كلمات

بقلم
عبدالنّبي العوني
الاسلاميون والدولة الحديثة
 الدولة صوريًّا، في ذاكرة الإسلاميين أو في نصوصهم الفكرية الشّحيحة أو وفق ممارساتهم السّياسية، هي كيان تقليدي يتمتّع بمجال نفوذ وسيطرة نافذة وسلطانيّة تعود بنا لأدبيات الأحكام السّلطانية، أو لاستعارات رمزيّة لمملكة أمويّة مشذّبة وطوباويّة طوال عهدي سليمان بن عبد الملك وخلفه عمر بن عبدالعزيز (715م – 720م).
الدّولة الحديثة واقعيّا أو الآن هنا في شرقنا المتوسّط...هي دولة مستبدّة وغاشمة استولى على هياكلها من لا يملك وسلّمها لمن لا يستحق، لأنّ الذي تربّع على خيراتها وسلطاتها ليس له أيُّ ارتباط بها ولو كان معدنيّا، نتيجة اغترابه، حسبهم، عن هوية البلاد والعباد إضافة لمساهماته الماضية في الاستئثار بمكنوناتها ومكوّناتها الظاهرة والباطنة وبرعاية شبه كليّة من الأبواب العالية في المنظومة الغربيّة. وهي في نظرهم دولة ما بعد استقلالية هشّة (حتى وإن أرّخ لها مؤرِّخوها باستقلالات متتابعة ومتتالية بدءً باستقلال داخلي ثمّ استقلال تام وانتهاءً بجلاء زراعي (النموذج الاستقلالي المدرسي التونسي)) أُسِّست على أنقاض بنية تحتيّة صلبة تركها استعمار امتصّ رحيق ثرواتها الخام الباطنيّة والبشرية، لذلك تعاملوا معها ومع شخوصها وامتداداتها وتحت راياتها بمخاتلة فكريّة مؤقّتة وبفقه ممكن موارب يتأرجح بين التصريح والتلميح وفق مقتضيات المرحلة، مما أنتج ازدواجيّة هجينة عانت منها الأوطان والأتباع والأنصار والأعضاء وأفرز مناهج وأساليب تنظيمية تنهل من إرث التنظيمات السّرية والباطنيّة العربيّة مطعّمة بأمصال من أدبيات سياسيويّة لفكر بلوريتاريا العمال. فمن ناحية هذه الدولة هي «واجبة الوجود» واقعيّا وهي أمر قائم ولها الغلبة والقوامة ومن ناحية متخيًّلة وحالمة هي واجبة النقض، وواجب كفاية تغييرها أو وفق فقه ممكنهم الأدنى تحوير سلوكاتها حتّى تخلّي بينهم وبين الناس وتضمن مساحة الحرّية لهم في السّياحة والسّباحة والتّجميع وفقه الأسر والخلايا... وهذا التّغيير يتطلب التهيئة والإمتداد والتمدّد داخل وخارج الهيكل الموجود، ويتطلّب شخوصا غير الشخوص وزمنا مكثّفا غير الزمن  وحدًّا محسوبا من التطلعات الذهنيّة الذكيّة تشبع نهم الصورة المتخيَّلة...لذلك قال أحد المشائخ في سرائره بأنّ المؤسّسات غير مضمونة...
عند تركيب مقاطع الصور الذهنيّة لدولة الإسلاميين المنتظَرة، نلاحظ إخلالات منهجيّة وتصوّريَّة في مختلف حلقاتها المعلنة أو المبطَّنة وخصوصا إذا أزحنا القشرة التاريخيّة لدولة الخلافة أو دولة السلطنات أو دول الطوائف من القشرة الدماغية لمفكريهم السّياسيين. إذ بالرغم من الضجيج والضوضاء الإعلامية من بعد حرب 48، لم نجمع حقيقة مفهوما حديثا لدولة الإسلاميين ومتلائما مع جملة التغيُّرات الدراماتيكيّة التي مرّت بشرقنا المتوسط، في مستوى الحدود والشّخوص والكيانات....وما هي أسسها   وتكويناتها ومكوّناتها وما هي راياتها وأناشيدها الرسميّة...فهل هي دولة الغلبة والقهر، دولة عقيد في الجيش يسطو ليلا على مقدّراتها ، أم هي دولة تستقر بانتخابات و بالآليات الديمقراطية...هل هي صاحبة الرايات المتعدِّدة الألوان أم ذات اللون الواحد ( الأخضر أو الأبيض أو الأسود أو اللون المذهبي والطائفي الواحد) هل هي دولة رعايا ومخازن وخراج وجزية وردّة..أم دولة لمواطنيها..هل هي دولة تنام هانئة عندما يمسي رعاياها على مشاهد تطبيق أحكام السرقة والزّنا والردّة  وشرب الخمر ولا تأخذ عقول طبقاتهم الخاصّة والمصلحة لا رعشة ولا جزع من مشاهدتهم صباحا وحش الجوع والفقر ينهش الأجساد الغضّة وأرواح تابعيهم في الأزقة المنسيّة والقصيّة من المدن العربية التاريخيّة...وهل الدّولة تتشرّف بلقب الإسلاميّة إذا اجتهد رعاياها ومنتسبوها بإطلاق اللّحية وبعدم إسبال الثّوب على الكعبين...
