الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
الإنسان و السماء - ج3 - تلاقح الحضارات
 أدى اكتشاف البرنز في أوروبا في بداية الألفية الثانية ق.م. وازدياد الحاجة إلى النحاس والقصدير لتذويبه، إلى تطوّر شبكات تبادل وتواصل منتظمة بين أوروبّا واليونان ومصر والعراق. وفّر هذا المناخ الحضاري الجديد للممارسة الفلكيّة التي انتشرت عند النّخبة صاحبة السّلطة الدّينية والسّياسية في العصر الحجري الحديث كما تشهد على ذلك البناءات الحجرية الضخمة، الظروف الملائمة لزيادة الاهتمام بالفلك ولمزيد من اتقانه. وقد عثر في ألمانيا عام 1999 على أقدم خريطة سماوية معروفة إلى يومنا هذا مرسومة بالذّهب على قرص من البرنز قطره 30 سنتيمتر. يعود تاريخ هذا القرص الذي تمثل فيه بعض الأجرام السّماوية إلى 1600 ق.م.
تشهد آثار الفترة بين القرن 16 و 8 ق.م. أي ما يسمى بـ «عصر البرونز» على معرفة جيّدة بالدّورة السنوية للشّمس والدورة القمرية الشّهرية وعلى وجود نموذج روزنامة فلكية واسع الانتشار في أوروبا الغربية. لم تختلف المعارف الفلكيّة كثيرا بين العصر الحجري الحديث وعصر البرونز إلاّ في استخداماتها.  
شهدت الفترة الممتدة من سنة 800 ق.م. إلى سنة 25 ق.م. تقريبا والمعروفة بـ«عصر الحديد» بأوروبا تراجعا تدريجيّا للشّعائر المرتبطة بالشّمس ونموا مطردا لمنظومات عقائدية دينيّة تحتلّ السّماء فيها موقعا متميّزا. كما بدا النّشاط الفلكي يتعقّد وأصبح الاهتمام بالنّجوم أكبر من ذي قبل.
أساطير
أوحى شكل القبّة السّماوية الأزرق اللّون وحركة الأجرام السّماوية المنتظمة وتلألئها ليلا و ما ارتبط بها من الظواهر الطبيعيّة بتصورات عدّة للمجتمعات الإنسانية. فقد تصوّر البابليّون أنّ الكون يتألّف من مركز ثابت هو الأرض. تنحني القبّة الزرقاء الصّلبة فوق الأرض و تتحرك في تلك القبّة الشّمس والقمر والنّجوم. أمّا الأرض  فهي تبدو على هيئة جبل، يحمله البحر ويحيط به. وقد اعتقدوا أنّ الجبلان الموجودان في الشّرق والغرب جعلا ليسندا السّماء ويمنعاها من السّقوط. أمّا مملكة الموتى المظلمة الترابية، فتقع داخل الأرض. 
أمّا المصريون فقد مثّلوا السماء ببطن بقرة تملؤها النجوم. ومثّلوها مرّة أخرى بامرأة منحنية نحو الأرض ومسندة عليها بيديها ورجليها و هي نوت آلهة السماء و يقف تحتها على الأرض رجل يمثل «جب» وهو اله الأرض. كلّ تلك التّصورات لم تكن سوى انعكاسا لما تظهره مجاهل السماء وكانت بالضّرورة تعكس محدوديّة إدراك الإنسان لحقيقة الظّواهر الفلكيّة بحكم محدوديّة الأداة المستعملة وهي العين المجرّدة من ناحية        ومحدوديّة المستوى المعرفي للإنسان الذي يمكن تشبيهه بالطّفل الصّغير الذي مازال يلتمس ويتحسّس طريق المعرفة. وتجب الملاحظة هنا أنّ الأساطير المتمحورة حول السّماء كانت تلبي رغبة دفينة تميّز الإنسان عن باقي الموجودات الأرضية وهي اكتشاف القوّة التي وراء هذا الوجود والتي يعتقد الإنسان كإنسان بوجودها.
ابتكار النماذج الهندسية
تطور تعامل الإنسان مع السماء ولم يتوقّف عند الجانب النّفعي المباشر والعقائدي متمثّلا في تحديد الروزنامات وتنظيم النّشاط الإنساني من جهة وصناعة قصص خياليّة مسرحها السّماء وأبطالها آلهة وأشباه آلهة وكائنات غريبة. لقد برزت الرّغبة في تفسير حركة الأجرام السّماوية بشكل جليّ عند الإغريق. ابتكر الإغريق نماذج هندسيّة بسيطة في البداية ثم ما لبثت أن تطوّرت أكثر فأكثر. 
