في العمق

بقلم
محمد الصالح ضاوي
نحن والديمقراطية
 يبدو المشهد العربي الاسلامي متأزما على المستوى الواقعي والمعرفي، على الصعيد السّياسي بالخصوص، حيث نعيش فراغا عميقا، بين فكر سياسي تقليدي لم يعد يترجم وقائع عصرنا ولا يستجيب إلى تطلعات شعوبنا، وفكر سياسي عصري، فرض علينا أنماطا وأنساقا وآليات حديثة، تعتبر زبدة الابداع الانساني في مادة السّياسة. نحن، إذن، نتأرجح بين هذين الزّمنين: زمن رجعي وزمن عصري، فلا نحن تخلّصنا من عقدة الماضي وترسّباتها، ولا استوعبنا لحظتنا التّاريخية الحديثة، بشروطها ونواميسها.
المشاركة والمحاسبة
ولعلّ الدّيمقراطية من بين المسائل السّياسية التي ينطبق عليها مثل هذا المدخل، حيث لا نزال في صراع مع أنفسنا من أجل تقبّلها، وإن كان شقّ كبير من مجتمعنا يرفضها، لا لسبب، إلاّ لعدم انسجامه عقليّا معها... حيث تتمّ نشأتنا في سياق متناقض مع جوهر الدّيمقراطية، الذي يتلخّص في: المشاركة والمحاسبة. ونظرة فاحصة لأساليب تربيتنا للنشء، تبرز المسافة التي تبعدنا عن مبدأ المشاركة في حياتنا العامّة، وتبرز مدى حساسيتنا لأيّ آلية محاسبة في سلوكنا.
ولقد عانت الدّيمقراطية عندنا، في مجتمعاتنا الإسلاميّة، من عقدة أصلها ولغتها الأولى، حيث كان انتسابها لليونان، كما شاع في الأدبيات الفلسفية، أثره عندنا في لفظها ومقتها ونكرانها، وكأنها منتج من منتجاة الآلهة الكافرة. وهذا النقد الأعوج الأعرج للدّيمقراطية، سببه نفسي وليس معرفي. فليس هناك اتّفاق بين الفلاسفة والمفكّرين عن الدّيمقراطية، وليس هناك كتاب مرجع عنها، ولا يزال الجدل حول موضوعاتها بين النّاس، إن على مستوى النظري، أو على المستوى التطبيقي. فالدّيمقراطية، معطى متطوّر، خاضع لتراكمات التّجارب الإنسانية، مصبوغ بصبغة الثّقافات المحليّة، متفاعل مع هويات الشّعوب التي تتبناه.
فحين نتجاوز مبادئ الدّيمقراطية: المشاركة والمحاسبة، فإنّ كلّ التّفاصيل الآتية تصبح محلّ جدال ونقاش وتفاوض. وتصبح مشكلاتها أكثر من حلولها، ويصبح استخراج نسخة محليّة منها، الشّغل الشّاغل للمسؤولين عن التّطبيقات والتّنفيذ. وهنا، تتدخّل القوى المحلّية، بمستوياتها المتعدّدة، لتؤمّن نسخة من الدّيمقراطية، تضمن لها الاستمرار في السّلطة لفترة أكبر، مع أقلّ ما يمكن من عوائق المراقبة والمحاسبة. فتصبح القضيّة إذن، توازن القوى ومدى تمثيليتها وسلطاتها وتفاصيل العلاقة بينها.... بعيدا عن جوهر المسألة الدّيمقراطية التي لا نختلف عنها.
كلّ من ينكر الدّيمقراطية، له مصالح ونوايا في ذلك... وكلّ من يقبل بها أيضا... ومعركة الدّيمقراطية يمكن أن تتلخّص في النّقاط التالية:
أولا: معركة ضدّ أهل السّلطة الاستبدادية الذين يخافون الخروج من الحكم ويخشون المحاسبة.
ثانيا: معركة ضدّ أهل المصالح الاجتماعيّة والاقتصاديّة وفسادهم.
ثالثا: معركة ضدّ المبسطين للحلّ الدّيمقراطي، العاجزين عن توقّع المشاكل وايجاد الحلول.
رابعاّ: معركة ضدّ المدجّنين للمسألة الدّيمقراطية، بجعلها مظهرا سطحيّا، يخفي فسادهم، ويجعل الشّعب ينفر منها. 
خامسا: معركة ضدّ التّدخل الأجنبي الذي يستغلّ هشاشة الدّيمقراطية وضعف كيانها، ليتسلّل منها، صانعا طابورا خامسا يعمل في الشّارع الخلفي.
أشرار الديمقراطية
من المهم التأكيد، على أنّ الدّيمقراطية، تخلّصت من «خطيئتها اليونانية»، وأصبحت معطى عالمي كوني، تجاوز المحلّيات، وانتشر كالموضة الفنّية في القارّات الخمس، انتشارا سريعا، وأصبح مطلب الشّعوب حيثما كانت، تسعى إلى تتويج مساراتها الدّيمقراطية، بكرنفالات الانتخابات. ولا نشكّ أنّها منتج غربي، تطوّر هناك، مع الثّورة الصناعية، وتأثّر بالحروب العالميّة، والتّجارب الاجتماعية والاقتصادية الغربيّة..... والعالم اليوم في تسارع لاستقطاب آلياتها، والانتفاع بأنساقها، لارتباطها بالتّنمية الاقتصاديّة والرّفاه الاجتماعي، من جهة، وارتباطها بحلول أقلّ عنفا من جهة خرى... حتى أصبح الثنائي: «حقوق الإنسان والدّيمقراطية» الشّرطان الضّروريان للعصرنة والحداثة السّياسية، والتّعاون الاقتصادي والانخراط في العولمة.
