قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
المنوال والانسان
 اجتاحت الثّلوج مناطق شاسعة من البلاد وحوّلتها الى ما يشبه السّجاد الأبيض أو ما يشبه جبال الصّوف، وتلك مناطق طقسها لاذع البرد شتاء ولا قبل للفقراء به وهم يحتاجون الى الحطب ومواقد الغاز للتّدفئة ويحتاجون أكثر إلى الأكل والغطاء وسائر المستلزمات الضّروريّة لمجابهة برد يلسع العظام. والمفارقة العجيبة أنّ هذه الرّبوع إن لم تكتس حلّة بيضاء بفعل الثّلوج فإنّها تكتسي حلّة خضراء شديدة البهاء على مدار السّنة حتى سميت مطمورة روما في زمن كانت فيه الفلاحة بدائيّة .
ولعلّ من نافل القول أنّ تلك الرّبوع لم تحض بما يليق بها من العناية في العقود الماضية حتى أصبحت تعاني الفقر والتخلف وحتى صار أهلها لا يجدون للحياة الكريمة سبيلا. ولم تحصل بعد عقود من الاستقلال على جظّها المفترض من التّنمية ولذلك كان منظر الثّلوج على أرضها شديد الوطء على النّفوس لأنّه كان يعني لذي البصيرة حكايات طويلة لا تحصى عن المعاناة التي ستسبّبها تلك الثّلوج للسّكان قليلي المال و الحيلة .
لا أحد يستطيع أن ينكر حجم المأساة التي عليها سكّان مناطق عديدة في هذا البلد ولأن المواطنة تعني الانتماء الحقيقي للوطن، فإنّ من حقّ هؤلاء أن يصبحوا مواطنين في بلدهم وهذه المواطنة، فضلا عن كونها ليست منّة من أحد، فهي ضرورة لهؤلاء وللبلد. وهذا الأمر لن يكون ممكنا في المدى القريب وفي المدى البعيد ما لم تراجع سياسات التّنمية لتشمل هؤلاء المواطنين قبل غيرهم. فهل ندخل الجمهوريّة الثّانية بقناعات جديدة أساسها الحقّ في المواطنة وفي الوطن أم أنّنا سوف نسير على ذات الدّرب الذي سرنا فيه عقودا طويلة لتتجدّد مأساة هؤلاء بين حين وحين ؟ وهل تحتاج هذه المأساة الى الثّلوج والفيضان للتّذكير بها وهي مأساة قائمة في كل حين؟
ما يسترعي الإنتباه حقّا في هذه الآونة هو هذا التغيّر الملاحظ في تناول الإعلام لما حدث، ففي حين كان سقوط الثّلوج مأساة زمن الثّلاثيّة التي حكمت بعد الانتخابات الأولى، فقد أصبح منظر الثّلج خلاّبا في هذه المرّة وحبّذا لو تكرّر كل حين ليجلب السّواح، أمّا الحديث عن معاناة النّاس وما سببّته تلك الثّلوج من مأساة، فقد كاد يغيب وهذا أمر فضلا عن كونه لا يخدم الحقيقة، فهو شطط لا محلّ له سوى التّجاذب السّياسي الذي لن يزيد البلد إلاّ انقساما. ولا يقتصر الأمر على الإعلام وإنّما يتعدّاه الى النّخبة الثّقافية والسّياسيّة. ففي حين كان السّياسيون منشغلون بحصاد الانتخابات كان المثقفون وأهل الفن وأصحاب المصالح منشغلين بريع رأس السنة الادارية ومنهم من كان شغله الشماتة في المغادرين للصفوف الأولى من المشهد السّياسي شماتة أهمّ عنده من أيّ مأساة قد تحلّ بالبلد.
لقد ابتلينا في هذا البلد بعقود من الاستبداد ونهب الثّروات، وقبلها جثم الاستعمار على أرضنا وعلي صدور أجدادنا وفرّقنا شيعا، واليوم نبتلي بنخب لا همّ لها إلاّ الصّراع الايديولوجي العقيم ونفي الآخر واستئصاله والدّوس على مواطنته. نخب لا تعرف الفقر وإنّما تعرف التّخمة ولا تعرف الفقراء وإنما تعرف المتاجرة بهم، وهي لا تهتمّ بمعاناة البسطاء من النّاس قدر اهتمامها بالمناكفات السّياسيّة والفكرية ولذلك ترانا نضيع كل فرصة تُتاح لنا، ولعلّنا أضعنا الثورة والثائرين بمثل هذا الغباء .
