قول الحق

بقلم
فؤاد بوعلي
الوهم الفرنسي
 في الأيام  الماضية، احتفت فرنسا وأتباعها، ومن يدور في فلكها، باليوم العالمي للفرنكفونية الذي تصرّ فيه، منذ التوقيع على اتفاقية نيامي 1970، على تسويق نموذجها الثقافي والاجتماعي باعتباره:«عربون صداقة وعلامة انضواء الى كل من يختار تعلّم الفرنسية للانفتاح على العالم» بتعبير عبدو ضيوف، الأمين العام السّابق للمنظمة الفرنكفونية. فتحت شعار: «الفرنسيّة لغة مضيافة» اختارت العديد من المؤسّسات الفرنسية برمجة لقاءات وأنشطة مخلدة للذكرى، وسارت على نهجها العديد من المنابر والمؤسسات الذيلية في العالم العربي. فهل تخلّت الفرنسيّة عن لبوسها الصّراعي لتغدو عنوان التّسامح والتّعدد والضّيافة؟ وأليس من الأجدر الصّدح بأنّ الفرنسية أصبحت عبئا على المغرب والدّول الإفريقيّة وفصلتها عن مظان الإبداع العلمي والأكاديمي؟ وما هي الكلفة الاجتماعية والمادّية للاستمرار في فرنسة التّعليم والشّأن العام؟
لقد آمنت الفرنكفونية منذ المرحلة الاستعمارية أنّ بقاءها رهين بالقضاء على الثّقافة الوطنيّة للشّعوب المستعمرة، ومن أجل ذلك خاضت حروبا ثقافية وفكرية عديدة، وما دفاعها عن التلهيج وتسخير مؤسساتها الثقافية لذلك وتوظيف كل الإمكانات المادية واللوجيستيكية لرعاية مشروع الدعوة للعامّية إلاّ دليلا على محوريته في مسار الفرنكفونية. لذلك عندما سألني أحد الصحافيين عن منافحة عراب التلهيج عن الفرنسية، قلت بأنه لم يكن صريحا أكثر من صراحته في هذا الأمر، لأنّ الشّعارات البرّاقة التي يسوق بها دفاعه عن العامّية وتلهيج التّدريس، ليس إلاّ الأكمة التي تخفي حقيقته، وهي الانتصار للفرانكفونيّة بقيمها ولغتها الصّراعية. وحتّى نظلّ في صورة ما يقع بين ظهرانينا، نجد الزّعيمة الحقيقيّة للدّعوة «دومينيك كوبيه» التي تقدم نفسها على أنها متخصصة في شؤون المغرب العربي، وتستغل فضاءات المؤسّسات الفرنسيّة، مثل رواق المعهد الفرنسي بمعرض الكتاب بالبيضاء، للتّرويج للأطروحة التي جعلتها تقطن بالمغرب للدّفاع عنها. لذلك أسّست ما سمي بحركة «نايضة» الشّبابية، كما يبيّن ذلك الشريط الوثائقي(2007) الذي يحمل نفس الاسم والذي أشرفت عليه بمعية «فريدة بليزيد». وقد عملت جميع فروع المعهد الفرنسي في المدن المغربيّة على ترويج هذا الشريط. كما ظلّ النّقاش حول الدّارجة لازمة رئيسة في أروقة المؤسّسات ومعارض الكتاب الذي تشرف عليه السّفارة الفرنسية مثل معرض طنجة، أو تشارك فيه مثل معرض الكتاب والنشر بالبيضاء. إذن فالأمر ليس مصادفة أن نجدهم يحاربون لهجاتهم في وطنهم عملا بما قاله الرّاهب غريغوار: «بمحاربة اللّهجات المحليّة، ونشر اللّغة الفرنسيّة الفصيحة بين جميع المواطنين، ويبشّروننا في وطننا بدور اللّهجة في العلم والمعرفة. فهل هذا هو مفهوم للفرنسية المضيافة؟