لقد بدأت محاولة تفسير السّماء بعيدا عن السّرد الأسطوري أو الديني و تكوين تصور متكامل للوجود منذ القرن 7 ق.م. على الأقل حيث ارتكزت المحاولات على بعدين اثنين: البحث عن مبدأ بسيط يمكن أن يكون الأصل لكل شيء مثل الماء آو الهواء آو النار وتصور هندسي لشكل الأرض وموقعها بالنّسبة للأجرام السّماوية. وتبين الوثائق أنّ فكرة الأرض المسطّحة والكروية المعلّقة في الفضاء قد ظهرت في القرن السّادس قبل الميلاد عند الإغريق وربما في حضارات أخرى.
يرى العديد من المتابعين لتطور العلاقة بالسّماء أنّ أهم ما يميّز النّشاط الفلكي عند الإغريق وذلك منذ القرن الخامس قبل الميلاد على الأقل هو فكرة أو مفهوم النّموذج. فالعلم يتقدّم بالاعتماد على هذا المفهوم الفريد. إنّ المعطيات المتعلّقة بظاهرة طبيعيّة ما يمكن أن تترجم بالعديد من التفسيرات في شكل نماذج متعددة. وتبقى تلك  النّماذج مستعملة إلى أن تتوفر معطيات جديدة تعجز عن تفسيرها مما يؤدي إلى تجاوزها بنماذج أخرى وهكذا.
 و يبدو أن من بنى أول نموذج فلكي-هندسي ذو مصداقية نوع ما هو «اودكس دو كنيد» في القرن الرابع قبل الميلاد (ُEudoxe de  Cnide 410-347). في هذا التمثل الهندسي للكون تحتل الأرض ثابتة المركز وتحيط بها كرات تغلف بعضها البعض في شكل شبيه ببنية البصلة.
 مفاهيم فلكية جديدة
ساهم العديد في تعقيد هذا النموذج ليستطيع تفسير أكبر عدد ممكن من المشاهدات الفلكيّة. أدخل مصطلحا «فلك التدوير» (دائرة مركزها في محيط دائرة كبيرة) و«فلك»(مدار مركز فلك التدوير) في القرن 3 ق.م. و ذلك لوصف الحركة التراجعية التي تبديها بعض الكواكب. كما أدخل أيضا ولنفس الغاية وذلك في القرن 2 ق.م. مصطلح «منحرف المركز» وهو مركز الفلك الذي لا يتطابق مع موقع الأرض.
في كل هذه العوالم الافتراضية (الهندسية) تتحرّك الكواكب بسرعات ثابتة في مداراة دائرية «أفلاك التدوير» كل واحد منها يتحرّك مركزه على دائرة أكبر مركزها الأرض «فلك». ثم ولمزيد ضبط البناء الرياضياتي حتّى يعطي نتائج متطابقة مع الأرصاد وقع تغيير المركز ولم يعد الأرض بل نقطة أخرى سميت «منحرف المركز». ولا بد من الملاحظة أنّ فرضية مركزيّة الأرض للكون لم تعد ممكنة هندسيّا بل تواصلت على المستوى الكيفي فقط. 
لقد استطاع الإغريق بفضل الإرث الضّخم للفلك البابلي الذي يحتوي على بيانات جمعت لعديد القرون أن يحصلوا على نتائج هامة تتعلّق بأبعاد الكون وأحجام مكوناته. فـ«أريستارك دو ساموس» (Aristarque de Samos 310-230) أعطى في القـــرن 3 ق. م. أول تقدير علمي للمسافة أرض-قمر وأرض-شمس. وقد استنتج من حساباته أنّ الشمس يجب أن يكون أكبر من الأرض تسعة عشر مرّة وأكبر من  القمر بستّ مرات. و قد أوحى له ذلك بأن الأرض هي التي من المفروض أن تدور حول الشّمس وليس العكس. لكنّ فكرته تلك لم تكن الأذهان مهيأة لها بعد.
