في العمق

بقلم
فراس الطرابلسي
إمكانات وأفق الفعل التنموي إنطلاقا من مجال التربية الفنية
 تمهيد
يقول الله تعالى في كتابه العزيز:
 «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ» (1)
وإذا كان التعليم باعتباره مفتاحا للخلق والإعمار هو الوسيلة الأساسية لهذا الإستخلاف، حتّى كانت القراءة أوّل فعل طُـلب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم القيام به وكذلك أمّته من بعده، فإنّ فعل القراءة في عالم الكلمات والأفكار مفتاح العلم والمعرفة، والقراءة في عالم الكون سبيل الإعمار والتمدّن، والقراءتان سبيل التنمية والنموّ والإرتقاء بالإنسان وصفاته وأدواته.
إنّ غياب التعليم يؤدّي إلى انطفاء الفاعليّة في الأمّة، وإذا لم يرتبط التعليم بأهداف وغايات وبمرجعيّة خُلقيّة فإنّه يكون كَلاًّ على صاحبه لا يوجّهه إلى خير.
ففي الحقيقة إنّ إشكاليّة التنمية في العالم الإسلامي تكمن أساسا في نظام التّعليم ومنهجيّته وطرق أدائه وإنّها لإحدى المُشكلات الكبرى التي نواجهها باستمرار في السنوات الأخيرة وتقتضي منّا الكثير من النقاش والتفكير. وحسبنا في هذه المداخلة ان نفتح النقاش فيها دون أن نغلقه.
(1) علاقة التعليم بالتنمية وتطوّر الأمم والشعوب
عندما نتحدّث عن التعليم وعن التنمية نجد أن هناك تلازما واضحا بين الأمرين. فالتنمية هي رسالة الإنسان في هذه الأرض. يقول الله تعالى: «هَوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فيها»(2) بمعنى انه جعلنا عُمَّارا للأرض (3).
 ومهمّة تنمية الأرض أو إعمارها هي من الواجبات التي فُرضت على المسلم من فروض الكفاية أي أنّه على المسلمين أن يعمّروا هذه الأرض بما يتناسب مع دورهم في هذه الحياة كلّ حسب توجّهاته ومجال اهتمامه. 
والله سبحانه تعالى إمتنّ على قُريش بأن أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. وهو ما يؤكّده علماء التّنمية في عصرنا الحالي بأنّ أساس التّنمية هما ركيزتان وهي الأمن والموارد. كما نجد أنّ رسول الله ذكر في حديث مشهور أنّه «إن قامت السّاعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل» (4).
تُعَدُّ التّنمية إذًا غاية الإنسان في هذا الوجود بعد عبادة الله سُبحانه وتعالى. والطّريق إلى التّنمية هو بلا شكّ التّعليم الذي يُعتبر البوّابة التي يولج من خلالها إلى مسار تنموي واضح. فمن خلال التّعليم تتكوّن مهارات الإنسان مثلما تتكوّن آراؤه وأفكاره ونظرته للحياة.
ونحن نلحظ اليوم أنّه يتمّ التّركيز بشكل كبير في الدول المتقدّمة على تكوين مهارات الإنسان بالتّعليم. كذلك في ديننا الإسلامي وفي منهجنا التّعليمي نركّز على جانبين: جانب المهارات أو المهن والصّناعات التي يتولاّها الإنسان ونقرنها بالجانب الإيماني والأخلاقي لأنّنا لا نستطيع أن ننتج إنسانا كالآلة لمجرّد فقط أن ينتج دون أن تكون له قيم تضبطه في هذا الإنتاج.
     (2) الثقافة كمقوّم أساسي للتنمية
«من الحقائق الثابتة اليوم  أن الشعوب قطعت أشواطا كبرى في تصفية الإستعمار سياسيا واقتصاديا، في حين أنّها لا تزال بعيدة عن تحقيق الهدف المنشود بالنّسبة لتصفية الإستعمار الثّقافي. فالتّأثير الذي يتركه الكتاب والصوت والصّورة في نفوس المواطنين لهو تأثير عميق وبالتالي يتأتّى للمستعمر أن يعتدي علينا ثقافيّا بكيفيّة لا تقلّ ضرارا عن الإعتداء العسكري» (5). 
