تأملات

بقلم
يسري بن ساسي
اغتراب
 من نافذة إلى نافذة  ومن رابط إلى رابط ومن أيقونة إلى أيقونة نستطيع أن نمضي من اليوم معظمه أو كلٌه نعتقد أن العالم أجمعه بين أيدينا ونتوهّم أنّنا محاطون بهالة من الأصدقاء وباقة من المتابعين وطابور من المعجبين لكن بيننا وبين ذاك العالم الافتراضي الذي يسرقنا من واقعنا ويخطفنا من حقيقتنا ويمنعنا عن حياتنا الفعليّة لوحة إلكترونية أو شاشة حاسوب وجملة من  أزرار ما إن نضغط عليها حتى نصحو على حجم غربتنا ونفيق على قدر وحدتنا .. تلك النافذة ليست تفتح إلاّ على زنزانة نقبع فيها بمفردنا وذلك الرّابط لا يربطنا حينما نحتاج لا بمعين ولا بصديق ولا بروح تضجّ حياة وأملا وتلك الأيقونة لا تقودنا لفضاء سوى فضاء غرفتنا ذي الأربع جدران..كل شيء حولنا مصطنع.. الابتسامات.. الإعجابات.. المحبّون.. والمحبّات.. ولا شيء حقيقي فنحن في متاهة مواقع للتواصل الاجتماعي آلت على نفسها ألاّ تصلنا إلا بهباء من الأسامي والصور وألاّ تجمعنا إلا بسراب من اللّقاءات والأحاديث وأن تختزل حتّى  تقلب مزاجاتنا وغمر عواطفنا وبواعث وجداننا في جملة من الكرتونات ولكلّ حالة أوجدت لنا حرّ الاختيار وتعدد الخيارات التي تمنحنا جذوة التعبير عن ذواتنا بيسر كبير وجهد قليل،
هذا الوهم الذي نلفع به حياتنا في كل يوم يختلس منّا أحلى لحظات كنت نلفيها في دفء العائلة .. فلا الطفل أضحى قريبا من والديه ولا الوالدان انتبها فأغدقا عطفا على ابنهما ولا الزوج عاد فتودّد إلى زوجته ولا الزوجة عطفت  فأنست إلى زوجها  ولا الصّديق ترفّق  فزار صديقا ولا القريب اشتاق فعاد قريبا.. حياتنا صارت تكلّفا في تكلف واصطناعا في اصطناع..  بهجة الأعياد نفسها بهتت  حتى صارت معايدتنا جملة  من الرّسائل القصيرة ذاتها ممجوجة  المعاني خاوية المطاوي  .. العالم الافتراضي يغلف حياتنا غلافا يبدو بهيج الألوان وتبدو أيامنا في  مطامرها كئيبة وحينما يثوب كل واحد فينا إلى واقعه وحاله يستجلي فاقة غربته ويجترع مرارة عزلته ..ما عادت للعلاقات الإنسانية رونقها القديم وعتقها الجميل وطابعها العفوي البسيط.. بل يأخذنا إيقاع لسنا ندري أهو إيقاع حياة فعلا أم إيقاعنا نحو الموت ..على مذاوي العزلة نتوه في صحراء الشبكات القاحلة من كل حسّ رقيق والفاترة من كل شعور صادق  فنبدو كاللاهث خلف السّراب ما يزيده الورد إلا عطشا .. لأن لا شيء حقيقي،  فلا الصّداقة استدامت صداقة ولا الحبّ استفاض  محبّة.. إنّنا في دوامة من أمرنا نستسيغ حالة أشبه بالهذيان.. فالدّاخل إلى الجيب خارج والدّالف إلى القلب مجرّد عابر والناس في هرولة من شأنهم لا يلوون إلاّ على لقمة العيش وما عاد شيء يستفز دواخلهم ويستدر عواطفهم إلا نزرا قليلا.. الألوان صاخبة في العالم الافتراضي ولكن خلفها  تليف الإحساس وجمدت الدمعة واصطنعت الضحكة، والانسان فينا سائر يوما بعد يوم إلى التلاشي في زخم عالم مركب مشوش  وبالكاد يعرفك في  الطريق سلام خجول وسؤال خافت ونحن لازلنا نقبع خلف شاشتنا جثثا هامدة .. الكتاب جافيناه والمحمول صافيناه والصديق نسيناه ..عباراتنا صارت بالية ..كلماتنا باتت ذاوية  وحوارتنا عراك وشتائم وتجريح  .. لا  نجيد  إلا حروبنا الصغيرة التي يشنّها بعضنا على بعض حينما نتوارى خلف الشّاشة حيث الابتسامات الصّفراء واحدة  متجانسة صبّت كقوالب من الصّابون أو علب من السّردين
في الحقيقة يتيح لنا هذا العالم الكثير من الإمكانيات الافتراضية فقط لينبئ الانسان فينا بعجز معيق يظنّ تداركه من خلال اختراق عوالم لم يستطعها في الواقع وبدل أن نتحرك فعلا في حياتنا نحن  نتحرك ضمن عدّاد من الشفرات والأرقام والعناوين الافتراضية .. وإذّاك وإن كان لهذا العالم بعض من الحسنات وقدر من الفوائد فلا يجب أن يحصرنا هذا  المدار أو يحدّ من طاقاتنا أو يحشرنا في زمرة الأرقام والشفرات ويلهينا عن مسارنا الفعلي، فيتبلّد الإحساس ويرتخي الضمير ويتليف الشّعور.. أنت ..أنا .. إنسان يتّقد حياة وينضح أملا ويصنع تاريخا.. الحملقة طويلا في الشاشات لن تضفي عليك السّعادة التي تنشدها ..والتقوقع في غرفتك لن يسبل عليك ثراء الشّعور بل فراغه.. بإمكانك وحدك أن تجعل هذا العالم المزيف معبرا  يأخذك إلى أسطول الحقيقة أو قبرا يدفنك ويواريك في صندوق وضيقة . 
-------
-  كاتبة تونسية
docyosra@hotmail.fr