نقاط على الحروف

بقلم
لسعد الماجري
حفريات في إبليس
 وأنا أطالع بعض الكتب الدّينية التي تتحدّث عن «ابليس» والتي تخاطب المسلم المعاصر وتنبّهه إلى الخطر الذي يحيط به من كل الجوانب، تبادر إلى ذهني البسيط مدى الدّور الكبير الذي يسقطه الفكر الإسلامي القديم على «الشّيطان الرجيم». هذا الكائن الذي تتفاوت الكتابات القديمة، وبعضها جديد قديم، في تفسيره وبيان أخطاره فهو كائن ذو خصائص عديدة متعدّدة :
• إنّه عدوّ للاٍنسان وذلك نفهمه منذ الوهلة الأولى عند قرائتنا لكتاب الله. اٍذ أنّه حسب التّقديم الاٍلهي، كائن عنيد تحدّى الله في حضرته برفضه السّجود للاٍنسان عند لحظة خلقه. وأبى هذا الكائن العنيد الإبليسي أن يحترم خلق الله وبدعته بأن يسجد لهذا الكائن الجديد الوليد الذي بشّر به الله. وبذلك سطّر منذ اللّحظات الأولى للخلق الاٍنساني عداوته للاٍنسان وطغى في الحضرة الرّبانية.
• نتيجة رفض «إبليس» السّجود لما خلق الله بيديه من طين وبما وضع من أسراره في الكائن الإنساني، فإنّ الله قد أطرده من رحمته ولعنه بدون رجعة. وبذلك أصبح هذا الكائن العجيب «ابليس» لعينا أي مطرودا مغضوبا عليه. وغضب الله في هذه الحادثة هو عبارة عن غضب أبدي. فلا ترجى رحمته لاٍبليس من بعد ذلك مع أنّه الرّحمان الرّحيم ولا يرجى عفوه وهو العفوّ الغفور.
• أنّ الشيطان كائن من الجنّ فسق عن أمر ربّه وليس كائنا من الملائكة، أي أنّه كائن ناري وليس كائنا نورانيّا، فهو مخلوق من نار والملائكة خلقوا من نور. والفرق كبير بين النّار والنّور رغم ما لهذه العناصر من أصول مشتركة كيميائيّا وفيزيائيّا. وبذلك يمكننا أن نفهم مدى دينامكيّته وحركته الغير محسوبة والاٍندفاعيّة. فهو حركي ذو طاقة كبيرة. هذه الطّاقة الغير منظّمة والغير منسجمة جعلته يجدّف خارج الأطر الرّبانية للعبوديّة حتّى أنّه عصى الله في حضرته. فليتخيّل أحد منّا أنّ تلميذا مهما كان نجيبا في قسمه ودراسته وكان مفضّلا من أستاذه، يتجاوز حدود اللّياقة وعلاقة الطّاعة لأستاذه الكريم ويخرج عن الأدب في حضرته. فماذا سيكون موقف الأستاذ منه بحضور التلاميذ الآخرين؟ 
سيكون !!! الموقف صعبا لا محالة. والشيطان قد أقلّ أدبه في حضرة الله ربّ الأكوان.
• أنّ هذا الشيطان غالى في قلّة أدبه في حضرة الله وأنّ الله خاطبه مباشرة دون وسائط وأمره بالسّجود لآدم، فلم يأتمر بأمره بل ذهب إلى حدّ الشّطط بينما ناقش الملائكة الحالة بشيء من النّسبية فقالوا «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ»(1).
حاور الملائكــــة الكبيـــــر المتعــــال، الله لا اٍله اٍلاّ هو – حوارا مسموحا – حوارا شفّافا فيه نوع من الخضوع والذلّة للّه، وانتهوا بأن أطاعوا بالسّجود للإنسان بعد ما بيّن لهم الله أنّـــه يعلم ما لا يعلمون- كانت القيمــة المطلقة لعلم الله تسود فوق القيمة النّسبية لعلمهم هم – فماذا يعلمون أمام علم العليم الحكيم – وماذا يفقهون أمام المدبّر الحكيم...
• اٍذن تجاوز الملائكة سريعا حيرتهم وانصهروا في الخطّية العامّة للطّاعة التي جبلوا عليها. فهم عبارة عن مجموعة من الأنساق «systèmes» النورانيّة الأوتوماتيكية التي لا تعصى الله وإنّما تعمل ضمن السّياق العام الذي أراده الله لها- لا تحيد قيد أنملة عن «لوغاريتمياتها-Algorithmes» التي جبلها الله عليها.