وإذا ما كان الأمر كذلك فإنّ عملية الإبداع الثّقافي تصبح مسألة ملحّة تبعدنا عن كل اجترار لثقافات الآخر واستهلاكها بما فيها من مزالق تؤثّر على المدى البعيد في مستوى تشكيل الهويّة والوعي الثقافي.
ففي الحقيقة «شهدت الثّقافة خلال القرن العشرين وتحديدا في النّصف الثاني منه، تبلور أبعاد جديدة أوجدتها حيثيات التحوّل الصّناعي للإنتاج الثقافي بحيث أصبحت الثقافة بمفاهيمها الأنتروبولوجية والأخلاقية والفلسفية ليست ذات قدرة على الحضور والإستمرارية خارج أوعية متطوّرة للإنتاج والبثّ والترويج»(6). وفي صلب هذه الأوعية يمكن أن ننزّل التّربية باعتبارها فاعلا تنمويّا تولّد عن تراكمات معرفيّة وثقافيّة من المفترض أن تساهم في عمليّة التنمية الإقتصاديّة من خلال استراتيجيات توضع للغرض، تتكامل مع متطلبات العصر الذي تطغى عليه التكنولوجيات الحديثة في مستويات عدّة منها الإنتاج والإبداع والتّرويج والمبادرة وغيرها وتسبح في أغلب الحالات في عالم افتراضي يتحتّم علينا التعامل معه إلى جانب العلاقات المباشرة بين الفرد والفرد أو الفرد والمجموعة أو الفرد والمؤسّسة.
وربّما تأتي الفنون في مقدّمة العناصر التّربوية التي يمكن لنا أن نبني من خلالها جدارا تنمويّا فاعلا إلى جانب التّنمية القائمة على السّياسات الإقتصادية ذات الوجهة التّجارية أو السّياحية أو الفلاحيّة أو غيرها.
(3) التربية على الفنون  وإمكانات التنمية الثقافية  
في البلاد التونسية: بين الواقع والمأمول
تعتني المنظومة التّربوية التونسيّة في الظّاهر بمجال الفنون وتخصّص له خبراء في البرمجة الرّسمية وتنتقي ما يتماشى والخصوصيّة العربيّة الإسلاميّة وتنفتح على تجارب الآخر وتستنير بها، غير أنّ هذه العناية لا تجعل في حسبانها -كما يمكن استنتاجه بسهولة من الواقع المعاش- الفعل التّنموي انطلاقا من الفنون إلاّ بما يزيد في تكريس الإستهلاكية القاتلة وقلة الإنتاجية.
إذ لا تنتج «آلة» التربية الفنيّة في الغالب إلاّ فئة الأساتذة (سواء في الفنون التشكيلية أو الموسيقية أو المسرحية) الذين هم عاجزون من حيث الإمكانات الماديّة على التجرُؤ لخوض تجربة الإستثمار أو المساهمة في التّنمية ودفع الفعل التّنموي عموما، فيتحوّلون إلى مجرّد مستهلكين سلبيين يمرّرون بعض المعارف وتنطفئ فيهم صفة «الفنّان» بمرور الوقت وقلة النشاط الثقافي خاصّة إذا توفّر المناخ السّياسي الذي لا يشجّع مجال الفنون إلاّ بما هي آليّة للرّبح المادّي على حساب القيمة الفنّية للعمل وما من المفترض أن يدور حوله من معطيات تاريخيّة وأبعاد جماليّة تضفي عليه الصّدق الفني وتجعله أقرب إلى الوجدان العام من حدث فنّي عرضي لا يجلب الأرباح الماديّة إلاّ لتكريس الاستهلاك وليس التّنمية المستديمة القائمة على ضوابط واستراتيجيات تضمن لها التواصل.
