في العمق

بقلم
عبدالمجيد بن ابراهيم
المنظومة الفقهية الاصولية التقليدية استراتجية البيان اللفظي - الحدود والبدائل
 مداخل التجديد الأصولي الفقهي كثيرة في الحقيقة وقد اخترنا في هذه المرّة مسألة على غاية الخطورة تتعلق بنظام عمل «العقل الأصولي الفقهي» وهي التي تتعلق بأكثر بمسألة البحث في اللّغة واللّفظ كواسطة لبلوغ الدلالة الشرعيّة. 
كيف يحصل الأصولي على مخرجاته الفقهيّة من خلال اللّغة؟ وما هي حدود استراتجيّة البيان اللّفظي؟ وماهي أهم البدائل في ذلك؟
(1) استراتجية البيان اللفظي : البيان والنقد
تحتلّ الألفاظ مكانة جدّ هامة في آليات استنباط المعاني والدّلالات الشّرعيّة حيث يستفرغ المجتهد الجهد (1) أي ولوج عالم اللّغة وتفريعاته المتشابكة من أجل بلوغ الدّلالات أو المعاني المناطة. 
وبما أنّ هذا الأصولي قد حسم أمره في ساحة أخرى غير ساحة الفقه ونعني بذلك فضاء علم الكلام في مسألة النّظر الى النّص القرآني حيث يعرّف النّص بكونه كتاب معجز ومفارق ذو مصدرية إلاهيّة فهو لا يجوز له أن يكون مشوبا بالإلتباس أو التّناقض، فهو كتاب أُنزل «بلسان عربي مبين» فسماته هي دائما البيان والوضوح. 
إن ألفاظ القرآن هي ذات معاني موقوفة (2) وهي بالتّالي واضحة، وهي فوق ذلك معاني منتهية وإنّ الاجتهاد قد أُغلق بابه خوفا من دخول الإلتباس والغموض الذي قد تدخله الدعوات الهدّامة، هكذا سيكون عمل المجتهد أو الأصولي مقتصرا على دور الإبانة على معاني مقرّرة سلفا. 
أين يكمن إشكالنا؟ 
تحدّد المدوّنة الأصولية أنماط الدّلالة في نوعين: دلالة ظاهرة ودلالة خفيّة، ويمثل المحكم والمفسر من النّوع الأول بينما نجد النّص والظّاهر والمشكل والمؤول والمتشابه... من النوع الثاني وما يهمّنا هو النّوع الثاني، فكيف السّبيل لتجاوز ذلك الإلتباس؟ 
يحدّد الأصوليّون دورا محدّدا لهم وهو فكّ الإلتباس على ألفاظ الكتاب الكريم الذي هو نصّ مبين وأنّ تلك الدّلالات الخافية تتطلّب قليلا من الاستثمار لا أكثر، يكفي فقط الارتكاز على اللّغة في بلوغ الطمأنينة. هكذا يشرع الأصولي لدخول غابة اللّغة والألفاظ ويقدّم تحديدات وتعريفات ظاهرها اللّحاق بالمعنى الشّرعي لكنّها في أصلها بحث مركّز في الألفاظ وقواعد اللّغة حتى يخيّل إلينا أنّنا أمام نُحاة لا فقهاء حيث يورد كثير من السّياقات من المشترك الى المترادف الى العام والخاصّ والطلق والأمر والنّاسخ والمنسوخ ...
ولكي ندلّل على ذلك التّوجه ننظر في مسألة الإسم المشترك وهو ينتمي الى الدّلالة الظّاهرة أي الإسم الذي يتحمّل التأويل ومعناه لا يتّسم بالوضوح، يحسم الأصولي أمره بكون المجتهد لابدّ أن ينتظر بلوغ المعنى الواحد وأنّ تعدّد المعنى هو أمر عرضي مؤقت، ونأخذ على سبيل المثال كلمة – ملامسة- وهو اسم مشترك يحمل أكثر من معنى لكن الأصولي يوقفه على معنى واحد وهو لمس المرأة وقد انساقت المنظومة السلفيّة الى حدّه في لمس المرأة فمنعت على إثره كلّ أنواع التّواصل بين النّساء والرجال. 
نسوق مثالا آخر في هذا الصّدد حتى تتوضّح الصّورة، والأمر يتعلّق هذه المرّة بمسألة العام وهو بدوره ينتمي الى الدّلالة الظاهرة في تقسيم الأصوليون لأنواع الدّلالة، حيث ينظر الأصولي كما سبق وأشرنا الى اللّفظ تحديدا في بلوغ الدّلالة الشرعيّة. المثال هو حديث النّبي صلّى الله عليه وسلّم الذي يقول فيه : «أُمرت أن أقاتل النّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك ، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى» (رواه البخاري ومسلم). فاسم «النّاس» اسم عام سيق لبلوغ دلالة عامّة شرعيّة، فهل يعني ذلك أنّ الإسلام يجيز قتل جميع المشركين وهو ما انزلق فيه كثير من الفقهاء السطحيين؟. 