آنيّا إذا تتبّعنا سلوكات الإسلاميّين وتصرفاتهم مع السلطات التي غنموها بعد ثورات لم يكونوا يوما من منظِّريها، وكيف تعاملوا معها كتنظيمات وكوافدين جدد لم يتحوّروا بعد لاعتلاء الركح السّياسي العربي لما بعد حراك مؤلم وعنيف، وكيف فسّروا الحالات الأولى للتمدّد الشّعبي وغمره لأغلب المناطق الواطئة للدولة مع انحسار تلقائي ومخاتل أحيانا لسلطة القمع القائمة، وكيف تعاملوا مع التعافي المتأنِّي أحيانا والسريع حينا آخر (حسب المواقع) لمنظومة الدولة العميقة القديمة بعد العمليّة الطبيعية لامتصاص الصدمة الأولى والثانية لمقدِّمة الثورة ( أنتج اختفاءً ونكوصا وهروبا مؤقتا) والعمليات القيصريّة التي قامت بها  ابتداءً بمؤخّرة الثّورة (تجنّدت لها كلّ أذرع الدّولة العميقة إعلاميّا، ماليّا، أمنيّا مخابراتيّا وعلاقات دوليّة وباروناتيًّا...)...لم نلحظ تغيّرا ولا فقها واقعيّا بل شاهدنا عقلا أصوليًّا، سكونيَّا ثابتا كثبات الصور الذهنيّة المستدامة في الذّاكرة الجمعيّة، عقلا سلفيّا بامتياز من الصنف الطيني اليدوي، لم تحدث في تركيباته الصلبة أيّة تنقيحات بالرغم من المواجع والمخاضات والآلام والمظالم التاريخيّة...عقل حوزات وريع يستبطن في مناطق ظله المنحسرة بذور مستبدّ صغير بربطة عنق وسيّارة فارهة وحذاء إيطالي الصّنع....لم نرَ إلاّ  استعارة وقتيّة لفقه نصرٍ وتمكينٍ في بيئة اجتماعية وسياسية متحرِّكة وديناميكيّة تفتقد لمراكز ثقل جوهريّة وللثوابت القيميّة والرمزيّة مع غياب شبه تام لمدلول الحراكات والإنتفاضات والثورات العفويّة في مواجهة غير محسوبة لبِنْيَات دولة وأنظمة توليتاريّة تلبس لبوس الحداثات الميكانيكيّة المتنوّعة والمصطنعة ومتمترسة بطبيعتها حول قلاعها وقطاعاتها وإقطاعيّاتها وامتيازاتها التاريخانيّة. كيف إذا تعامل الإسلاميّون مع منظومة الحكم (بعد الانتخابات) مع وصفهم بالوافدين الجدّد الذين يمتلكون سحنات غير السحنات التاريخية وخطابة غير توجيهات فخامة الرئيس وحركات غير الحركات المتربَّى عليها...إذ هم كإعرابيين قادمين على صهوة الثّورة بسيف وسبّحة وسجّادة صلاة وخِمَار...لفتح مخازن المدينة والحاضرة وإسطبلات الّدّولة... في مواجهة لحراك شعبي ونزق نخبوي وإداري- أمني متصاعد ورافض في جزءِ كبير منه لسلوكهم السّياسي والإعلامي والاجتماعي ولبطء وتصلّب ردود أفعالهم واستجاباتهم، مع حالات ذهنيّة ونفسيّة مهتزّة وذات ذبذبات وتردّدات لم يستطيعوا تقدير حجم ارتفاعاتها.
كيف عالج الإسلاميون معضلاتهم ومآزقهم ومعضلات الحكم ومآزقها، بنبرة صوتيّة خافتة وخالية من كلّ دفء     وحرارة مع سحنة بلاستيكية جافة لم تدب فيها الحياة ولا تبعث للمشاهدين أيّة موجات إيجابيّة وردود أفعال واستجابات لا تتزامن ولا يتعادل منسوبها مع الحالة الفوضويّة التي اعترت محاولاتهم الترقيعيّة بعد أن اعترت الشارع، وكيف تصرّفوا مع حالتَيْ النصر( كما تخيّلوها) وحالة الهزيمة (في حدِّها الأدنى هزيمة سياسيّة) وكيف تمّ تبرير مواضع النصر والرخاء ومواقع الهزائم والشدّة. وبماذا خرج الإسلاميّون أخيرا كزاد من الإطلالات الحينيّة والبرقيّة على مواقع الدّولة ومؤسساتها وطبيعة روابطها الداخليّة والخارجيّة مع المحيط الإقليمي والدولي.؟
في الأخير...هل يقدّم لنا الفكر السياسي للإسلاميين، بعد كلّ تجاربهم المريرة المديدة مع الشدّة (طوال مراحلهم السريّة) والقصيرة عند الرّخاء (في المراحل العلنيّة)، نماذج أوّليّة ولو كانت ابتدائيّة لفكر ومنهج سياسي متجاوز وجديد ومتخلِّص من كلّ نمط ظاهري ( الفينوتيبات) والمركبات الذهنيّة التقليديّة التي صبغت الرؤى طوال العقود التي تربّعت على مفاصل الجغرافيا والتاريخ دولة ما بعد الاستقلال.
-------
-  أستاذ وباحث تونسي في الحضارة.
ouni_a@yahoo.fr