وجهة نظر

بقلم
الهاشمي بن ابراهيم
التنمية البشرية... لماذا؟
 لقد قيل في ما مضى «فاقد الشيء لا يعطيه». فهل تتحقّق نهضة شاملة بمعزل عن أهداف تُرسم وعقول تتحرّر وهمم تتحفز ودربة على العمل الصالح المفيد واستغلال مجدي للوقت وطرق علمية في التخطيط و التنفيذ والتقييم والمراجعة؟. تلك هي مجالات عمل التنمية البشرية التي تبحث في تنمية شاملة تضع الإنسان مركزا لاهتمامها في كل مناحي الحياة بحيث تتحقق له السعادة المنشودة بناء على العلم والهدى وليس على الخرافة والزيف.
إنّ الواقع الجديد لبلادنــا يصرّح بأنّ الحاجة باتت متأكّــدة أكثر من أيّ وقــت مضى إلى اعتبار التّنمية البشريّــة رافدا أساسيّا لتنمية مستدامة وواعية في بلاد عاش فيها الفرد ومن ورائه المجتمع تهميشـــا رهيبــا أدّى إلى انكفـــاءه على ذاتـــه وإلى شلل عام تقريبـــا في المؤسّســـات ناتج عن غياب الثّقة بين أبناء الوطــن الواحــد. وهو سلوك أسّست له الدّكتاتوريات المتعاقبة ودخل على إثرهـــا المجتمع في نظرة دونيـّـة لذاتــه وفي علاقـــات تحكمها الأنانيــّـــة والتّسلط  والرّغبــــة في رسم وتحقيق الأهداف الدّنيــا دون الأهداف السّامية.
فالتّنمية البشريّة إذا تنمية تسعى إلى الحفاظ على التّوازن البشري من الناحية البدنيّة (نسبة السّكري في الدّم، ضغط الدّم، عدد دقّات القلب، نسب الفيتامين والأملاح المعدنيّة...) و من النّاحية النّفسيّة (التّوازن السّلوكي) «ونفس وما سواها» باعتبار الحياة كلاّ متجانسا أساسه أنّ الأرض التي خلق الله منها الإنسان، « وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا»(نوح - الآية 17)،أنبت الله فيها من كلّ شيء موزون في تناسق بديع بين حاجات الانسان كالغذاء  مثلا وأصل خلقه حيث أن أصل نشأته من التّراب وأنّ رزقه من التّراب وهذا الرّزق موزون حتما «وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ»(الحجر- الآية 19) فكان أساس الخلق التّوازن في كلّ شيء وأمر الإنسان بالمحافظة على هذا الميزان بعدم الإسراف فيه حيث أنّه بالإسراف تفسد حياة الإنسان ومحيطه، «و السّماء رفعها ووضع الميزان* ألا تطغوا في الميزان» (الرحمان الآية7 والآية 8) وانظر إذا شئت إلى الخلل الذي يدخله الإنسان على البيئة شجرا ومدرا وبحرا وماء وهواء وتداعياته السّلبية على كل مناحي حياة الإنسان رزقا و صحّة ومتعة وقد قال سبحانه « ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏» ‏ (الروم‏- الآية 41)‏.
فاذا أصبح الفرد على درجة من النّضج في التّكوين كان:
(1)  فاعلا بما له من طاقات وقدرات يتمّ صقلها وتدريبها وتنشئتها التّنشئة الإنسانية المؤثّرة في تغيير الواقع الذّاتي  والانطلاق في غير انهزاميّة ولا انكسار إلى رفع المشقّة على الناس ودرأ المفاسد عن المجتمع كمفاسد التّسلط والقهر والظلم والفقر والجهل والتهميش والشعور بالدونية والانكفاء على الذات والتّسليم بالواقع كقدر لا مناص منه ولا محيد عنه. 
(2) متفاعلا بحيث لا ينأى بنفسه عن قضايا المجتمع وأفراحه وأتراحه بل يكون حاملا لقضاياه حالما بأحلامه متألّما لآلامه متفانيا في خدمته في غير منّ ولا غشّ ولا خذلان. 
إنّها نظـــرة أساسهــا «أنّ أحبّ الأعمــال إلى الله بعد قول لا اله إلا الله سرور تدخله على مسلـــم» وعمقهــا «اللّهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمـــون» ومنتهاهـــا «إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْــلاَحَ مَا اسْتَطَعْــتُ وَمَا تَوْفِيقِـــيَ إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْـــهِ تَوَكّلـــتُ وَإِلَيــْهِ أُنِيبُ».
لذلك كان لا بدّ من حدّ أدنى من التّعليم والتّكوين والتّدريب في كلّ ما له علاقة بحياة الإنســـان لينشأ بشخصيّـــة متوازنة تنظر إلى الحياة نظرة الشّمــــول لا نظرة التّجزئــة أو الانفصام بين العناصر المكوّنة لها.
فصحّــة بدنيّــة ونفسيــة جيّدة مع تعليــم كاف وتدريب على نواحي الحياة المختلفة وقدرة على تحليــل الواقع واستشــراف المستقبــل ونظرة عميقة إلى الهدف الأعظم لوجود الإنسان علــى البسيطـــة، كلّ هذه العناصر تمثّل المجال الخصب الذي تبحث وتعمل في إطاره التّنميــة البشريّــة دون أيّ إغفال لجوانب الحياة الاقتصاديّة وطرق توزيع الثّروة والمسائل الاجتماعيـــة الخاصّــة والعامـــة وكلّ ما لـــه علاقة بتحقيق المصلحة للإنسان.
-----
- مهندس ماجستير و مدرب في التنمية البشرية
hechmi.benbrahim@gmail.com