شخصيات

بقلم
التحرير الإصلاح
أبو الوفاء البوزجاني
  يرجع الفضل الأكبر لعلماء المسلمين في وضع علم المثلثات بشكل علمي منتظم مستقل عن علم الفلك، ولا يخفى ما لهذا العلم من أثر في الاختراع والاكتشاف، وفي تسهيل كثير من البحوث الطبيعية والهندسية والصناعية. وضيف هذا الركن هو أبو الوفاء البوزجاني أحد العلماء المسلمين الذين برعوا في هذا العلم وعمل على فصل علم حساب المثلثات عن علم الفلك بطريقة نظامية لم تؤثر أبدًا على تقدم علم الفلك، بل شجعت على استخدام الطريقة الاستنتاجية في حلّ المسائل الفلكيّة. 
ولد أبو الوفاء محمد بن محمد بن يحيى بن إسماعيل بن العباس البوزجاني الحاسب في بوزجان بين هراة ونسيابور من أرض خراسان سنة 328 هـ (940م) وتوفي في بغداد سنة 388 هـ (998م).
تربّى أبو الوفاء في أسرة حاضنة للعلم حيث أخذ على عمه المعروف بأبي عمرو المغازلي، وعلى خاله المعروف بأبي عبد الله محمد بن عنبسة، ما كان من علوم العدديّات والحسابيات. ولما بلغ العشرين من العمر انتقل إلى بغداد حيث اشتغل بالرّياضيات والأرصاد وعلم الفلك وفاضت قريحته ولمع اسمه وظهر للنّاس إنتاجه في كتبه ورسائله ويُعَدُّ أحد الأئمة المعدودين في الرياضيّات والفلك، وله فيهما مؤلَّفات قيِّمة، من أشهرها: منازل في الحساب، وتفسير الجبر والمقابلة للخوارزمي والمدخل إلى الأرثماطيقي، وكتاب استخراج الأوتار، وكتاب العمل بالجدول الستيني، وكتاب معرفة الدائرة من الفلك، والكامل، والزيج الشامل، وكتاب المجسطي. وقام بتقديم شروح كثيرة لمؤلفات ديوفانتوس وبطليموس وإقليدس جامعًا بين المنهجين اليوناني والهندي. وقد قضى أبو الوفاء جزءا من وقته في دراسة مؤلفات الرياضي الكبير البتاني في علم حساب المثلثات، فعلَّق عليها وفسر الغامض منها. واطّلع على بحوث الخوارزمي وأضاف إليها إضافات هامة جدًّا، ولا سيما فيما يخص علاقة الهندسة بالجبر، وذلك بحل بعض المعادلات الجبرية المهمة هندسيًّا واستطاع أن يجد حلولاً جديدة للقطع المكافئ، فمهّد بذلك لظهور الهندسة وحساب التفاضل والتكامل.
فالخوارزمي واضع علم الجبر بكتابه (حساب الجبر والمقابلة)، قد كرّس جهوده في وضع المعادلة ذات الدرجة الثانية، وتبعه علماء مسلمون آخرون طوّروا علم الجبر حتى ظفروا بنتائج مرضية للغاية للمعادلة ذات الدرجة الثالثة، أما أبو الوفاء البوزجاني فكان طموحًا ولم يقف عند هذا الحد، بل واصل العمل الجاد وابتكر حلاًّ للمعادلة ذات الدرجة الرابعة. 
إن مكانة أبي الوفاء في علم حساب المثلثات واضحة جليّة لمعظم المتخصصين، فقد وضع طريقة عصريّة سهلة لحساب جداول الظلّ وجيب الزّاوية(sin)، وابتكر متطابقات مثلثيّة لا تزال تدرس في المدارس والجامعات في جميع أنحاء العالم. 
ولأبي الوفاء أيضًا اكتشافات في علم الفلك، بل يعد من أشهر علماء الفلك في عصره، وخاصة في المدرسة البغدادية ذات الأعمال العلمية غير المسبوقة في الحضارة الإسلامية، خاصة وأن أبا الوفاء قد استعان بأرصاد كثيرة ودقيقة بفضل مرصده ببغداد، والذي ساعد على إنشائه وعمله، ومما اكتشفه هذا العالم الجليل ـ على ما يذكر (غوستاف لوبون) في كتابه الضخم (حضارة العرب) تعيينه بالضبط لمبادرة الاعتدالين ووضعه من التقاويم الهامّة والدقيقة لأمكنة الكواكب السيّارة. ومما عرفه عالمنا الكبير الاختلاف القمري الثالث، فقد استوقف نظره ما في نظرية بطليموس من النقص في أمر القمر، فبحث في أسبابه، فرأى اختلافًا ثالثًا غير المعادلة المركزية والاختلاف الدوري، يعرف اليوم بالاختلاف.
تمتع باحترام الطبقة الحاكمة في بغداد، وكان الوزير ابن سعدان من الرّواد المنتظمين لمجالسه التي ضمّت أيضا عددا من وجوه العلم مثل أبي حيان التوحيدي.
ومن المؤسف حقًّا أن علماء الرياضيات والفلك في بلاد الغرب يحاولون تجاهل فضل عالمنا المسلم المشهور أبي الوفاء على علم حساب المثلثات وغيره من فروع الرياضيات والفلك، وقد انتحل كثير من علماء الغرب بعض اكتشافاته ونسبوها لأنفسهم مثل: (ريجيو مونتانوس) الذي نسب لنفسه معظم نظريات أبي الوفاء في علم حساب المثلثات، وكتبها في كتابه المشهور عند الغرب بعنوان (De Trianglis).
لكن برغم هذا التجاهل فقد وقف له العديد من علماء العالم احتراما وإجلالا لإسهاماته المتميزة في الرياضيات والفلك. حيث وصفه المؤرخ البلجيكي جورج سارتون في كتابه «تاريخ العلوم» بأنه أعظم علماء الحساب في الإسلام. ورأى المستشرق الفرنسي المعروف البارون كارادي فو أن «الخدمات التي قدمها أبو الوفا لعلم المثلثات لا يمكن أن يجادل فيها، فبفضله أصبح هذا العلم أكثر بساطة ووضوحا». 
وتخليدا لذكرى وفاة هذا العالم الكبير اطلق اسمه على فوهة بركانية بالقمر.