متابعات : من أنشطة منتدى الفارابي

بقلم
فيصل العش
آفاق الإصلاح التربوي بين التاريخ والفلسفة
 في إطار نشاطه الفكري والثقافي لسنة 2015، نظّم منتدى الفارابي للدّراسات والبدائل بمركّب الجموسي بصفاقس يوم الأحد 8 فيفري جلسة علميّة تحت عنوان «آفاق الإصلاح التربوي بين التّاريخ والفلسفة» تضمّنت مداخلة للدّكتور «محمد بومانة» أستاذ الفلسفة بالجامعة الجزائريّة حول «الفكر التّربوي عند إبن خلدون وكانط ومدى استفادة التّربية العربيّة منهما» ومداخلة للدكتور «محمد ضيف الله» أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية قدّم فيها قراءة نقديّة لكتاب الأستاذ الدكتور «علي الزيدي» الذي أصدره منتدى الفارابي ضمن سلسلة إصداراته تحت عنوان «دراسات في تاريخ التعليم بالبلاد التونسيّة في الفترة المعاصرة». واختتمت هذه الجلسة العلميّة بحفل توقيع للكتاب من طرف المؤلف.
قدّم لهذه الجلسة الأستاذ سفيان سعدالله العضو المؤسس لمنتدى الفارابي ونائب رئيسه وتعرّض في مداخلته إلى مسألة الإصلاح التربوي والتفكير فيها والذي حسب رأيه  يتطلب وضع أسس جديدة للمنظومة التّربوية بعد مراجعة نقديّة عميقة للأسس القديمة. غير أنّ التفكير السّليم لا يكون في مجال يتعلّق فقط بالأسس بل يتضمّن أيضا تحديد الآفاق.فكل منظومة تربويّة يجب أن تكون لها أسس ومناهج وأهداف ورهانات وكل إصلاح تربوي لا قيمة له دون أسس صحيحة ولا قيمة له دون أفق إنساني قيمي مشروعي (ضمن مشروع حضاري). إنّ الأنظمة التربوية الناجحة تقوم أساسا على الإجابة على الأسئلة التالية: كيف نتعلّم؟ وكيف نعمل وكيف نعيش وكيف نحيا؟ لأن الغاية من التربية لا تنحصر في إعداد «المتعلّم» للنجاح ولكن ليتعلّم كيف يعيش وبأي معنى. 
إنّ كل المشاريع الحضارية تقوم بالضرورة على أسس تربوية لأن التربية هي أهم ركيزة تعتمدها الشعوب لبلورة وتحديد مشروعها المستقبلي الذي يحدّد مكانتها وموقعها بين الأمم. 
وتحدّث الدكتور «محمد بومانة» في مداخلته عن العلاقة الوطيدة التي تربط الفلسفة بالتربية، فالفلسفة تبحث في ماهية الإنسان وعلاقته بذاته ومحيطه وفي القيم والأخلاق وتقدّم رؤية للعالم ومفهوم للحياة وتأويلٍ للواقع وتتمثّل مهمة التّربية في ترجمة ذلك إلى أسلوب عيش ونمط تفكير وتحيين كل ذلك في أفعال. لذلك يرى «جون ديوي» أن الفلسفة هي «النظرية العامّة للتّربية» وأنّ التّربية هي «المعمل الذي تختبر فيه الأفكار الفلسفية» ولذلك أيضا اعتبر «جون جاك روسو» كتاب «المدينة الفاضلة» لأفلاطون أفضل ما كتب في التّربية بالرغم من أن الكتاب معروف لدى الجميع بأنّه كتاب في السّياسة.
واختار الأستاذ بومانة «إبن خلدون» من جهة و «إيمانويل كانط» من جهة أخرى لأنهما نموذجان مختلفان ومتناقضان وآراهما التربويّة غير معروفة، فابن خلدون ينتمي للفكر التّربوي الإسلامي وهو من الاتجاه الواقعي في حين ينتمي كانط للفكر الغربي الحديث وهو أب الفلسفة المثالية الألمانية. وأعلن المحاضر أنّ الهدف من تسليط الضّوء على هذين الرجلين وعرض بعض ملامح الفكر التربوي عندهما يتمثل في التنبيه إلى التجاهل اللامبرر لأقطاب الفكر التربوي في مشاريع الإصلاح التربوي بالعالم العربي والنظر في امكانية استفادة التربية العربية من أعمال الرجلين مع التأكيد على امكانية الجمع بين منهج يقوم بالأساس على التشخيص من خلال الواقع (ابن خلدون) والمنهج المثالي (كانط).
