في ذكرى عيد ميلاد الإصلاح

بقلم
حسين السنوسي
قراءة غير موضوعيّة في مجلّة الإصلاح (2) حول ثنائيّة الإصلاح والتنمية
 1. للبناء أداة وحيدة هي العمل وللعمل شرط أساسيّ هو العلم وللعلم أثر أساسيّ في حياة النّاس هو التكنولوجيا التي هي تعريفا مجموع تطبيقات العلم أو العلم مطبّقا والتكنولوجيا هي ما يفصل جذريّا بين نوعين من البلدان : تلك التّي تنتجها ونسمّيها البلدان المتطوّرة وتلك التّي تكتفي باستهلاكها ولم يعد أحد يجرؤ على تسميتها بالبلدان المتخلّفة وبين التّخلف والتّطوّر طريق شاقّة هي التّنمية.
2. لمجلّة الإصلاح توأم ثان هو حزب الإصلاح والتّنمية. حاورت المجلّة ثلاثة (1) من قياديّ الحزب فتحدّثوا في الإصلاح كثيرا ولم يتحدّثوا في التّنمية إلّا قليلا. محمّد القوماني (2) تطرّق في حديثه إلى مسيرته الفكريّة والسّياسيّة ومن خلالها إلى المعارضة أو بالأحرى المعارضات التّي واجهت نظامي بورقيبة وبن علي وإلى تجربة الإسلاميّين التّقدّميّين «كتعبيرة نقديّة في الفكر العربي المعاصر الباحث عن آفاق وحلول خارج الأنساق الإيديولوجيّة المغلقة»(3). القوماني تحدّث أيضا عن الحياة السّياسيّة في تونس بعد الثّورة وفي هذا السّياق عن معضلة العلاقة بين السّياسي والديني و كمثال لهذه العلاقة عن مطلب التّنصيص على الشّريعة مصدرا للقوانين في الدستور الذي كان في تلك الفترة بصدد الكتابة. محرز الدريسي(4) تناول في حديثه العلاقة بين السّياسي والثّقافي ودور المثقّفين في الإرتقاء بالمجتمع إلى مستوى لا تعوزه «الرّوح» ولا «الأفق التّاريخي»(5) كما تناول الإصلاح التّربوي المنشود بأهدافه وآليّاته ومعوقاته. معضلة العلاقة بين السّياسي والدّيني احتلّت في هذا الحديث أيضا مساحة لابأس بها.  لم يشذّ الحديث مع مصدّق الجليدي(6) عن سابقيه فقد تطرّق إلى نفس معضلات التّربية والحداثة والتّحوّل الدّيمقراطي وعلاقة الدّيني والسّياسي.  
3. لم تنل التّنمية حظّها في هذه الأحاديث. أشار إليها القوماني بعجالة في سياق «تعميق نظرتنا لتراثنا للقضاء على معوقات التّنمية والتّقدّم»(7) ثمّ باعتبارها «الغاية و.. الأولويّة في هذه المرحلة» ثمّ حين أكّد على ضرورة أن تكون «عادلة» و «شاملة» و «مستدامة» وأن يكون الإنسان محورها وغايتها. مصدّق الجليدي أيضا لم يتوقّف عندها طويلا بل ذكرها كنتيجة نرجوها «لنظام تربوي بديل»(8) لابدّ من بلورة معالمه وتفاصيله. أمّا الدريسي فلم يتطرّق إليها بشكل مباشر وإن كان موضوع التّربية الذي أخذ حظّا من حديثه ذا علاقة وطيدة بالتّنمية.
4. لماذا لا يتحدّث سياسيّو الإصلاح والتّنمية عن التّنمية بنفس الإطناب الذي يتحدّثون به عن الإصلاح ؟ هناك رأي للدّكتور حسن حنفي قد يفسّر  إلى حدّ كبير هذا التّوازن المفقود في خطاب جلّ التّيّارات السّياسيّة العربيّة. يقول صاحب مشروع التّراث والتّجديد «النّهضة سابقة على التّنمية وشرط لها والإصلاح سابق للنّهضة وشرط لها والقفز إلى التّنمية هو تحقيق لمظاهر التّقدّم دون مضمونه وشرطه»(9).   
