في الصميم

بقلم
د.لطفي زكري
تنظيم الدولة الإسلامية: كيان جهادي أم إرهابي؟
 يشغل الاهتمام الإعلامي بتحركات تنظيم الدولة الإسلامية وتمدّده على خارطة البلاد العربية حيزا هامّا من المساحات الزّمنية في المنابر الحواريّة التي تعيد على مسامعنا نفس الخطاب التّهويلي الذي كانت تمارسه في التّشهير بالحركات والجماعات الإسلاميّة بوصفها خطرا داهما يهدّد مدنيّة الدّولة وحقوق المواطنة. وهو الخطاب الذي كفّ عن الحضور منذ اللّحظة التي انضمت فيها تلك الحركات إلى العائلة السّياسية والتزمت بضوابط العمل العلني بديلا عن العمل السّري. لكن يبدو أنّ هذا العرج الإعلامي المزمن وجد في الاهتمام بتنامي تنظيم الدّولة واتساع رقعة انتشاره ما يبرر استعادته بعد أن استوفى مهمّته مع الجماعات والحركات الإسلاميّة التي وجدت الطريق إلى الحضور في منابر التّجييش والتّحريض والمزايدة.
إنّ السّمة المميّزة للآداء الإعلامي هو انعدام التّوازن بين الدّعاية السّياسية المضادّة لتنظيم الدّولة الإسلاميّة والدّعاية السّياسية الدّاعمة له. لذلك ليس ثمّة من حرج في التّسليم بأنّ الصّورة التي يحملها النّاس عن هذا التّنظيم لا تشذّ عن قائمة الصّور المشوّهة التي درج الإعلام المحلّي ومن ورائه الإعلام الغربي، على تصنيعها وتسويقها أو قائمة الصّور المنمّقة التي يصنعها هذا التّنظيم ويستعرضها في مواجهة الصّورة المعادية. وهذا يعني أنّ حقيقة هذا التّنظيم لا توجد بكامل تفاصيلها في إحدى الصّورتين، بل توجد في نقاط التّقاطع بينهما بعد إزالة كل عناصر التّشويه والتّنميق فيهما. لذلك يحقّ لفكر متحرّر من الأحكام المسبقة أن يسأل عمّا إذا كان ظهور هذا التّنظيم سوء طالع يهدّد آخر أحلام البشريّة بالحريّة والعدالة والكرامة أم هو أمل طالما انتظرته بعد فشل المجتمعات المعاصرة في تحقيق الوعد العظيم (السعادة للجميع)؟
صحيح أن فهم حقيقة هذا التنظيم لا يتمّ خارج سياق مشاريع الهيمنة الاقتصاديّة والسّياسية والعسكرية التي تتنازع مناطق الثّروة ومعابرها وأسواق اقتنائها وإعادة ترويجها، لكن لا يمكننا أيضا أن نفهمها خارج سياق العلامة الخصوصيّة التي تطبعها ونعني بها الخصوصية الدّينية. فهذا التّنظيم لم يتشكّل خارج التّاريخ أو بمعزل عن تحولات الواقع الموضوعي، بل ظهر على السّاحة الفكريّة الدّينية والسّياسية والعسكريّة بضرب من التولد الذّاتي والسّلوك الاحتجاجي على ما يراه انزياحا في حركات الإسلام السّياسي عن الأهداف التي تأسّست لأجلها وتحوّلها إلى حركات وأحزاب تردّد نفس المقولات التي كانت تناهضها وتستمد من مناهضتها المشروعيّة التي كانت لها ودفعت ثمن معارضتها سجنا ونفيا وتجويعا. ولعلّ هذا ما يفسّر استعادة هذا التنظيم لمقولات الحاكميّة لله وتطبيق الشّريعة ومحاربة البدع... وهي عين المقولات التي صاحبت نشأة الجماعات والحركات الإسلاميّة منذ ما يزيد عن نصف قرن. ولسنا بحاجة إلى استغراق النظر في أصول هذا التنظيم وعلاقته بمختلف الحركات الجهادية التي سبقت ظهوره أو تزامنت معه. فما يعنينا في فهمه هو بالتحديد هو موقعه من الصّراعات الدّائرة في المنطقة والمستقبل الذي ينتظرنا في حالة نجاحه وفي حالة إخفاقه.