وتحدّث بومانة عن الفكر التربوي عند ابن خلدون الذي أفرد بابا خاصّا (الفصل السادس) من مقدّمته لقضايا التربية والتعليم وكان أكبر باب في الكتاب وهو ما يدّل على الأهميّة التي يوليها لموضوع التربية. كما عرّج على مصادر هذا الرّجل التي تتلخّص في الواقع المعاش والتاريخ وخاصّة تاريخ المجتمعات الاسلامية، الذي لم يتعامل معه تعاملا سرديّا  ميكانيكيّا آليّا بل بطريقة الفيلسوف حيث ألمّ بالأحداث واستخرج منها مجموعة من القوانين وكذلك تجربته الذّاتية وتكوينه العلمي والمعرفي سواء عندما كان تليمذا أو عندما أصبح أستاذا
 وتطرّق «بومانة» في محاضرته إلى أهداف التّعليم وأقسام العلوم عند «ابن خلدون» بعد أن أشار إلى علاقة التربية بالعمران البشري عند الرجل حيث يربط مستوى التعليم بمستوى العمران فكلّما تناقص العمران يتدنّى مستوى التعليم والعكس صحيح.
ثمّ تحدّث عن «إيمانويل كانط» الذي يؤكّد على مسألة التربية بالنسبة للإنسان، ذلك أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يجب تربيته، فالتربية عنده عملية بناء وتكوين للإنسان وهدفها أن تنمي عند الكائن كل ما يستطيعه من كمال. ويعتبر أن غاية التربية لا تنحصر فقط في الاهتمام بالحالة الراهنة وتكوين الناشئة وفق متطلبات الواقع الراهني الذي يعيشه المجتمع، أو إعداد الأطفال للنجاح في الحياة كما يريد ذلك أولياؤهم، بل الأهم عند كانط هو تكوين هؤلاء حسب رؤية مستقبلية ، يقول كناط « يجب ألاّ يربى الأطفال فقط بحسب حالة النّوع البشري الرّاهنة، بل بحسب الحالة الممكنة التي تكون أفضل منها في المستقبل، أي وفق فكرة الإنسانيّة وغايتها الكاملة» 
 وتحدّث عن أهداف التربية كما يراها «كانط» والتي تشمل الانضباط (إذ الانضباط عند كانط هو الفعل الذي يجرد به الإنسان من حيوانيته، وهو يقابل التوحش) وتشمل الرّعاية والثّقافة وتحصيل الحيطة والتنشأة الأخلاقيّة. 
ومن مميّزات كانط أنه يفرّق بين الثقافة العامّة والخاصّة، فالأولى تنشد المهارة والإتقان وتكوين القوى العقليّة ، والثّانية تنشد تنمية القدرة على المعرفة، وتنمية الحواس والذّاكرة، كما يؤكّد على أنّ التربية الأخلاقيّة يجب أن تقوم على مبادئ وتفترض الكثير من الأنوار لدى الأولياء والمعلمين. لقد ارتبطت المسألة التربويّة لدى «كانط» ارتباطا وثيقا بالأنوار والتنوير وفي هذا يقول « إن الأنوار تتوقف على التربية كما أن التربية تتوقف هي بدورها على الأنوار».
وحسب «بومانة» فإنّ «كانط» يفضّل التربية العموميّة على التربية الخصوصيّة ويعتبر أن انتاج المواطن الصالح يتمّ في المدارس العموميّة.
ودعى في خاتمة محاضرته إلى الاستفادة من الفكر التّربوي عند ابن خلدون وكانط إذا أراد العرب إعداد مشاريع تربويّة تغيّر واقع الأمّة وتخرجها من الجهل والتّخلف.
وفي مداخلته لتقديم كتاب الأستاذ الدكتور«علي الزيدي»، تحدّث الأستاذ «محمد ضيف الله» عن أهميّة العودة إلى التاريخ وإنجاز قراءة لما حصل في مجال التربية والتعليم ببلادنا إذا ما أردنا أن نؤسّس لمنظومة تربوية جديدة، فدراسة التّجارب التي تمّ تنفيذها في تاريخ تونس أمر ضروري لكي نضع منظومة جديدة للتّربية والتعليم وفي هذا الإطار يعتبر كتاب الدكتور «علي الزيدي» مرجعا مهمّا وبحثا مفيدا لأنّه تطرّق من زاوية تاريخيّة إلى فترة هامّة من تاريخ التعليم والتربية في تونس وهي الفترة المعاصرة.
ويرى ضيف الله من جهة أخرى أن موضوع إصلاح التعليم كان حاضرا بقوّة في نضالات الحركة الوطنيّة منذ نشأتها وبقي هذا الموضوع مطروحا عند نشأة الدولة الوطنيّة بعد الاستقلال لكن ورغم المشاريع العديدة لإصلاح المنظومة التربويّة بداية من المسعدي ووصولا إلى الشّرفي في تسعينات القرن الماضي، فإن موضوع إصلاح التّعليم يعود في كلّ مرّة ليُطرح من جديد نظرا لأنّ الذين اهتمّوا به لم يعالجوه علاجا شاملا فقد تعوّدنا في تونس أن نتحدث عن سياسات تربويّة وليس إصلاحا تربويّا شاملا.
وبعد فترة النقاش والحوار مع الحاضرين اختتمت الجلسة بحفل توقيع للكتاب أشرف عليه الذكتور علي الزيدي.
------
تقرير :  فيصل العش