تحتفي فرنسا بيوم لغتها وهي تخوض حروبا ضدّ اللّغات الأخرى. ويكفينا المقارنة، ففي نفس الأسبوع الذي ينظّم فيه المجلس الثقافي البريطاني في  لندن المؤتمر السنوي الثّامن لتعزيز ‏تعليم وتعلّم اللغة العربيّة وثقافتها في المملكة المتّحدة يحتدم النّقاش في الجمعية الوطنيّة الفرنسيّة حول ضرورة تعليم اللغة العربيّة وتدريسها لأبناء المهاجرين، لأن ذلك يؤدّي إلى بروز كيان عرقي مضاد، لذا سيعمد إلى مراجعة الاتفاقية مع المغرب لسنة 1983. يحاربون لغتنا ويفرضون علينا لغتهم. وكما صدح رشيد بوجدرة: «إنّ استعمال الفرنسيّة لعبة سامّة»، مما يجعل وجودها يرهن المغرب ودول إفريقيا جميعا بثقافة تفقد كل يوم إشعاعها وتتراجع في سلّم السّوق العلميّة. لذا فالنّقاش حول موقع الفرنسيّة غدا محتدما في جلّ الدول الإفريقيّة، حيث حذفت كلغة تدريس من التعليم في رواندا التي اختارت جعل التعليم الأوّلي بلغتها الوطنية، ودول أخرى مثل السينغال والغابون ستلحق بها قريبا. وبمقارنة بسيطة نجد أنّ الكتب المنشورة في الولايات المتحدة حوالي 300.000 كتاب وفي المملكة المتحدة 206.000، لكنّ فرنسا لا تصدّر إلاّ 63.000 في السّنة، أي بمعدل يصل إلى خمس مرّات أقلّ من الولايات المتحدة وثلاث مرّات أقلّ من انجلترا. وبمعنى آخر فإنّ الشّخص الذي تلقّى تكوينه بالفرنسية ستكون الإمكانات المتاحة أمامه علميّا أقلّ ثمان مرّات من الذي تلقّى تكوينه بالإنجليزية. وإذا أضفنا إلى ذلك ( كما اشار إلى ذلك أحد الأساتذة) أن 98 % من سكان العالم لا يتكلّمون الفرنسية، و4 % فقط من البحوث ينشرها فرنسيّون في المجالات العلميّة الدولية، و 3 % فقط من مستخدمي الأنترنيت في العالم يتكلمون الفرنسية و38 % من الفرنسيين يتكلمون الإنجليزية، وهذه النسبة أكبر من نسبة النّاطقين  بالفرنسية في الدول الإفريقيّة الفرنكوفونيّة وفي مدارس التّجارة الفرنسيّة، 80 %  تلقن بالإنجليزية و30 % في كليات الهندسة. مما يعني أن التعلّق بالفرنسيّة لا تسعف مفاهيم الحداثة والتّنمية والتّقدم في تبريره بل ينبغي البحث عن عوامل أخرى لشرعنته.
فبالرّغم من كل هذه المعطيات، وموازاة مع الجدل القائم في المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي حول لغة التّدريس، نجد الإصرار من طرف النّخبة على تصوير الاستغناء عن الفرنسيّة في التّعليم وتحجيم دورها وإعادتها إلى طبيعتها الوظيفيّة كلغة أجنبيّة تستعمل في مظانها كأنّه إعلان حرب لوهمين راسخين: قوّة اللّوبي الفرنكفوني والعلاقات الاستراتيجيّة مع فرنسا. والأمران معا تعبير واضح عن الأوهام السّياسية والثّقافية التي تروم ترسيخ حالة الهوان العربي والاستيلاب الفكري وفرض الواقع بكل فوضويته. فالخيار الشّعبي الذي تجسّد دستوريا وغدا معه النقاش اللّغوي نقاشا عموميا ومدنيّا جعل اللّوبي الفرنكفوني يخرج كلّ أسلحته إيذانا بنهايته المجتمعية. أمّا العلاقات المتخيّلة مع المستعمر القديم/الجديد فأساسها الرّاسخ هو سيادة الوطن وقدرة مدبري  الشأن العام على الاستفادة من مواطن القوة الذاتية والارتقاء بشراكاتهم الدولية المتعددة لصالح وطنهم. أما الوهم  فستذروه الرياح.
-----------
-  عالم لسانيات مغربي - رئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية
fouadbouali5@gmail.com