• في كل هذا السّياق ظهر إبليس ككائن فرداني متوثّب للعصيان الأعمى. كان ابليس مظهرا واضحا لاٍرادة التميّز عن الكائنات الطائعة- ووجها نافرا عن «لوغاريتم» الخضوع والانصياع للنّسق الاٍلاهي العام.
• كان يتضّح بما لا يدع مجالا للشكّ أن إبليس له نفس وله هوى لا يحيد عنهما- فنواته تلبست عليه «Noyau Diable» وطغت عليه شقوته كما قال السيد علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه. اٍنّ إبليس أبى واستكبر : أبت ذاته واستكبرت صفاته، فأراد أن يعتزّ بذاته خارج إرادة الله فطغى وهذا درس لن ننساه...
• إذن انصهرت الملائكة في الإرادة الربانيّة المبدعة التي تدبــّر وتقول للشـــيء كن فيكون، فطاعت وانسجمــت مع الإرادة العليّـــة. وأراد إبليس حسب فردا نيتــه وعجبـــه فطغى وخرج ونأى بذاته المتكبّرة بعيـــدا عن مجمل الأهداف الاٍلهية. فعصى وطرد بدون عودة.
• إلا أنّ الحكمة الاٍلاهية أرادت أيضا وهذا لا يتناقض في شيء مع «الايبيلوق» الرّباني «Epilogue» أن يكون للشّيطان الرّجيم دور أساسي في كوننا الإنساني هذا. وبالذّات في سمائنا وأرضنا : ففي السّماء قال كلمته في حضرة الرّب وأصدر موقفه وأصرّ اٍصرارا عنيدا. ثم اٍنّه طلب من الله بعد طرده أن يكون له حظّه في الإنسان أي أن يكون له سلطان عليه في الأرض – وأجابه الله إلى مطلبه بأن :
* جعله من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم : أي أنّه طلب من الله أن يؤجّل عقابه الأبدي وأن ينظره إلى قيام السّاعة حتى يتسنّى له أن يلعب دوره السلبي في الإحاطة بالإنسان من كلّ جانب وأن ينجح في إغواء البشر ولكن استثنى الله من العمليّة الاٍغوائية المخلصين من عباده.
* أنظره الله إلى يوم القيامة وأسبغ عليه من نعمه فهو يعيش بين ظهرانينا يأكل ويشرب وينام، أي له نعمة الخلق والرّزق. عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عز وجل عند دخوله ، وعند طعامه، قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء. وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله ، قال الشيطان : أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه ، قال : أدركتم المبيت والعشاء» (2)
* أعطاه الله إمكانية التزايد الديمغرافي إذ وعده بأن يكون له نفر على كلّ نفس بشريّة تولد في أرضنا كي يتسنّى له لعب دوره الاٍبليسي على أحسن وجه وليكون الاٍمتحان الأرضي امتحانا حقيقيّا للإنسان جدير بأن يجتاز وليستحق الإنسان فيما بعد الجزاء.   
* أعطاه الله إمكانية إغواء آدم وحوّاء في الجنّة التي كانا فيها مستقرّين ناعمين- فنجح في مهمّته الأولى بأن حبّب لآدم الأكل من تلكم الشّجرة التي نهيا عنها – وألمح اٍليه بأنّها شجرة الخلود في الجنّة وأن الله لم يرد له الخلود فيها. «ونسي آدم ولم نجد له عزما»(تعبير قرآني). وهذا درس آخر لن ننساه أيضا. 
•  إنّ إبليس حسب المصادر من قرآن وسنّة عدوّ للإنسان، وهذه النقطة جديرة بالتمعّن والفهم الدقيق – أيّها الاٍنسان اٍذا أردت أن تفهم حيثيات وجودك الأرضي وأن تمرّ من ذلك إلى مواقف أكثر اٍجرائية، عليك أن تبدأ أوّلا بفهم عدوّك ثم من بعد ذلك فهم نفسك.
• إنّ إبليس والإنسان عدوّان لبعضهما البعض، أراد الله جلّت قدرته وحكمته والمعاني التي أرادها أن تسود في هذه الأرض أن تكون ضمن علاقة جدليّة وضمن ثنائية إبليس والاٍنسان أي ثنائية الشّر والخير.