لقد سقنا مثالين نعتقد أنّهما بالوضوح الكافي لتحديد مقصوداتنا. إنّ المدخل اللّفظي هو مدخل موجود ومتأصّل في الفضاء الأصولي وهو أمر متضخّم يكفي أن نسوق تفريعات الإمام الأصولي المعتزلي أبي الحسين البصري في كتابه «المعتمد في اصول الفقه» حول التّخصيص ومراتبه من الصّفة الى الغاية والشّرط ... وقد ردّ عليه الإمام الغزالي في كتابه «المستصفى» بنفس الطّريقة أن متابعة هذا السّجال يجعلك تعتقد انغماس الأصوليّين في قواعد اللّغة من نحو وصرف وبلاغة... ربّما يتوه القارئ في كثير من الأحيان في غابة القواعد اللّغويّة، فينسى جهة أبحاثه الفقهيّة التي هي مناط غايته. لكن هل هذه المعقوليّة ذات أسس قويّة أم هي غير قادرة على الصّمود أمام حجج تفيد بتناقضها. 
(2) بيان النقد
يقودنا استقراء الظّواهر اللّفظية في النّص القرآني الى أنّ الاستناد الى الألفاظ وحده هو أمر لا يرتكز على أسس صلبة وسوف نحاول إثبات ذلك. 
فإذا نظرنا مثلا الى مسألة اللّفظ المشترك سوف نتيقّن أنّ النّظر والرّهان على اللّفظ وحده سوف لن يؤدّي الى بلوغ الدّلالة الشّرعيّة. خذ مثلا لفظ «قرء» في الآية الكريمة «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَء»ٍ (228 - البقرة)، حيث نجد أنّ اللّفظ «قرء» الإسم المشترك طبعا قد أوّل تأويلين مختلفين الأول بمعنى «الطّهر» وهو تأويل الصّحابي زيد ابن ثابت في المدينة والثاني بمعنى «الحيض» للصحابي الجليل عبد الله بن مسعود في الكوفة، وهو ما يؤكد أنّ اللّفظ كوسيلة لبلوغ الدّلالة هي محلّ قصور وأنّ عنصرا آخر لعب الدّور الأكبر ونقصد الواقع الحاف بعمليّة تطبيق الحكم. 
فاللّفظ إذا لا يشكّل رافعة واقية من المزالق ولكي نؤكّد ذلك نشير الى مثال آخر وحتّى يكون إقناعنا أعمق، اخترنا نفس المثال في الأعلى وهو حديث النبي الكريم «أمرت أن أُقاتل النّاس ..» وقد أخذت المنظومة الحدّية الحرفيّة هذاالحديث على ظاهره اللفظي بينما يؤدّي التعمّق في النّص بجملته الى وجود نصوص تناقض هذا الحديث على غرار آية «لا اكراه في الدّين ..»(125 - البقرة) وآيات آخرى تبيّن وتفصّل هذا الحكم «...الاّ من اعتدى عليكم..» فليس كل المشركين هم هدف للمسلمين بل الاّ من بادرهم بالاعتداء. إنّ هذا المثال يؤكّد أنّ منهجيّة البيان اللّفظي محدودة وأنّ اعتماد اللّفظ فقط يؤدّي بنا الى الوقوع في المنهج التجزيئي للنّص بينما يجب التّعامل مع النّص وفق وحدة معنوية واحدة متكاملة. وكثيرة هي الأمثلة ونورد هنا على وجه السرعة عدّة نصوص وردت على سبيل التّخصيص ولكنّها عمّمت مثل أحاديث متعلّقة بحكم الصّور والغناء والموسيقى ...
إنّ الأصولي قد اعتمد على استراتجيّة البيان اللّفظي من الألفاظ الى أدوات التّعميم والتّخصيص والإطلاق والتّفصيل يحدوه العمل على حصول المطابقة الدّائمة بين الألفاظ والمعاني، لكنّ ذلك لم يحصل وأثبت الزّمن والواقع أنّه يحتاج الى آليّات أخرى لكي تظلّ المطابقة حاصلة بين القرآن والعصر. 