5. عندما ننظر إلى الأحزاب السّياسيّة في تونس -وفي غيرها من البلدان العربيّة-  نرى أنّها أحزاب مبادئ لا أحزاب برامج وأحزاب مثقّفين ومفكّرين لا أحزاب خبراء بل لعلّها تكون «أقرب إلى وضع جمعيّات وطنيّة للفكر السّياسي منها إلى أحزاب سياسيّة حقيقيّة»(10) وحين ننظر إلى العمل السّياسي نرى أنّه مازال لم يأخذ شكله الجّديد الذي يمليه سقوط الدّيكتاتوريّة أي أنّه لم يتحوّل بعد من عمل احتجاجي -بل وخطابي في بعض الأحيان- إلى عمل  يستجيب إلى «مقتضيات البناء الدّيمقراطي و تحقيق التّنمية»(11)  وحين ننظر إلى إطارات الأحزاب السّياسيّة  نرى أنّها مازالت هي نفسها لم تتغيّر وكأنّي بالأحزاب تطبّق قاعدة «النّاس معادن، خيرهم في الدّكتاتوريّة خيرهم في مرحلة البناء»في حين يبدو واضحا أنّ «الذي صلح في فترة المعارضة كمناضل قد لا يصلح لمرحلة البناء» (12).
6. قاعدة «الإصلاح أوّلا» التّي عبّر عنها الدّكتور حنفي والتّي نعتقد أن جلّ التّيّارات السّياسيّة العربيّة طبّقتها من حيث تدري أو لا تدري قد تكون مقبولة -بل وضروريّة- في فترة مقاومة الإستبداد وقد تكون مقبولة -بل وطبيعيّة- حين يلتزم بها المفكّرون والمثقّفون والدّعاة الذّين لايسعون إلى القيام بدور سياسيّ بالمعنى الدّقيق للكلمة.
7. قاعدة «الإصلاح أوّلا» تسقط حين يتعلّق الأمر بالعمل السّياسي في مرحلة البناء فالتّنمية شرط للإصلاح كما أنّ الإصلاح شرط للتّنمية و «الثّورة الصناعيّة والزراعيّة لا تتمّ إلّا بعد القيام بثورة إنسانيّة سابقة عليها وشرط لها» (13) ولكنّ الثّورة الإنسانيّة لا أمل في حدوثها بدون ثورة صناعيّة وزراعيّة تطعم الجّائع وتشغّل العاطل وتخرج الأمّة من وضع «كغثاء السّيل» إلى وضع «ما استطعتم من قوّة».
8. في الفكر العربيّ المعاصر-محافظا كان أو نقديّا- محاور خمسة يمكن أن نردّ إليها -متفرّقة أو مجتمعة- كلّ المسائل التّي أقضّت مضاجع المثقّفين والسّياسيّين وكثيرا من عامّة النّاس في هذه الأمّة. هذه الأصول هي الإسلام والعروبة والحرّيّة والعدالة والتّنمية وفروعها مشكلات الدّين والدّولة والتّراث والتّجديد والأصالة والمعاصرة والحداثة وما بعدها وحقوق المرأة وعلاقتنا بالغرب والنّظامين السّياسي والإقتصادي ولغة التّعليم ومضمونه ودور الفن وحدوده والشّريعة وأوضاعنا القانونيّة ومفهوم الأمّة ومشكلة الهويّة والوحدة والتّجزئة والدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان والصّراع العربي الصّهيوني وقراءة التّاريخ وكتابته وتعزيزالبحث العلمي ونقل التكنولوجيا وفرار الأدمغة وهجرة اليد العاملة وبطالة أصحاب الشّهادات العليا وغير هذه المسائل معضلات كثيرة. 