• أنّ إبليس ليس عدوّا لله وإنّما عدوّ للإنسان. فالعدوّ يؤخذ ضمن علاقة ندّية فهي علاقة تناظرية وليست علاقة اٍبليس بالله علاقة الندّ للندّ. فلنقلع نهائيا عن هذا الخطأ الفهمي والأنطولوجي، الله خلق الإنسان وخلق إبليس والخالق ليس كالمخلوق، إنّما العلاقة بين الله و إبليس هي علاقة عصيان وتعّنت ولن يخرج إبليس أبدا عن انطولوجيا الكون برمّته والله واضع الكون وخالق الزّمان والمكان الأنطولوجيّين وإبليس لن ولم يخرج عن هذا الاٍطار وهو يعيش تحت رحمة الله وضمن نعم الله الكثيرة.
• العلاقة الأساسيّة أي الاستراتيجيّة بين إبليس والاٍنسان علاقة عدائيّة وعلاقة كراهيّة من جانب الشّيطان، فلم ولن يحيد عن الإحاطة بهذا الإنسان بغية إغراقه في أحابيله والنّيل منه وحرمانه من الجنّة ومن السّعادة – الإلقاء به بقوّة في بئر العذاب الاٍلاهي والشقاء الأبدي مثله ومثل ما وعد به.  
• ولقد نجح إبليس نجاحات كبرى ضمن التّاريخ الإنساني :
1. إٍنّ أوّل نجاحاته في إلقاء آدم وحوّاء في الامتحان الأرضي: «اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْ‌ضِ مُسْتَقَرٌّ‌ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ»(3)
«فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ»(4)
«وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا* قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىٰ» (5)
2. إذن جوهر الاٍمتحان الأرضي هو تلكم العلاقة الإستراتيجيّة العدائيّة بين الشيطان والإنسان ولنا أن نفهم ذلك بحزم وجدّية. إذن كفانا من الحديث فيما للّشيطان علينا من سلطان فيمكن اعتباره كائنا ضدّيا عدائيا وكفى.
3. إلاّ أنّ المصادر القرآنية ذاتها تنبّهنا إلى شيء آخر لا يقلّ أهمّية عن إبليس في تأثيره وعن الشيطان في ترنيمه ألا إنها النّفس البشريّة الأمّارة بالسّوء. إن الإشكال الحقيقي الذي وجب أن ننتبه إليه هو المبالغة والشّطط في تضخيم الدّور الاٍبليسي ونسيان الدّور النّفسي والبراسيكولوجي.  نعم لإبليس حظّ فينا هذا لا ينكره الفهم الإسلامي المتقدّم والمعاصر وإنّما المبالغة في ذلك في الكتابات الإسلاميّة وإلقاء نفايات السّلوك الإنساني الرّديء على إبليس وحده هو من إعاقات هذا الفكر الإسلامي ومن الأخطاء الفادحة.  علينا إذن في فكرنا الإسلامي المعاصر التركيز على هذه النقطة الهامّة.
4. يجب علينا إذن في وقتنا الراهن رسم الحدود التأثيرية بين الفعل الابليسي والفعل الإنساني الخام. فرسم هذه الحدود حريّ به أن يعيد الإنسان إلى مجال الفعل الحقيقي وأن يستعيد ثقته في حرّية فعله والسّيطرة على الحقل الإجرائي المناط بعهدته بعيدا عن إلصاق نتائج أفعاله وأقواله وسلوكياته عموما بالشّيطان الرّجيم. وإنما اعترافا ضمنيا بأن إبليس اللعين له إمكانية المحاولة فقط وذلك بالنّسبة لأولئك اللذين جعلوا له حظا في أنفسهم أي أولئك اللّذين فيهم ضعف معين (Une faiblesse / Vulnérabilité) فالفيروس في ميدان المعلوماتية لا يمكنه مثلا مهاجمة نظام معلوماتي محصّن ومحيّن ضدّه. لأنّ إبليس لا يهاجم القلاع المحصّنة وإنّما تلكم التي تشتكي من ضعف أو هشاشة معيّنة في الأنفس والقلوب والعقول.  
الهوامش
(1) سورة البقرة الآية 30
(2) رواه مسلم في صحيحه عدد الحديث 5262.
(3) سورة الأعراف الآية 24
(4) سورة طه الآية 123
(5) سورة طه الآية 124-125
-------
أستاذ جامعي في الاٍعلامية الصناعية
وتواصل الاٍنسان والآلة
mejrilassad@yahoo.fr