إن المثير للانتباه في الحديث عن تنظيم الدّولة الإسلامية هو الإحياء الفكري والإعلامي لمفردات التّشهير والتّخويف التي تستعاد في استقبال آخر صورة أو شريط أو بيان يصدر عنه. أليس التوصيف الاستئصالي لهذا التّنظيم هو عين التّوصيف الذي شرّع من قبل لاستئصال الإسلاميين؟ ألم يكن الإسلاميّون يردّدون في مواجهة الإسلام الرّسمي نفس المقولات التكفيريّة التي يردّدها أنصار وقادة تنظيم الدّولة الإسلاميّة اليوم؟ ألا يوجد تزامن بين تحوّل الأحزاب والحركات الإسلاميّة من الحضر إلى الاعتراف، وقبولها بالانخراط في اللّعبة الديمقراطية ووصول بعضها إلى سدّة الحكم، وبين ظهور الإسلام الجهادي وتطوّره التنظيمي من اتحاد المجاهدين وطالبان والقاعدة وبوكو حرام وشباب المجاهدين إلى تنظيم الدولة الإسلاميّة؟ أليس هذا التنظيم هو البديل الوظيفي الرّافع لراية لا إله إلا الله بعد أن تخلّت عنها الجماعات والحركات والأحزاب الإسلاميّة ورضيت بما دونها من رايات قطريّة؟
الرأي عندنا هو أن تنظيم الدولة الإسلامية نشأ بضرب من التولّد الذاتي والموقف الاحتجاجي من داخل الجسم الإسلامي السّياسي في صراعه ضد نفسه وضد الإسلام الرّسمي بوصفه إسلاما مشوها أو مخففا إلى الحد الأقصى. وكل المواقف التي تتنكر لهذه الرابطة العقدية والتاريخية هي في النهاية تعيد إنتاج مواقف الحكومات الاستبدادية التي تنكرت سابقا للإسلاميين بوصفهم سلفيين وظلاميين ورجعيين وخمينيين وإرهابيين ووهابيين غرباء عن مجتمعاتهم ولا مكان لهم في النسيج الاجتماعي، بل مكانهم الطبيعي في السجون والمنافي. وحين نقول عن تنظيم الدّولة أنّه نشأ بضرب من التولد الاحتجاجي الذاتي فإننا لا نفهم ذلك على أنه طفرة تاريخيّة غير مسبوقة، بل نرى فيه حلقة أخيرة في سلسلة ممتدة من ظواهر الاحتجاج والتولد التي يرويها لنا المؤرخون لتحولات الجسم العربي والإسلامي. ويمكننا أن نعود بهذا التولد الاحتجاجي الذاتي إلى أولى ظواهر الاحتجاج إبان وفاة النبي (ص) ومبايعة أبي بكر الصديق الذي نعت الممتنعين عن دفع الزّكاة إليه بالمرتدّين، والحال أنّهم في رأي بعض المؤرّخين لم ينكروا فريضة الزّكاة، بل أنكروا وجوب دفعها إلى خليفة يفتقد للشرعيّة في نظرهم. ومنذ تلك الحادثة استمر مسلسل التولد الاحتجاجي الذاتي على الإسلام الرّسمي في عدة صور لعلّ أهمّها افتراق المسلمين إلى سنة وشيعة وافتراق المذهبيتين إلى جماعات كل منها يدعي أنّه الأقرب إلى الإسلام الأصلي. حتى إذا ما وصلنا إلى اللّحظة الرّاهنة أخذ هذا التولّد الاحتجاجي شكل التنظيم الجهادي المسلّح الذي يوجه نيرانه نحو كل الكيانات السياسية والمدنية التي يرى فيها عقبة أمام استكمال شروط قيام الدّولة الإسلامية وتطهير الأراضي المغتصبة من المحتلين المباشرين وغير المباشرين. لذلك لا غرابة أن يحشر هذا التنظيم بكل الحركات والأحزاب الإسلاميّة وبكل زعمائها وقادتها في زاوية الخيانة والنفاق وحتى الكفر إلى جانب الحركات والأحزاب العلمانية واليسارية التي حق عليها القول من قبل.
