كلمات

بقلم
عبدالنّبي العوني
الحرية التي نريد والإرادة وما تستحق، ملامح الوطن: بدايات تحرر وإرادة حرة،
 كنت أسأل فيما مضى من عقود أين تونس، أين هذا البلد المعطاء الذي سكبت على أرضه وترابه الدّماء، وأين سقيت أشجاره، زيتونه وقمحه ونخله بالدّموع والماء. قيل لي اسأل الحرّية عنه فهي تؤنسه وتؤسّس له المجال الخصب الذي فيه ينمو وعليه وعلى مفارقه يبني نماذجه ويتعلم.
على مرّ تاريخه القديم البعيد والقريب كان لهذا البلد المطلّ على الآفاق على الماء من الشمال والرّمال من الجنوب، المنبسط كانبساط راحة يدي عروس محناة في ليلة فرحها الأولى، يغنّى لها وتعزف الألحان من أجل سؤددها وتمنيا كحالة ولادة جديدة لحياة جديدة ولمسار جديد في منظومة تمتزج فيها الذات والإرادة والتطلع إلى الاسمي تحكمه آليات الحرية الحقيقية التي توفر الفضاء الملائم للنمو والتفاعل والتدافع.
من جهة الغرب على مرمى البصر وعلى خطى عقبة يجد من يسنده  زمن الشدائد والرخاء من جزائر ومغرب أقصى إلى حدود الأطلس. وله في الإرث والموروث المشترك من عقبة إلى ابن نصير إلى ابن زياد وﺇلى من على رؤاهم أسس الأندلس. إلى الأمير عبد القادر وﺇلى المكافح عبد الكريم الخطابي والمناضل حشاد .
من جهة الشرق يمتد الحلم على البحر الأبيض كبياض أحلام الوطن في تداخل عجيب فيه الأخذ والعطاء وفيه الهضم والامتصاص فالريح الشرقي والهوى يأتي شرقيا ولما ينزل منازلنا يعطى صبغته وطعمه المشتق من الزيت والرطب والرمان والكسكسى حتى يتأقلم أكثر مع مناخ مغربي وإفريقي ومن ثم باستطاعته المرور إلى العمق في جبال الٲوراس والأطلس.
وكل هوى مشرقي لابدّ له من محطة عبور قيروانيّة كي ينبت في هذا المغرب في بجاية وقسنطينة وعنّابة وفاس ومرّاكش وطنجة والرّباط. فهي منزلة وسطى ومنطقة عبور كونيّة تستقبل الأفكار والمشاريع الوافدة في فضائها المعرفي المنفتح أين تتلّقح وتشذب وتتخلّى آليا في أوعيتها الذهنية عن كل الشّوائب والزّوائد التي لا تجد مجالها في النّمو والنتاج. هي إذا مجال وفضاء حيوي تتمازج فيه الرؤى والأفكار وتنتج على تربتها وعلى أرضها فكرها الخاص ورؤاها الخاصّة التي تواصل طوافها في الأراضي الرخوة كما الخصبة. من جهة الشّمال تتمدّد الأرض داخل المياه على أشكال متعدّدة من جزر وجزائر وقنوات  فهي كامرأة حبلى تتمدد على الماء في صورة نادرة تمدّ يديها على سطحه، تتواصل مع الآخر في عزّة وإباء وفي خشوع أبديّ يستمتع بترنيمات الكون المبحرة مع موجات البحر من الشّرق أو الشّمال في تماس عجيب، يستقبل الآتي إليه بانفتاح وانشراح، ينظر فيما عنده ويأخذ منه ما يصلح له. لم نر هذا البلد منكمشا ومستسلما إلاّ في حالات الاستبداد والظلم، ولم نره، ولم نعهده يفرز أكثر مما ينتج إلاّ في حالة أن يكون الوصي عليه ظالم أو جاهل . ولم نر فيه عافية وتطلّعا للبناء والعمل على الإنتاج وتصدير الأفكار والمشاريع والمناهج إلاّ زمن الحرية، زمن الانسجام بين إرادته وإرادة أبنائه وتطلعاتهم. زمن الإضاءة والإطلالة على الشّرق والشّمال والغرب زمن الوفاء بلا أبطال والنساء والرجال.
ومن الجنوب تمتد على أطرافه الصحراء وتغمره الرّمال تدفع فيه الطّاقة وتركّز فيه العطاء حتّى يؤدّي دوره الرّيادي في الإشعاع وإنارة طرق المسافرين في الفضاء وعلى الماء.
هذا هو بلد المشاريع والرؤى وطن الأحلام التي أشعلها البسطاء. وطن يبغي حرّية وينشدها، حرية تمكنه من الفضاء الملائم كي ينمو دون تشوهات تلحق مراجعه ومشاريعه، وطن يؤسّس من بعد الثورة على الفساد والعمل والبناء كي يقدم نموذجه في زمن عز فيه الوفاء....
وبلد يستحق من فلذات أكباده أن يلبوا النّداء فالإرادة إن لم تكن جماعيّة لن تقدم لنا الغذاء «الروحي والمادي والمعرفي» وإن لا قدر الله تعطّلت لغة التّواصل بيننا فطرقنا تصبح عسيرة وعرس الشّهيد يتنازع فيه الإخوة والأصدقاء ويعتصم حوله المتعبين والأوفياء.....    
-------
-  أستاذ وباحث تونسي في الحضارة.
ouni_a@yahoo.fr