(4) جدلية الإبداع التنموي في ثنائية الفن-التنمية
تبدأ عملية التّحضير للإنسان المبدع من خلال سياسة تعتبر ضرورة أنّ الفنون –باعتبارها خلدونيّا من كماليّات العمران البشري- وسيلة للتّنمية وتنويع أفق الإنتاج الفكري المبدع القادر من جهة على اكتساح مجال التّرويج والإستثمار، ومن جهة أخرى على المحافظة على قيمته الإبداعية.
وعلى الرغم ممّا في الأمر من صعوبة كبرى نظرا لما بين الإبداع ومحتّمات الفعل التّنموي من تضارب أحيانا قد يضرب عرض الحائط ما يراه المبدع إبداعا، فإنّ الأمر ممكن إذا تمّ الحرص منذ البداية على:
- الإعتماد الإستراتيجي الواضح والصريح على الفنون كأحد رهانات التّنمية الثقافية الأساسيّة وبالتالي إعادة النظر في طرق التّعامل مع مجالات الموسيقى والمسرح والرسم في حياة الطفل منذ سنّ ما قبل المدرسة، وإلغاء المنهج التّقويمي فيها، بحيث تكون مجالا إختياريّا للمتعلّم يجد فيه فرصة للإبداع والحريّة غناء ورقصا ورسما وتمثيلا.
فلقد أكّد الباحثون في مجال الفنون مثلا أنّ الموسيقى «عنصر أساسي من أساسيّا التّربية إذ تنمّي القابليّات الذهنية للإنسان منذ مرحلة الطفولة المبكرة، فالطفل الذي ينشأ مستمعا للغناء والموسيقى يكون ذهنه منفتحا لتلقي العلم والمعرفة إضافة إلى رهافة الحسّ والقدرة على تذوّق الجمال» (7)  وبالتالي إنّ ما سيكتسبه الطفل من خصال ستكون حتما مؤثّرة على تكوينه الذّهني المتحرّر المتقبّل بسهولة لضروب العلم والصناعات بما يجعله قادرا على التفكير في خلق مشاريع قد تتّصل بمجال تحصيله العلمي أو حتى غيره وبالتّالي تكون الفنون بهذا المعنى قد ساهمت في الفعل التّنموي انطلاقا من أرضيّة تربوية سليمة في مجال الفنون. 
كما يتوجّب على الجامعة التّونسية وخبرائها أن يفكّروا بجديّة قصوى في بعث اختصاصات جديدة تنبثق من مجالات الفنون المختلفة تترجم استراتيجية برمتها في التعامل مع الموادّ الفنية في حياة الطفل حتى تضمن الأجيال المتعاقبة مرور الخطط التي تعدّها الدّولة لغرض التنمية إنطلاقا من إيمانها بأهمية التكوين الفنّي في الموضوع.
- كذلك يعتبر الإعتماد على مجال الفنون كوسيلة للتعريف بالذات إنطلاقا من ترويج الثقافة المحليّة وإبراز جذورها التاريخيّة العميقة سبيلا لدفع التّنمية خاصة في المجال السّياحي، ويكون ذلك بتكثيف عروض موسيقيّة أو معارض في الفنون التشكيليّة بعيدا عن التّنميط الفلكلوري بفتح مجال المشاركة لعناصر تتميّز باحترافها في المجالين بإشراف لجان وطنيّة مختصة في العلوم الموسيقيّة والأنتروبولوجيا والمسرح والتّاريخ والرّقص وغيرها ممّا يدخل في باب الإنتاج الفني الإبداعي. 