9. ما يجب أن ندركه اعتمادا على تجربة هذه الأمّة منذ عصر النّهضة هو أنّ المحور- الأساس في هذه المحاور الخمسة هو التّنمية فبدون التّنمية تنتشر القراءات المتشنّجة للإسلام وتضعف قدرتنا على «استعمار الأرض والإضطلاع بوظيفة الإستخلاف»(14) وبدون التّنمية تصبح اللغة العربيّة لغة هزيلة لأنّ من يستورد الأشياء يستورد أسماءها معها وبدون التّنمية تكون الأرض العربيّة أسواقا مجزّأة تتقاسمها الشّركات الأجنبيّة وبدون التّنمية يضحّي العرب بحريّتهم طمعا في الرّزق أو خوفا من عدوّ لا يهابهم ولا يرقب فيهم إلّا ولا ذمّة وبدون التّنمية  يستحيل الخروج من جاهليّة يأكل القويّ فيها الضّعيف وبدون التّنمية يظلّ التّحوّل الديمقراطي وهما بعيد المنال لأنّ «نجاح هذا التّحوّل متوقّف على مجموعة من الشّروط منها الشّرط الإقتصادي بمعنى ضرورة وجود قاعدة اقتصاديّة-صناعيّة» (15) 
10. التّنمية إذن هي الأساس. نقول هذا ثمّ نستدرك. نحن نعلم أنّ كثيرا من الجّرائم ارتكبت باسم التّنمية وأنّ السّياسات التّعليمية المخالفة للهويّة وضعت بدعوى اللّحاق بركب التّطوّر وأنّ البعض تجرّأ حتّى على أركان دين اللّه بهذه الحجّة. لذلك لا نقول «لا صوت يعلو فوق صوت التّنمية»  بل نكتفي بالقول إنّ التّنمية شرط ضروري غير كاف لبناء ما نريده لأنفسنا من قوّة تؤهّلنا للعب «الدّور المناط بعهدتنا في مسرح التّاريخ العامّ للإنسانيّة» (16) . 
11. نشرت مجلّة الإصلاح في عامها الأوّل أربعة عشر مقالا في التّنمية كتب نصفها الأستاذ نجم الدّين غربال وثلاثة منها المهندس فيصل العش.  قبل أن نتحدّث عن مضمون هذه المقالات نشير إلى أنّ عددها لا يتجاوز نصف عدد المقالات التي تطرقّت إلى موضوع التربية وأن عدد المساهمين فيها أقلّ بكثير من عدد الذين كتبوا في هذا الموضوع الذي ندرك أهمّيته وضرورة التّركيز عليه إذا أردنا إصلاحا. هذه المقارنة تثبت لنا مرّة أخرى أنّ أبناء التّيار الإصلاحي-العروبي-الإسلامي لا يعيرون التّنمية الأهمّية التّي تستحقّها بل إنّ بعضهم يضع جانبا إختصاصه -في الهندسة أو في الإقتصاد مثلا- ليكتب في الفقه أو في التّاريخ أو في السّياسة.
12. قدّم العش في مقاله الأوّل مقدّمة  لرؤية  اقتصاديّة لتونس ما بعد الثّورة دعا أهل الإختصاص إلى تعميقها وتحويلها إلى مشروع يكون «بديلا للنّظام الليبرالي المشوّه»(17) الذّي ورثته البلاد عن الدّيكتاتوريّة. الرّؤية إصلاحيّة وسطيّة بامتياز تعطي للدّولة دورا وللمبادرة الفرديّة دورا وتضمن للعمّال حقوقا ولرأس المال مجالا للعمل وتجعل الإنسان محورا للتّنمية ومحقّقا لها ومستفيدا من نتائجها. الأعمدة الثلاثة لهذه الرّوية هي «الحرّية والتّشاركية واللّامركزيّة» (18).
13. الحرّيّة هي شرط الوجود : لاوجود لسوق بدونها ولا وجود لاقتصاد بدون سوق وهي حرّية المبادرة والإبتكار والتّنقّل والملكيّة والتّجارة ولقد ظللنا مثل أمم أخرى نلهث عقودا طويلة وراء وهم الدّولة المنتجة-المخطّطة-الموزّعة أملا في أن يكون ذلك طريقنا إلى التّنمية والعدالة كليهما فلم ننل من ذلك إلّا تضخّم البيروقراطيّة وانهيار ثقافة العمل وتفشّي المحسوبيّة والزّبونيّة.
14. في الإقتصاد كما في السّياسة نقول إذن بالحرّيّة شرطا لأبسط خطوة إلى الأمام ولكنّنا نقول أيضا بضرورة وجود «دولة قويّة لها مؤسّسات ضامنة تعتمد القانون لتحقيق العدالة الإجتماعيّة» (19) ومراقبة وتنظيم العمليّة الإقتصاديّة ضمانا للشّفافيّة وتحقيقا «لشروط المنافسة ومنعا للإحتكار»(20). نودّ أيضا  أن نؤكّد على أنّه لاجدوى من الحرّيّة ما لم تنتشر ثقافة العمل بديلا عن التّواكل والرّغبة في التّطوّر الفردي والجّماعي بديلا عن ثقافة الحدّ الأدنى.