ولعلّ أبشع أنواع الانحراف الذي يمكن أن يطال الدّيمقراطية، هو تمكّن الأشرار من العيش فيها ومن خلالها، بكل قواهم ومصالحهم، وتمكنهم من التسلط على تمفصلاتها ومظاهرها.... حيث يعيشون على تخومها، يتنعمون بفضلها، ويتقاسمون منجزاتها، بنفس العقلية والأخلاق المرضية.... كل هذا في اقتناص للحظة التاريخية، واغتصاب للشروط الاجتماعية والاقتصادية، خاصة في الديمقراطيات الناشئة. والنتيجة المخيبة للآمال، هي دفع الشعوب إلى نكران الديمقراطية، وربطها في أذهانهم بالفساد والاستبداد النّاعم، والفروقات الكبيرة.... فيدخل المسار السّياسي في عمليّة سير إلى الوراء، منتجا نظاما مستبدّا، وشعبا قابلا للاستبداد عن طواعية واختيار.
لا يمكن أن تبني نظاما ديمقراطيّا بلاعبين من النّظام القديم.... إنّه ببساطة: تبديل للدّيكور والأسماء، دون الولوج إلى عمق المسألة السّياسية: مسألة الحكم الرّشيد.... مثل ذلك، كمثل تمكين مجموعة من المجرمين ذوي السّوابق، من صياغة قانون يعاقب الجريمة... سيكون بلا شكّ مليء بالفراغات القانونيّة والحيل من أجل إدامة الجوّ الإجرامي بطرق قانونيّة.... كما لا يمكن إقصاء أهل الهامش والممثّلين القدامى للنّظام السياسي، وعدم تأهيلهم للمرحلة الجديدة.... إنّنا بكل بساطة بحاجة إلى إجراءات استثنائيّة ووقتيّة ومرحليّة، لنظام انتقالي ديمقراطي، يضمن التّأهل للمرحلة الجديدة، بأقلّ فاتورة ممكنة، وفي أسرع وقت...وهنا نؤكّد على البعد الأخلاقي للمسألة، وهو بعد مفقود في العلاقات السّياسية، عندنا في المنطقة العربيّة والاسلاميّة.... لقد تعوّدنا على أنّ «الانتفاع المباشر والسّريع» هو القاعدة التي تحرّكنا، وعليه، كلّ من لم يجد نفعا في الدّيمقراطية، ينقلب عليها، ويصبح يشدّ إلى الوراء، في حركة يأس وقنوط. 
المسألة الأخلاقية
إنّ الأطماع في الدّيمقراطية قد تكون أكثر من تلك في الاستبداد، نظرا لفتح باب الاشتراك على مصراعيه في النّظام الديمقراطي، ممّا يعطي أكثر الفرص، ويمنح أكثر الحظوظ لأفراد الشّعب ومكوّنات المجتمع.... وقد كتب أحد النّشطاء الاسلاميين على حسابه على تويتر، قائلا: «لو عرف جماعتي: الإسلاميّون معنى الدّيمقراطية لما تردّدوا في تبنّيها. إنهّا تعني اختيار الشّعب للحكم الذي يريده، فهل يعقل إلاّ أن يختاروا حكم الشّريعة»(1) إنّ هذا الوثوق غير الاعتيادي في نتيجة الاقتراع الدّيمقراطي، هو ترجمة أخلاقيّة ونفسيّة لصفة: الطّمع والشّره السّلطوي، المتمكّن في ذواتنا.... وهو خطر على المسار الدّيمقراطي في بلداننا.... لذلك أثبتت التّجارب الربيعيّة العربيّة، أنّ نتيجة الصّناديق ليست محدّدة للحكم، بل لا بدّ من توفّر شروط أخرى، تتغذى من البيئة والتّراث والتوازن الاجتماعي والمصالح والأخلاق...
لقد أصبحت الدّيمقراطية تحظى بشرعيّة عالميّة، تطلبها النّخب الوطنيّة، بنفس القدر الذي تفرضها قوى الغرب علينا... وكلّ يسعى إلى تحقيق غاياته ومصالحه... وبما أنّ النظام الدّيمقراطي لا يتّصف بالكمال، فإنّه يعتبر، بحسب التّجارب الحالية، أحسن نظام حكم بأقل الخسائر، وبأوسع مشاركة، وبأكثر فوائد تنمويّة واقتصاديّة. وهذه المسألة هامّة جدّا، لأنّه لا معنى للدّيمقراطية إذا لم يصاحبها ابتهاج شعبي بالرّفاهية الاجتماعيّة والاقتصاديّة. إن الشّعوب الدّيمقراطية أكثر إحساسا بالسّعادة من شعوب أخرى تحت أنظمة كليانيّة استبداديّة، دون أن ننفي وجود مشاكل حقيقيّة ترافق المسار الديمقراطي، ويتباطئ معها النّمو، ليسجل خيبات، وربّما صدمات خطيرة على الشّعوب السّائرة في الطّريق الديمقراطي.. لذلك كان لزاما علينا، التّخلي عن الأوهام والتّحلي بالصبر والشّجاعة، من أجل المرور إلى مرحلة ديمقراطية دائمة بأقلّ المخاطر والخسائر.... حيث المسألة تبدو جدّ أخلاقية، يغلّب بمقتضاها البعد الوطني عن الأبعاد الأخرى...
الهوامش
(1)  زولتان باران وروبرت موزر: هل الديمقراطية قابلة للتصدير؟ تعريب: جمال عبد الرحيم، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت لبنان، ط 1، أغسطس 2012، المقدمة بقلم عبد الرحمن الراشد ص12.
-----
- كاتب وصحفي تونسي مقيم في الجزائر
dhaoui66@gmail.com