- من جهة أخرى «ولأنّ مراجع الفنّ تستقي الظروف المولّدة له، فلا غرو أن تنفتح الموسيقى كتعبير وجداني(على سبيل المثال)(8) على مفاتيح الحداثة الإجتماعية والسّياسية وتنحو منحى الإنسان في طرحه لمعاني الوجود والموجود والمنشود (...) المعوّل في ذلك على فرضيات العمل والقناعة في المستقبل والأمل في التقدّم»(9). وهنا نطرح إشكالية الصّراع بين التنموي والمقوّمات الأساسية للفن باعتباره مشهدا ما من التراث التقليدي وكذلك الإنتاج الحديث المتأثّر بالواقع الذي نشأ فيه. فهل من تعارض بين التنموي والتراث الفني؟
في هذا الصدد نقول أنّ التّربية والتّعليم عموما يعتمدان بشكل كبير على المأثور الأدبي والشّعري والعلمي والفنّي ولا يمكن لأحدهم أن يتعلّم فرعا من فروع المعرفة دون الرّجوع إلى ما استفاد به الأسبقون فيه أو غضّوا عنه النّظر لسبب أو لآخر. وإذا تعلّق الأمر بمجال الفنون فإنّ ميدان الموسيقى مثلا يمكن الجزم في شأنه بأنّه لا يمكن أن يكون تنمويّا بالدّرجة الأولى إلاّ إذا تشبّث أصحابه بالتّراث أو استقوا عناصر موسيقاهم منه. فلا معنى أن نحاكي الموسيقى الكلاسيكيّة أو موسيقى الجاز أو الإيقاعات الصّاخبة الغربية حتى نضمن رواجا للعمل الفني بما يجعله مساهما في الحركة التنموية الثقافية، وإنّما إذا انطلق العمل من الخصوصيات اللّحنية المحليّة والتّراث الموسيقي العربي والتونسي فيمكن أن يضمن حب اطّلاع الآخر الذي يرانا مختلفين عنه. 
وبالتالي تنبثق من هنا استراتيجية التّربية الفنّية القائمة على تكريس الهويّة العربيّة الإسلاميّة المستنيرة بعناصر العولمة وآلياتها دون إيقاع الذّوق الفنّي في بركة الإغتراب والإستيلاب. ولا يكون ذلك إلاّ ببرنامج متنوّع يضمن للمتعلّم التعرّف على أهميّة التّراث الفني بعيدا عن التنظير والإسقاط، أوّلا خارج نطاق التّقويم وثانيا بوضع مخاطر وتأثيرات وسائل الإتصال الحديثة في خطّة العمل الإستراتيجي المراد تحقيقها.
   الهوامش
(1)  القرآن الكريم، سورة الأنعام/الآية 165
(2)  القرآن الكريم، سورة هود/الآية61
(3)  كما جاء في تفسير ابن كثير
(4)  رواه البخاري في الأدب المفرد عن أنس بن مالك رضي الله عنه، كما رواه الإمام أحمد في مسنده
(5) الإبراهيمي ( أحمد طالب)، «الثقافة كمقوّم أساسي للتنمية»، مجلة الثقافة، الجزائر، وزارة الإعلام والثقافة، السنة السابعة، العدد37، فبراير-مارس1977، ص5.
(6) الإمام(الحبيب)، الإقتصاد الثقافي، الطبعة الأولى، تونس، منشورات آية، 2005، ص30.
(7) عبد الله (علي)، «غناسيقية الطفل في العراق»، ندوة أغاني الطفولة لمرحلة ما قبل المدرسة، عمل جماعي- أوراق عمل، المملكة الأردنية الهاشمية، المعهد الوطني للموسيقى/ مؤسسة نور الحسين، المهرجان الأردني الرابع لأغنية الطفل، 1998، ص.62.
(8) ما ورد بين قوسين هو من إضافة صاحب المقال
(9) زين العابدين (محمد)، الموسيقى ومقاربات التنمية في تونس، مجلة الحياة الثقافية، تونس، العدد181، مارس 2007، ص13.
-------
-  باحث في العلوم الثقافية اختصاص موسيقى
firas.musicologue@gmail.com