15. التّشاركيّة ضمان لعدم احتكار الثّروة ولرفع المستوى المادّي لأكبر عدد ممكن من النّاس ولإخراجهم من سلبيّة المستهلك إلى دور المشارك في عمليّة الإنتاج استثمارا وتسييرا ومراقبة. الحرّية والتّشاركيّة يمثّلان في هذه الرّؤية الإصلاحيّة الوسطيّة وجهان لعملة واحدة فهما تتكاملان حماية للمجتمع من الحرّيّة التي لا ضابط لها -الليبراليّة المتوحّشة- ومن التّشاركيّة المفروضة والزّائفة -الإقتصاد الذّي يقع بكامله تحت هيمنة الدّولة.
16. اللّامركزيّة قد تكون شعارا مرحليّا بالأساس فرضته الحالة الكارثيّة للمناطق الدّاخليّة التّي كشفت عنها الثّورة. لذلك فإنّ العشّ يجعل من أسس السّياسات الإقتصاديّة التي يدعو إليها «اعتماد مبدأ التّوازن في تخطيط وتنفيذ  المشاريع الإقتصاديّة بين الجّهات المختلفة مع التّركيز على الولايات الدّاخلية المحرومــة»(21) و«اعتماد اللاّمركزيّـــة الماليّة والإداريّة كأسلوب لتقليص الصّعوبات في وجه الإستثمار»(22). نودّ فقط أن نضيف أن هذه اللّامركزيّة يجب أن تمارس في كنف العقلانيّة الإقتصاديّة وهو ما يعني أوّلا أن لا تكون نقيضا لوجود مراكز اقتصاديّة قويّة وقليلة العدد بالضرورة يتركّز فيها جزء مهمّ من النّشاط الصناعي والخدماتي والمالي للبلاد وهو ما يعني ثانيا أنّ المشاريع التّي تبعثها الدّولة أو تشجّع على بعثها يجب أن تكون قابلة للحياة بدون دعم مفرط أي أن تكون لها سوق تستوعب منتجاتها وهو ما يعني أخيرا أن لا يُطلب من هذه المشاريع أن تشغّل أكثر ممّا يستوجبه الإنتاج.
17.إضافة إلى هذه الأعمدة الثّلاثة  أشار العش إلى نقاط أخرى مهمّة تستحقّ أن يتوسّع فيها أهل الإختصاص أوّلها ضرورة أن يكون لدينا «اقتصاد قادر على المنافسة في السّوق العالميّة»(23) وأن يكون «التعاون الإقتصادي مع دول المغرب العربي وبقيّة الدّول العربيّة والإسلاميّة والإفريقيّة بعدا استراتيجيّا في بناء سياستنا الإقتصاديّة»(24). تأتي أهميّة هاتين النّقطتين التين تعمّدنا الجّمع بينهما من صغر السّوق التّونسيّة وعجزها على توفير مجال حيويّ لإقتصاد البلاد وإمكان وجود هذا المجال الحيوي في السّوقين المغربيّة والعربيّة لأسباب ثقافيّة وفي السّوق الإفريقيّة لأسباب جغرافيّة وفي السّوق العالميّة لأنّ التّطوّر الهائل والمتسارع لوسائل الإتّصال بأنواعها أسقط الحواجز التّي كانت تحدّ من جريان الأموال والبضائع فضلا عن المعلومات والأفكار والإبتكارات. لا بدّ أن نؤكّد في هذا الصّدد على ضرورة إيلاء  «اقتصاد المعرفة»(25) وتكنولوجيا الإتّصال أهمّيّة قصوى من ناحية التّكوين والتّمويل وتعميم البنى التّحتيّة المتقدّمة.