أن الطريف في هذا التنظيم هو ما يبديه من خطورة ونضج في استخدام آخر ما توصلت إليه مخابر البحث العلمي غربا وشرقا وأرقى ما أنتجته من تقنيات حربية في الإعلام والقتال. والطريف في الجهة المقابلة هو تبادل الأدوار بين ضحايا الأمس وجلاديهم أمام ظهور البديل الوظيفي الذي أخذ على عاتقه مسؤولية استئناف المسار الجهادي، لكن هذه المرة خارج مخابئ العمل السرّي، وبغير تلك الوسائل البدائية والاستراتيجيات المحلية والجهوية والقطرية، بل بوسائل عالية الدّقة واستراتيجيات مربكة للجيوش التقليدية. ويبدو أن بشاعة الانتقام (الذبح، الحرق، الاسترقاق، التهجير، الترويع، التطهير العرقي، ...) تشكل هي الأخرى وجه من وجوه هذا الإرباك في الخيارات الحربية التي يعمد إليها تنظيم الدولة. لكن هل يعني هذا التولد الاحتجاجي الذاتي أن مناطق العمليات الجهادية أو الإرهابية (بتعبير تنظيم الدولة أو بتعبير الحكومات التي تقاومه) مناطق محصنة ضدّ تأثير القوى الدولية الفاعلة والمؤثّرة في صناعة الحرب والسّلم والمبدعة لمقولة الحرب على الإرهاب؟ 
في الواقع لا يمكن لفكر يعي التقاطعــــات والتناقضــــــات بين المصالح، أن يزعم أن تنظيم الدّولة نشأ بمعزل عن منطق الحسابات الاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة التي لم تغب لحظة في تاريخ الصّراعات والحروب الإقليميّة والعالميّة. فمن ينكر أن هذا التنظيم تتدفق عليه أسلحة معلومة التّصنيع من جهات داعمة معلومة وغير معلومة؟. وليس غريبا أن تكون الجهة التي تعلن الحرب عليه هي أكثر الجهات تمويلا وإمدادا له بالعدّة والعتاد. بيد أن هذا لا يعني أن نظام التّحالفات والتّباينات بسيط وواضح للعيان. ذلك أن البيانات العسكريّة والخطابات السّياسيّة تخفي أكثر ممّا تفصح، وتغالط أكثر ممّا توجّه. ولعلّ ما يزيد الصّورة الميدانيّة غموضا والتباسا هو الاستثمار الإعلامي الذي يجعل من التّضليل والتّلاعب بالعقول غاية من تصنيع الصّورة وتعديلها بحسب مقتضيات اللّحظة التّاريخية التي تشهدها الجماعات البشريّة من الرّغبة في استتباب الأمن والسّلم أو الرّغبة في نشر الرّعب والحرب. لذلك لا نستغرب أن تستحيل استراتيجيات المواجهة الحربيّة إلى مسارات تفاوضيّة تستدرج تنظيم الدولة للدّخول في عملية سياسيّة تنتهي إلى تسويات شبيهة بتلك التي أنجزت في الشّيشان وأفغانستان والصّومال والسّودان ولبنان و... دون أن يعني هذا وجود تماثل تام أو تطابق كلي بين هذه التجارب. 
