٌ فيما يجري ويحدث، وكأنهم أشقاء وإخوان، وأصدقاءٌ وجيــــران، ولهم الحق في أن يكون لهم دورٌ ورأي، ونصحٌ ومشورةٌ، وهو ما بات يمارسه الإسرائيليون جميعاً، العامـــة قبل الخاصة، في الشارع وعبر وسائل الإعلام، وفي الندوات والمؤتمـــرات، وفي الحوارات العامة وعلى صفحات الجرائد، وكأنهم ليسوا مجرميــــن، ولم يسبق لهـــم أن قصفوا وقتلوا، واحتلوا وطردوا، وصادروا ودنسوا، وارتكبوا أشد الجرائم وأخطر الانتهاكات، فيبدون وكأنهم حكماء وعقلاء، وإنسانيون وحضاريون، يدعون إلى العدل، ويرفضون الظلم، ولا يقبلون بالصمت إزاء الجريمة، ولا بالسكوت عن قول الحق لأنه فضيلة.
إنهم يتحدثون عن حقوق الإنسان، وأن الإنسان العربي مهدور الكرامة، ومحرومٌ من الحقوق، وأن حياته مستباحه، وممتلكاته منهوبة، ومقدساته غير مصانة، وأنّه يتعرض للموت الرّخيص بلا ثمن، ويقتل بالعشرات والمئات دون مساءلة ولا محاسبة، وأنه يقصف بلا رحمة، وتلقى فوق رؤوسه الحمم والمتفجرات، التي تقتل بلا تمييز، وتدمر بوحشيةٍ، ويعيبون على العالم صمته وسكوته، ويحرضونه على التدخل في الوقت الذي يرونه مناسباً، ليكون للعالم دورٌ في حماية المواطن العربي، والانتصار لكرامته، والحفاظ على حياته، وعدم السماح للقوى المتصارعة بالاعتداء عليه وقتله.
بل إنهم يطالبون بتغيير أسماء الكيانات العربية، وشطب القواسم المشتركة بين سكانها، وإعادة تشكيلها من جديد، والاعتماد في التقسيم على معايير جديدة، تأخذ بعين الاعتبار مصالحهم ومنافعهم، وتراعي أمنهم وسلامة كيانهم، وهذا لا يكون بزعمهم في ظل دولةٍ عربيةٍ واحدةٍ، تجمع بين حدودها كل الأقليات والإثنيات والأديان، ليكونوا جنباً إلى جنب مع الأغلبية العربية السنية، إذ أن هذه الدولة برأيهم قد أثبتت فشلها، وتسببت في إلحاق أضرارٍ فادحة بمكونات شعوبها، ولم تتمكن من الحفاظ على موروثات التاريخ العرقية والإثنية.
للأسف فإن الكيان الصهيوني يشعر بغير قليلٍ من الراحة والطمأنينة، وبالكثير من الثقة والاعتداد بالنفس، ولا يبدو عليه الرعب ولا الخوف، ولا يسكنه القلق وهواجس الخطر الذي اعتاد أن يسيطـــر عليه على مدى العقود الستة التي مضت، التي صبغت حياته بالخوف والحيطة والحذر، وجعلته دائماً في أعلى درجات الاستعداد والجاهزية، ولكنه الآن يشعر بأنه قد تجـــاوز التحديات، وتحـــدى الصعاب، وسقطت من أمامه الجيوش التي كانت تخيفه، والقوى التي اعتادت أن تهدده، ولم يعد أمامه ما يعتقد بأنه يهدد وجوده، ويستهدف بقاءه، ويعرض هويته للشطب، ومواطنيه للخطر، ومستقبل كيانه للزوال.
هو ربما يشعر بالكثير من الشماتـــة في أنظمةٍ هدّدت أمنه، واستهدفت استقرار كيانه، وألحقت الضّرر بمواطنيه وسكانـــه، وأشغلت جيشه ومؤسساته، وأربكت سنواتٍ طويلةً مخطّطاته ومشاريعـــــه، عندما رعت المقاومـــة واحتضنتها، وآوتهــــا واستضافتها، وزودتها بالسّلاح ومكّنتها من التّدريب والتّنظيـــم، ومنحتها مكاتب ومقرّاتٍ، وقواعد ومعسكراتٍ، ودعّمت مواقفهـــا وعزّزت شعاراتها، وتمسّكت بالأهداف الفلسطينيّة والثّوابت العربيّة، وطالبت باستعادة الحقـــوق وتحرير الأرض وطرد المحتل، الأمر الذي مكَّن للمقاومـــة في المنطقة، وأرسى قواعدها عميقاً في الأرض، وسهّل لها التّمدد والانتشار، والتّوسع والتّأثير، ورفع صوتها عالياً، ومكّنها من الحضور والمشاركة، والتّمثيل وفرض الرّأي.
الإسرائيليون يتطلّعــون لأن يكون لهم مما يحدث نصيبٌ وأجــر، وحصةٌ كبيرة تليق بصمتهم، وتستحق حيادهم، فهم يدّعون أنّهم لم يتدخّلوا مع فريقٍ ضــــدّ آخر، ولم يناصروا طرفاً، ولم يكن لهم على الأرض فريـــقٌ يمثّلهم، ويقاتل نيابـــةً عنهم، لذا فإنّهم ينتظرون أن تكون لهم من الكعكـــة العربيّة التي بات تقسيمهـــا لزامـــاً وواجباً حصّةً كبيرة، بل إنّهم يتطلّعون أن يقوموا هم بالتّقسيم والتّوزيع، فهم أدرى بالمنطقة ومصالحها، وأعلم بشؤونها وما يخدمها، فلماذا لا يكونون هم الذين يحملون سكّين التّقسيم وقلم الحدود.
ألا يدرك العرب أنهم يخدمون عدّوهم، وأنّهم يمكّنون له في الأرض، وأنّهم يؤدّون عنه الدّور بالنّيابة، وأنـّــه يستخدمهم لمصالحـــه، ويسخرهم لخدمته، وأنّ ما يجــــري في المنطقة العربيــــّة لن يخدم أحداً غير الإسرائيلييــــن وحلفائـــه، وأنّ المتضرّر من كلّ ما يجري هم شعوبنـــا وأوطاننـــا وخيراتنـــا، فلنفق ونستيقظ، ولنعد إلى حكمتنا وعقلنا، ولنحمِ أنفسنا ومستقبلنا، وأبناءنا وأجيالنــــا، وليتنازل لبعضنا لنحمــــيَ ما بقي من إرثنا، وإلا فلا نحلم بعد اليـــوم بوطنٍ واحدٍ، ولا بأمةٍ عربيةٍ موحدةٍ، وإن كانت ذات رسالةٍ خالدة.
------
- كاتب فلسطيني 
moustafa.leddawi@gmail.com