إنّ الأسئلة التي تطرحها مأساة المناطق المهمشة والمواطنين المسحوقين منذ عشرات السّنين أسئلة لا تتعلّق بمنوال التّنمية الحالي وما كان قبله فقط، إذ يتّفق الجميع على إدانة هذا المنوال التّنموي وغيره  وتحميله مسؤوليّة ما حدث لهذه المناطق من احتقار، ولكنّ هذه الأسئلة تتعلّق خاصّة بدور النّخب الثّقافيّة والفكريّة والسّياسيّة في نحت معالم مشروع مجتمعيّ قوامه الانسان بما هو انسان بغضّ النّظر عن انتمائه المناطقي ومرجعيته الفكريّة والسّياسيّة والدينيّة.فهل كان لهذه النخبّة أي دور في لفت الانتباه الى أنّ الانسان هو عنوان أيّ تنمية وهو قوام أيّ مشروع مجتمعي وأنّه لا معنى للحرية وللدّيمقراطية وللانتخاب وللاختيار إذا لم نتوفّق جميعا في الرّقي بهذا الانسان حتى يرتقي الى درجة المواطن وإلي درجة الانسان الحقيقي؟. وأيّ انسان قادر على المشاركة والابداع والاختيار ونخبتنا تشوّهه ولا تعترف بحقّه في التفكير الحرّ و في الإرادة  وفي نحت الذّات على النّحو الذي يريد؟
لم تقع تنمية المناطق السّاحليّة إلاّ ضمن مقاربة فكريّة وسياسيّة لا ترى في التّونسي إلاّ جزءا من المشروع التّغريبي و تابعا فكرا وسلوكا للأمّ الفرنسيّة التي يأتي أبناؤها وجيرانهم سوّاحا في ربوع البلد الذي هو لهم رغم أنوف ساكنيه، ونحن لسنا إلاّ أمثالهم أو خادمين لهم فيه ولذلك كان المنوال التّنموي الأول والأخير خادما لهذا المشروع ولم ينتج إلاّ نخبة مهترئة سهلة الانقياد كثيرة المماحكة، أشدّ دفاعا عن مشروع الحداثة الوهميّة من أصحاب المشروع نفسه.  فما الذي قادتنا إليه نخبنا الحداثيّة بعد هذه العقود؟
إننا لا نحتاج إلي تغيير المنوال التنموي فقط وإن كان هذا من أوكد الأولويّات وإنما نحتاج إلى ثورة في العقول تجمع شتات البلد بعضه إلى بعض، وتنظر إلى تجارب الأمم من قبلنا ومن حولنا كيف استطاعت أن تنهض في بضع سنين بفعل بنائها إنسانا جديدا يحبّ وطنه وكلّ أهل وطنه، متجذّرا في أصالته وفي لغته خاصّة، ولعلّ في سنغفورة وأندونيسا والبرازيل أمثلة عن هذه البلدان. أمّا إذا ظلّ كل فريق لا يفكّر إلاّ في استثناء الآخر وإقصائه وإذا ظّل بعضنا يسلّ سيفا من الغرب وبعضنا يسلّ سيفا من الشّرق وأكثرنا يحتقر لغته وثقافة غيره ونصفنا في صراع مع النصف الآخر وكلّنا نهرول مستجدين علاجا من الخارج فيا خيبة المسعي.
إن بلدا مثل بلدنا قد حباه الله بأكثر ما تحتاج بلاد لكي تكون رائدة وهو لا يحتاج من أبنائه إلاّ إلى الكثير من العمل وإلى التفكير في مناهج للتّغيير تحفض البلد من التشضّي والاحتراب وتحفض للجميع الحقّ في الرّيع والمشاركة،  أمّا ما دون ذلك فهو سراب ووهم. ومن يفكّر بتغييب بعض أهله أو إستئصالهم ومن يفكّر في قتل الأبرياء من مواطنيه ودفع البلد إلى أي نوع  من الاحتراب بدعوى تطبيق شرع الله كلّ هؤلاء إنّما يضيعون علينا جميعا فرصة تنمية هذا البلد على النحو الذي يرضي الجميع...
------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com