إنّ الأصولي يجب أن يتخلّى عن تصوّر كون تعدّد المعاني هو خصيصة للإلتباس والغموض بل بالعكس هي علامة قوة للنّص وفتح المجال للعقل والاجتهاد. إنّ القول بالمعاني المطلقة هو دعوة لتجميد النّص في حين المطلوب هو بناء علاقة ديناميّة بين النّص والواقع. إنّ الاسم المشترك والعام والتّخصيص والإطلاق والتقييد والنّاسخ والمنسوخ يمكن أن تكون باب لفتح باب الاجتهاد، فالاسم المشترك وتعدّد معانيه يجعلنا أكثر قدرة على تبيئة النّص مع كل ظرفيّة وكل واقع جديد، أمّا توقيفه بمعنى واحد فإنّ ذلك لن يقودنا إلّا الارتباك وكذلك مع بقيّة الدّلالات المذكورة وهو ما يفتحنا على مفهوم التّاريخية (3) والتي تعني القول بالمعاني الكبرى للنّص مع القدرة على التلون بالواقع .
يجب أن نقطع مع نظريّة اتّهام الواقع حين تحصل عمليّة الارتباك، بل يجب توجيه الاتّهام لإفهامنا للنّص. إنّ هذه الحصيلة تجعلنا نعيد قراءة العلاقة بين النّص والعقل والواقع من حيث تتحول العلاقة من علاقة عموديّة بين نصّ مفارق متعالي وبين الواقع المتّهم دائما الى علاقة أفقيّة تبادليّة بين النّص والواقع والتأكيد أنّ معاني القرآن هي معاني بشريّة تتأثر بعدّة شروط من أهمّها السّياق والواقع والعقل وظروف المجتهد الذّاتية، فالقرآن هو حمّال أوجه ويأوّله الرّجال كما قال الإمام علي ابن ابي طالب. 
بدائل أخرى ...
سوف نحاول تعميق الرّؤية التي نريد بلورتها أكثر وسنشير هنا الى مفهوم «ختم النّبوة». إنّ انتهاء الزّمن النّبوي يعني أنّ العقل الإنساني قد اكتمل وأنّها ثقة الله في هذا العقل وقدرته على تنظيم حياته وعمرانه. إنّ هذه الرّؤية تقطع مع الرّؤية التي كنّا بصدد تحليلها والتي تجعل من العقل مبينا لعلاقة المطابقة بين اللّفظ والمعنى كما يشير الاستاذ الجابري لذلك. إنّ هذه الرّؤية الجديدة تطرح وجود آليّات جديدة طرحها الفقهاء أنفسهم على غرار فقه الأولويّات وفقه المآلات وفقه المصالح وفقه المقاصد(4) ضمن ما يسمى فقه الواقع. كما يمكن الانفتاح على مدارس في فلسفة اللّغة كالبنيويّة والتفكيكيّة والفللوجيا والهرمونيطيقا مع دامر وبول ريكور ومع الفيلسوف رولان بارط في كتابه «نظرية النّص»(5). 
بالاضافة الى كل ذلك نستطيع الإستفادة من العلوم الإنسانيّة وهي حاجة ملحّة مثل علوم الإجتماع وعلوم الإحصاء وعلم النفس ...إنّ تشابك هذه العلوم في خدمة المعنى سوف يخدم النّص القرآني ويزيده قوّة ومتانة ويضحّي أكثر استجابة لديناميّة العصر وأسئلة الواقع المتغيرة. 
لقد تناولنا في النّص الفارط مسألة العلاقة بين القرآن والسّنة واثبتنا خواء المعقوليّة في المنظومة الأصوليّة الفقهيّة التقليديّة الشّافعيّة. ها نحن نواصل عملنا لاثبات مظهر آخر من مظاهر الخور في هذه المنظومة متعلّق بآليات عملها والمتعلّق باستراتيجيّة البيان اللّفظي واقتصارها عليها وقد بيّنا ذلك وأثبتنا ضرورة التّوسّل بآليات أخرى تعيد للنّص ديناميكيّته وحيويته والأكثر تعيد للأمة حضورها.
هوامش 
(1) الجهد حيث يعرف الاجتهاد بكونه استفراغ الجهد في استنباط الاحكام
(2) التوقيف والاتّفاق وهو خلاف حول طبيعة اللّغة خاضه الأصوليّون لاسيّما المعتزلة والأشاعرة.
(3) التّاريخيّة ليس بالمعنى الأركوني لأنّ ذلك المعنى يؤدي الى حصول الفراغ نقصد بالتّاريخيّة هي مواءمة النّص مع الواقع التاريخي.
(4) المقاصد، وقد تبلور هذا الفقه مع أبي اسحاق الشّاطبي في كتابه «الموافقات». 
(5) «نظريّة النّص» كتاب لرولان بارط ترجمة حوليّات الجامعة التونسية.
(6) يمكن مراجعة كتب أخرى على غرارالشّرط في القرآن للأستاذ عبد السلام المسدي.
 -------
-  أستاذ  التاريخ.
imedfawzi14@yahoo.fr