أرسطو و المنهج الغائي
لم يكن أرسطو(385 – 322 ق.م.) فلكيّا بل فيلسوفا مثله مثل أفلاطون. كان مهتمّا بالغايات التي وراء الظواهر الطبيعيّة ولم يكن للأسباب المنتجة لها أي قيمة عنده ولا تلعب أي دور في فهمه لها. فكان ينطلق من غاية ويأمر الطبيعة بأن تقوم بالحركات اللاّزمة لتصل إلى تلك الغاية. وبما أنّ الحركة «الكاملة» -والطبيعيّة بالنسبة له- التي يتبعها أي جسم من تلقاء نفسه لا يمكن أن تكون إلاّ دائرية ومنتظمة وبما أنّ السّماء هي مجال الكمال والنّظام فإنّ مسارات الأجرام السّماوية هي دائريّة ومنتظمة بالضّرورة. وهذا لا يعني غياب التّصور الآخر للكون الذي يعتقد أنّ لا شيء يحدث عرضا بل لكلّ شيء علّة وحتميّة وهو ما آمن به «دمقريط».
تبنى أرسطو إذا تلك الفكرة التي عطّلت تقدّم العلم كما سنرى وقسّم العالم إلى عالمين، عالم «ما تحت القمر»: تمثل الأرض في هذا النموذج عالما متغيرا ومتبدّلا وفان وعالم «ما فوق القمر» وهو عالم الكواكب والنجوم، ويتميّز بكونه من مادّة مختلفة عن العناصر الأربعة التي يتكوّن منها العالم الأرضي و تسمّى مادة «الأثير». لا تخضع هذه المادّة لقانون التغيّر والفناء بل هي ثابتة وأزلية.
الكون في نموذج أرسطو محدود لا يوجد وراءه شيء، لا مكان ولا زمان .الكواكب فيه معلّقة على كرات من الكريستال وتدور حول الأرض. أمّا النّجوم فهي منشدّة إلى كرة خارجيّة.  لقد تبنّى أرسطو  النّماذج التي وضعها من جاء قبله وقدّمها في إطار نظرة شاملة متكاملة للطّبيعة بمكوّناتها وتفاعلاتها. للكون مركز: هو مركز الكرة الخارجيّة.  تتكوّن مادّة الكون من 4 عناصر: التراب والهواء والماء والنار. في هذا النموذج هناك اتجاهان: «الأعلى» نحو الكرة الخارجية و«الأسفل» باتّجاه مركز الكون. لكلّ عنصر صلة طبيعية بموضعه. فالثّقيل ينجذب نحو الأرض-المركز والخفيف يصعد نحو الأعلى. تفسّر هذه الفيزياء لماذا تقبع الأرض بلا حركة في المركز. فثقل الأرض وكثافتها هو الذي يحدّد موضعها وليس لأهمية خاصة بها. 
نموذج كلوديوس بطليموس (90-168 م)
ألّف العالم الإغريقي «بطليموس» كتابا سماه «ماتيمتيكا سينتاكسيس» وتعني الأطروحة الرّياضياتية وذلك عام 148 م بالإسكندرية. يعتقد أنّ هذا الكتاب هو أقدم كتاب معروف في الفلك. ترجم حنين بن إسحاق (ولد 810 م) الكتاب للعربية وسمّاه «المجسطي». وعندما أعيدت ترجمته إلى اللاتينية وعديد اللغات الأخرى حافظ على تسميته الجديدة. في هذا الكتاب اقترح نموذجا لوصف وتفسير حركة الأجرام السّماوية وألواحا حسابيّة للتنبؤ بحركاتها ومواقعها. حاول خاصة تفسير حركة كوكبي المريخ والزهرة اللّذان يبدوان متراجعان في بعض الفترات وكذلك التّسارع الظّاهري للشّمس والقمر. فباعتماد المفاهيم التي أنتجت في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد وآليات حسابيّة، استطاع تفسير تلك الحركة التراجعيّة بمجموعة مركّبة من حركات منتظمة مركزها الأرض. يعمل نموذج «بطليموس» بدقة ملحوظة تمكّنه من التّنبؤ بكسوف الشّمس وخسوف القمر. كما يظهر هذا المثال كيف يمكن لنموذج أن يعطي نتائج تصدّقها الوقائع من دون أن يعكس حقيقة الظّاهرة التي يتناولها. لكن ليس بمقدور هذا النّموذج الذي مركزه الأرض أن يعطي المسافات بين الأرض والكواكب وهو ما يعكس محدوديته. 
ورغم أن نموذج «بطليموس» عاش مئات السّنين إلّا أنّه لم يسلم من انتقادات علماء الفلك في الحضارة الإسلامية. لقد بينوا الكثير من أخطائه وتناقضاته وصاغوا بالمقابل نماذج أخرى بديلة كان لها الأثر البالغ في «كوبرنيك» الذي يعتبره الغرب أب الثورة العلميّة الفلكية في أوروبا.
           -----
           -  دكتور  بالجامعة التونسية
          ghorbel_nabil@yahoo.fr