إن حساب المصالح هو في النهاية الدّافع الأول والأخير إلى الإسراع بالمصالحة أو تأجيلها بين القوى والتنظيمات المتصارعة. ومع تنظيم الدّولة الإسلاميّة يبدو أن هذا الحساب ما يزال في بداياته الأولى، وأن سيول الدّماء العربيّة والإسلاميّة ما تزال تتدفّق من شرايين الأبرياء باسم الجهاد (في قاموس تنظيم الدولة) وباسم مقاومة الإرهاب (في قاموس نظم الحكم الاستبدادي والديمقراطي). ذلك أنّه لا توجد نيّة حقيقيّة لوقف هذا النزيف الذي وجدت فيه أوساط الاستثمار الإعلامي والسّياسي والاقتصادي والعسكري مادّة خصبة لامتحان مدى صلابة أو هشاشة التّوازنات الإقليميّة في أكثر مناطق العالم حركيّة مادّية وفكريّة وأشدّها توتّرا مذهبيّا وعرقيّا. 
يعلمنا التاريخ أن من يصنع الحرب هو وحده القادر على صناعة السّلم، وأن ضحايا الحرب هم أنفسهم ضحايا السّلم بما هو مواصلة للحرب بوسائل أخرى. ألم يكن العقل الاستعماري الغربي مبدعا لسياسات حقّ الشعوب في تقرير مصيرها؟ أليس هو ذات العقل الذي بشّر بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان واعترف في نفس الوقت بقيام الكيان الصهيوني على قاعدة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض؟ فهل يمكننا اليوم بعد أن خبرنا قدرة هذا العقل الإجرامي المبدع في تغيير قواعد اللّعبة أن نتحرّر من سلطة الصّور التي يرسمها في وعينا عن أنفسنا وعن الآخرين؟ وهل علينا أن نتجنّد لمواجهة تنظيم الدّولة الإسلامية بوصفه تنظيما إرهابيّا ونعمل على إيقاف تمدّده الواسع والسّريع أم علينا أن نخوض مغامرة الاستثمار الجهادي لهذا التنظيم وفق المنطق البراغماتي الموجه للعقل الغربي عامة والأمريكي بصفة خاصّة؟ وإذا فقهنا منطق الحسابات وطرحنا على أنفسنا مهاما استراتيجيّة، ألا يحقّ لنا أن نفكّر في وجوه استثمار هذا التنظيم في استعادة الفعل التّاريخي والقطع مع الغياب في صناعة القرار الدّولي. أفلا يمكن لهذا التّنظيم أن يلعب دورا في مستقبل الصّراع المذهبي بين السّنة والشّيعة الذي يزداد حدّة واتّساعا بوتيرة تبدو مساوية في سرعتها لوتيرة تمدّد تنظيم الدّولة الإسلامية؟ وقبل ذلك أو بعده، هل يوجد حضور ما للورقة الفلسطينيّة في حسابات هذا التّنظيم واستراتيجياته على نحو ما كان يصرّح به زعيم القاعدة أسامة بن لادن أم أنّه سيحافظ على تحييد الأرض المحتلة في الخطاب والممارسة؟ وإذا سلمنا بإمكانية ترويض هذا التنظيم من قبل القوى الدوليّة والإقليميّة أو حتى إفنائه بشتى أساليب الإغراء أو الإكراه فما هو الثّمن السّياسي والاقتصادي والعسكري الذي سيدفع في المقابل؟ ألا يبدو النّزوع المتطرف لهذا التّنظيم في حسم المواقف وإصدار الأحكام عائقا أمام إمكانيات الحوار مع رموزه بعيدا عن لغة القتل والحرق والقطع ومشتقاتها؟ وهل تسمح الجهات التي يتدفق منها السّلاح بإمكانية حوار يكلّفها خسائر مالية غير مستعدّة لتحمّلها؟ 
-------
- أستاذ الفلسفة في التعليم الثانوي
zekri.lotfi@planet.tn