قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
الدرس السوري
 تتدفّق أعداد اللاّجئين السّوريون إلى أوروبّا و يزداد عددهم  كلّ يوم وهم يريدون فرصة للعمل والاستقرار في بلادها الغنيّة وخاصة ألمانيا وهم لايصلون إليها إلاّ بعد معاناة يهلك فيها من يهلك وينجو فيها من ينجو، وهذه الموجة من الهجرة لن تكون إلاّ فصلا آخر من فصول مأساة المفصولين من أوطانهم بفعل الحروب التي تحصد آلاف البشر وتهدم أوطانا بكاملها.
يهاجر السّوريون هذه المرّة إلى القارّة العجوز ويقتحمونها اقتحاما ولكنّهم ليسوا حديثي عهد بالهجرة والتّهجير، فهم بالآلاف في تركيا وفي الأردن وفي لبنان، يعيشون حياة المعدمين اللذين يتسوّلون الصّدقات وتغلق أمامهم كلّ أبواب الحياة الكريمة، ويكفي أن يعيش المرء في خيمة ضيّقة هو وكل أفراد أسرته  صيفا وشتاء حتّى تنزع منه آدميته ويتحوّل إلي كتلة من اللّحم التي لا فائدة منها.
دفع السّوريون دفعا للهجرة من وطنهم في أعقاب تحوّل ثورتهم من السّلمية إلى السّلاح والاقتتال الذي لا يبقي ولا يذر والذي أتى على مدن بأكملها وحوّلها إلى مدن أشباح وأنّى لإنسان أن يعيش وسط القصف والحمم. هاجروا إلى كل الأمكنة المتاحة ولم يكن عندهم الوقت للتّمييز بين مكان وآخر، المهم بالنّسبة لهم هو الفرارإلى أقرب مكان لا تطاله ألسنة اللّهب. ولقد أتيح لي شخصيّا أن أشاهد برنامجا تلفزيونيّا عن معاناة السّوريين في لبنان وحجم التآمر عليهم من أكثر من طرف في بلد هاجسه الأسمى الحفاظ على التّوازن الديمغرافي وهو البلد نفسه الذي يتآمر بعضه مع نظام البعث على بعض ويتدخّل بعضه علنا في القتال إلى جانب النّظام لأسباب طائفيّة وأخرى سياسيّة ويكفي لتوصيف حجم المأساة أن نعرف أنّ فرص العمل في لبنان تكاد تكون منعدمة بالنّسبة لهؤلاء السّوريين في معظم الأعمال وكذلك الشّأن بالنّسبة للتّعليم والطبابة وغيرها من الحاجات الأساسيّة التي لا غني للإنسان عنها.
وصل السّوريون هذه المرّة إلى أوروبا مطالبين بحقوقهم في الأمان والعيش الكريم وهم يعبّرون هذه المرّة عن رغبة حقيقيّة في إفهام الغرب حقيقة مأساتهم ووضعه أمام مسؤولياته التّاريخية في البحث عن حلّ ليس لهؤلاء المهاجرين فقط وإنّما لكلّ الشّعب السّوري الذي تزداد مأساته تفاقما مع كل صبح جديد. ومن ثمّ فقد صار من واجب الغرب الالتفات أخيرا إلى معاناة شعب لم يعد يستطيع البقاء في وضعه الحالي ويحتاج الى حلّ سريع يوقف القتال الدّائر على أرضه بعد أن فشلت كلّ محاولات بيعه للنّظام بداعي الخوف من تحوّل سوريا إلى بؤرة للإرهاب الإسلامي أو بداعي الخوف على أمن الكيان الصّهيوني خلافا لما يروّج له المعطوبون من موالي البعث والقوميّون وغيرهم ممّن مازالوا يراهنون على نظام الصّمود والتّصدي في دمشق، فهل سينتبه الغرب أخيرا إلى هذه المأساة التي لا مثيل لها أم سيواصل دسّ رأسه في التّراب و البحث في دهاليز المناورات عن مناورة جديدة.؟
إنّ الغرب بما هو قوة تحكّم مادي وبما يملكه من مقومات التّدخل في القرار الدولي لم يشأ أبدا أن ينتبه لحجم المأساة التي عاناها الشّعب السّوري في السّنوات الماضية، وقد كان يدّعي باستمرار إدانته لما قام ويقوم به النّظام السّوري في حقّ شعبه ولكن هذه الإدانة لم تتحّول أبدا إلى قرار بتخليص الشّعب السّوري من قاتليه، بل إنّنا نكاد نجزم بتواطؤ الغرب مع إيران وروسيا وغيرهم في إطالة أمد الحرب والدفع بالبلد كلّه إلى الانهيار، إذ لم يلتفت أبدا إلى الأعداد المتزايدة من المهاجرين السّوريين اللّذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وهدّمت بيعهم وصوامعهم وألقيت على رؤوسهم آلاف البراميل المتفجّرة والقنابل الحارقة والغازات القاتلة ليكون مصيرهم في النّهاية أحد أمرين إمّا الموت في الدّاخل وإمّا الامتهان في الخارج.
الآن بلغ السّيل الزّبي وليس هذا الزّبي سوى أوروبا المتنعّمة في خيرات العالم ولن تتوقّف أعداد المتدفّقين عليها بين يوم وليلة، وحتى إن توقّفت فليس قبل أن يصل الإنذار كاملا والرسالة جامعة بأنّ ما تقترفه أيادي الغرب وما اقترفته في الماضي سوف يكون له ما بعده وسوف يدفع ثمنه عاجلا وآجلا. 
سقطت سوريا فريسة للاقتتال فأنتجت مأساة نرى الأن واحدا من فصولها، وإذا استمر الأمر على ما هو عليه في مصر المحروسة من الدّيمقراطية ومن الحق في المشاركة والتعبير وتقرير المصير وتوزيع الثّروة بالعدل على الجميع بواسطة النظام الانقلابي المدعوم كليّا من الغرب، فسوف نشهد فصلا آخر من فصول الدّمار أين منه الفصل السّوري وموجة أخرى من الهجرة ومن التّهجير لا تقارن بما حدث ويحدث في سوريا. قس على ذلك ليبيا وتونس وغيرها من البلدان التي تاق أهلها إلى الحرية والكرامة فهل تنتبه أوروبا وأمريكا وما يسمّى بالعالم الحرّ إلى الدّرس أم أنّها ستواصل التآمر على ثروات و ثروات الشعوب؟