18.  منوال التّنمية(26) الذي يقترحه نجم الدّين غربال يلتقي في جوهره وفي خطوطه العريضة مع الرّؤية التّي يطرحها العشّ. هذا المنوال يأخذ «بعين الإعتبار العوامل الجغرافيّة والتّاريخية والثّقافيّة والدّينيّة»(27) لمجتمعنا لذلك فإنّه يركّز على ضرورة « تفعيل اتّحاد المغرب العربي اقتصاديّا» ومراجعة السّياسة السّياحيّة للبلاد واعتماد الصّيرفة الإسلاميّة رافدا للنّظام المالي للبلاد إلى غيرها من السّياسات التي تعتمد على ثقافة البلاد أو على موقعها الجّغرافي والعلاقات الخارجيّة التّي يؤسّس لها. 
19. من أهمّ ما يميّز تناول غربال لمسألة التّنمية هو ربطه  بين ايمان الفرد أو أغلبيّة المجتمع بدين الله ودورهم في عمليّة التّنمية . هذه إذن رؤية إسلاميّة أوّلا وأساسا. ولأنّها إسلاميّة فإنّ هذه الرّؤية تضع «الإنسان في قلب التّحليل الإقتصادي» ولا تعتبره «رقما مجرّدا من إنسانيّته وسلعة ضمن بقيّة السّلع»(28) وتؤكّد على «الجمع بين الإتيقا بما هي بحث في ما يجب أن يكون والإقتصاد بما هو بحث في ما هو كائن» وتقول -مناقضة الليبراليّة المتطرّفة- بـ «أنّ اقتصاد السّوق والمجتمع لا يكونان مسارين معدّلين ذاتيّا بل الحاجة ماسّة لتدخّل عقلانيّ للإنسان لتعديلهما» (29). 
20. هذه الرّؤية التّي لا نعيب عليها إلّا قليلا من المثاليّة يحدّ من واقعيّتها ونجاعتها تطمع إلى بناء تنمية تكون فيها هذه الأمّة مبدعة لا مقلّدة لذلك فإنّها لا تدعو إلى «الإلتحاق» بالعالم كما هو بل إلى «التّأسيس» أو على الأقلّ «الإضافة» انطلاقا من نقد الواقع الذي غدا فيه الإنسان «مجرّد مكوّن من مكوّنات معادلة رياضيّة»(30) وسعيا إلى بناء واقع يكون فيه الإيمان بالله وباليوم اللآخرضمانا لـ «الحريّة بما هي حقّ وقدرة»(31) وكـ «مدخل للكرامة» وللرّحمة بديلا لعلاقات التّطاحن ومنطق البقاء للأقوى. لابدّ أن نشير هنا إلى أنّ أحد العوائق لقيام مجتمع الحريّة هو أنّ المسلمين لم يحسموا بعد أمرهم في هذه المسألة وما زالت لديهم مع الحرّيّة علاقة متردّدة وخائفة. لابدّ إذن من نظريّة إسلاميّة في الحريّة وممارسة لها تدخلها نهائيّا في ثقافتنا وتجعلها أمرا بديهيّا غير قابل للنّقاش.
21. نعود إلى التّأسيس أو على الأقلّ الإضافة. هناك خصوصيّة إسلاميّة أثارت في السّنوات الأخيرة اهتمام الصّحافة الإقتصاديّة وبعض مؤسّسات التّعليم العالي وبعض الشّركات والكثير من المؤسّسات المصرفيّة. هذه الخصوصيّة هي ما اصطلح على تسميته بالماليّة الإسلاميّة والمقصود بها هو النّظام المصرفي الذّي يلتزم بضوابط الشّريعة التّي من أهمّها منع الرّبا.
22. في العددين 15 و17 كتب غربال مقالين عن الماليّة الإسلاميّة انطلق فيهما من وصف للإقتصاد العالمي كما أظهرته الأزمة التّي هزّته في نهاية العشريّة الماضية.  يتميّز الإقتصاد العالمي حسب هذا التّشخيص «بسيطرة حقيقيّة  للدّائرة الماليّة على الدّائرة الفعليّة الحقيقيّة للنّشاط الإقتصادي بما هي إنتاج للقيمة المضافة» كما يتميّز ب «اقتصاره على البعد المادّي الكمّي والقيم الرّقميّة دون المعنويّات والقيم الأخلاقيّة». في المقابل يعتمد الإقتصاد الإسلامي على «أسس أخلاقيّة وأهداف إنسانيّة تنمويّة مفتوحة على أنشطة بشريّة متنوّعة» وتقوم الماليّة الإسلاميّة -من جملة ما تقوم عليه- على «تحريم الرّبا باعتباره غنم للمقرض دون غرم وكذلك الغرر لأنّ فيه غرم متحقّق وغنم محتمل» و«على ارتكاز العمليّات التمويليّة إلى سلعة حقيقيّة أو عمل محدّد».
23. هناك إذن رؤيتان مختلفتان تماما. الأولى تحكم العالم منذ قرنين على الأقلّ والثّانية لا تحتلّ من الواقع الإقتصاديّ إلّا جزءا ضئيلا. تقوم الرّؤية الثّانية على مبدأ «المال لا يلد مالا» في حين لا ترى الرّؤية الأولى حرجا في ذلك. تفرّق الرّؤية الأولى بصرامة بين الإقتصاد والأخلاق بينما تعتبر الثّانية المعاملات الماليّة جزءا من كلّ يفترض أن يكون محكوما بالتّقوى (32) التّي هي التزام في كلّ ما يقوم به المسلم بقيم تدفعه إلى «فعل النّفع للفرد والمجتمع رغبة في طمأنينة القلوب والحياة الطّيّبة المشفوعة بالجّنّة»(33) وإلى «عدم إلحاق الضّرربالنّفس أو بالآخر»(34) .
24. هناك يكمن التّحدّي الحقيقيّ الذي يواجه الأمّة وهنا تكمن المعركة الحقيقيّة بين الإسلام والرّأسماليّة وهي معركة خاصّيتها الأولى أنّها غير متوازنة وخاصّيّتها الثّانية أنّ من يريد أن يكسبها لا بدّ أن يعدّ لها ما استطاع من قوّة علميّة واقتصاديّة وسياسيّة.  أمّا أنّها غير متوازنة فلأنّها تضع وجها لوجه رؤية أنتج أصحابها عشرات النظريّات وكتبوا آلاف الكتب وأسّسوا مئات الشّركات والمصارف ورؤية مازالت رغم نجاحاتها الحديثة جنينيّة تحتاج إلى تطوير يستند إلى البحث النّظري المعمّق وإلى التّطبيقات التي تثبت نجاعتها. أمّا عن إعداد العدّة لهذه المعركة السّلميّة فلأنّها لا تكسب في الخطب ولا في الكتب التّي تردّد أنّ الإسلام هو الحلّ وأنّه صالح لكلّ زمان ومكان بل في الواقع الذي يتحدّى المسلمين أن يثبتوا أنّهم صالحون لزمانهم وأنّ لديهم حلول للمشاكل الإقتصاديّة والإحتماعيّة والبيئيّة التي يعيشها عالمنا المعاصر.
25.إضافة إلى مقالات العش وغربال في  التّنمية لا بدّ أن نشير إلى مساهمات أخرى تطرّقت إلى نفس الموضوع. أوّل هذه المساهمات مقال غير ممضى(35) يصف الحالة الكارثيّة التي تميّز البحث العلمي في الوطن العربي : ضعف الإستثمارات وضعف الإنتاج كنتيجة حتميّة له وهجرة الكفاءات كنتيجة للفساد السّياسي ولغياب البيئة الحاضنة للعلم. كلّ ما نودّ أن نضيفه إلى هذا المقال هو أنّ البيئة غير الحاضنة للعلم وهذا المناخ غير المناسب للبحث غير راجع فقط إلى غياب الحرّية وانعدام تقدير العلم والعلماء بل لا بدّ أن نعترف بأنّ مجتمعاتنا مازالت في جزء منها ما قبل-علميّة تحتلّ الخرافة بأشكالها حيّزا لا يستهان به من تفكيرها وتصرّفاتها وقد قلنا أعلاه إنّ علينا كمسلمين أن نحسم علاقتنا بالحرّية ونضيف هنا إنّ علينا أيضا أن نحسم علاقتنا بالعلم تفكيرا وتمشّيا وممارسة يوميّة. 
26. من مظاهر اللاتنمية التّي أرّقت الكثير من الباحثين والسّياسيين وكانت أحد الأسباب الرّئيسيّة لاندلاع الثّورة مشكلة البطالة التّي تناولها بالبحث بسّام العقربي(36) في العدد 22.  لن نتوقّف هنا عند التّشخيص القيّم المدعّم بأرقام محيّنة للظّاهرة بل نمرّ مباشرة إلى الحلول التّي يقترحها. بعد أن ينفي وجود حلول آنيّة للقضاء على هذه الظّاهرة -وهو محقّ في ذلك لأن لا أحد يملك عصا سحريّة- يدعو إلى مراجعة المنظومة التّعليميّة والتّكوينيّة و فكّ الإرتباط بالمنظومة الأوروبيّة وتوسيع الشّراكة مع دول أخرى -أهمّها دول الجوار- والتّشجيع على الإستثمار عامّة والإستثمار في قطاع الفلاحة خاصّة. هذه الحلول التّي نوردها باختصار نرجو أن لا يكون مخلّا يمكن أن نترجمها بطريقة أخرى فنقول أن لا أمل في حلّ معضلة البطالة داخل المنظومة الحاليّة بل لا بدّ من الخروج منها بالإصلاح الجّذري للسّياسة التّعليميّة وبالقضاء على التّبعيّة وعلى التّجزئة وعلى التّواكل الذي يمنع المبادرة الفرديّة وعلى السّياسات التّي تعرقلها.           
27. الخروج من هذه المنظومة هو أيضا ما يدعو إليه رضا السمين (37) حين يعتبر  أنّ»الإستثمار في الإنسان هو شرط التّنمية والتقدّم» ثمّ يجعل لـ»جهود المجتمع والدّولة» - نعم المجتمع والدّولة لا الدّولة فحسب كما تقول بذلك العقليّات المتواكلة-  أولويّات منها ردّ الإعتبار للعمل كقيمة أساسيّة وتحقيق الأمن الغذائي وتطوير الإقتصادين الأخضر والتّعاوني وترشيد علاقة التّعليم بالإقتصاد.
28. هذه الأولويّة الأخيرة تصلنا بموضوع تأخّرنا في التّطرّق إليه أكثر ممّا ينبغي وهو موضوع التّربية والتّعليم. نتساءل ونحن نختم حديثنا عن التّنمية: ما هي علاقة هذه الأخيرة بالتّعليم ؟ هل يتحمّل النّظام التّعليمي الحالي مسؤوليّة في حالة اللّاتنمية التي نعيشها وإذا كان ذلك كذلك فما هو حجم هذه المسؤوليّة وهل لدينا «حلول جاهزة» أو على الأقلّ أفكار أوّليّة لتأسيس سياسة تعليميّة وتكوينيّة تكون مقدّمة للتّنمية أو بالأحرى إحدى مقدّماتها ؟ 
الهوامش
(1)  القوماني والجليدي والدريسي.
(2)  عدد 1 و 2.
(3)  نفس المرجع.
(4)  الأعداد 8 و 9.
(5)  نفس المرجع.
(6)  سابق. مرجع
(7)  الأعداد 3 و 4.
(8)  نفس المرجع.
(9)  مقدّمة كتاب «التّراث والتّجديد»
(10)  الجليدي. المرجع السابق.
(11)  القوماني. المرجع السّابق.
(12)  القوماني . المرجع السّابق.
(13)  حنفي . المرجع السّابق.
(14)  مصدّق الجليدي-عدد 1.
(15)  الأستاذ غزالي بلعيد عدد 11
(16)  د سالم العيّادي. مرجع سابق.
(17)  فيصل العش. عدد 19.
(18)  نفس المرجع
(19)  العش. عدد 18.
(20)  نفس المرجع
(21)  نفس المرجع
(22)  نفس المرجع
(23)  العش. عدد 19.
(24)  عدد 18.
(25)  عدد 18
(26)  عدد 12
(27)  نفس المرجع
(28)  نجم الدّين غربال. عدد 14.
(29)  نفس المرجع
(30)  نفس المرجع
(31)  نفس المرجع
(32)  غربال. مرجع سابق.
(33)  غربال. مرجع سابق
(34)  غربال. مرجع سابق
(35)  عدد 17.
(36)  عدد 22.
(37)  عدد 4.
-----------
-  أستاذ جامعي تونسي مقيم بفرنسا.
houcine.senoussi@gmail.com