فلسطين بوصلتنا

بقلم
مصطفى يوسف اللدّاوي
اسرائيل تعيد احتلال مدينة القدس
 قد يبدو للوهلة الأولى أنّه عنوانٌ للفت الانتباه، وأنّه بقصد التّشويق والإثارة، أو أنّه للتّعريض والتّحريض، وأنّه ليس واقعياً ولا حقيقياً، وأنّه تصوري وخيالي، وسيريالي وخرافي، إذ نتحدّث عن احتلال القدس وسقوطها، وكأننا في تاريخٍ ماضي، وزمانٍ قد انقضى، فنعيد تكرار الأحداث كما كانت، وحسب ما جرت، إذ كيف يُحتلُ المحتل، ويُستعمر المستَعمر، فالقدس محتلّة بشطريها الغربي والشّرقي، وكلّها يخضع للاحتلال الصّهيوني بدءاً من العام 1948، الذي يعلن دوماً أنّها عاصمته الأبديّة والموحّدة، وأنّها تخضع لسيادته وحده، وأنّه لا يقبل أن يقاسمه السّيادة والسّيطرة عليها أو على جزءٍ منها أحد، وعليه فلا جديد في الخبر، ولا ما يستدعي إثارته من جديد.
لكنّها الحقيقة وإن كانت في إطارٍ جديدٍ وواقعٍ قديم، فالعدوّ الإسرائيلي يخطّط لاحتلال مدينة القدس من جديد، والسّيطرة على مسجدها الأقصى وباحاته، وشوارعها العتيقة وحواريها التّاريخيّة، وأبوابها العديدة وأحياءها القديمة، ويريد أن يطمس هويتها العربيّة والإسلاميّة، وأن يطرد سكّانها وأهلها، وأن يفرغها من أصحابها، ويصادر منهم ممتلكاتهم، ويحرمهم من حقوقهم. 
ولأنّه بات يستشعر أنّ في القدس مقاومة، وأنّها تقف على فوهة بركانٍ من اللّهب، وتكاد تنطلق في انتفاضةٍ جديدةٍ، عملاقةٍ مدوية، قد تكون أكبر من سابقاتها، وأكثر صخباً وقوة من مثيلاتها، وأنّ أسبابها قد باتت حاضرة، وظروفها أصبحت ناضجة، وجنودها حاضرين، وأدواتهم متوفّرة وجاهزة، وأنّ التهديد بانطلاقها قد تجاوز الكلام إلى الفعل، والتنظير إلى الميدان، فبات لزاماً عليه أن يواجه ما زرع، وأن يتصدّى لنتائج سياساته في المدينة.
ضاق أبناء مدينة القدس ذرعاً بالممارسات الإسرائيلية، وباتوا غير قادرين على تحمل السياسات العدوانية، أو غضّ الطّرف عن التصرّفات الاستيطانية، ولا عن المسلكيّات الاستفزازيّة، وأبدوا غضبهم من محاولات اقتحام الحرم القدسي الشّريف، والصّلاة فيه أو تقسيمه مكانياً وزمانياً، وحرمانهم المتكرّر من الصّلاة فيه أو الدخول إليه، وهم أبناء المدينة وجيران الحرم، وزاد من سخطهم عمليات القتل المتعمّدة التي يتعرض لها مواطنوهم، والتي كان من أسوأها وأقبحها، حادثة خطف وحرق الفتى المقدسي محمد أبو خضير.
غضب المقدسيون لمسجدهم، وثاروا لحرماتهم، وانتفضوا من أجل حقوقهم، وأقسموا بالله أن يواجهوا الاحتلال، وأن يتصدّوا لسياساته، وألاّ يتخلّوا عن الواجب الملقى على عاتقهم، لئلاّ يتّهمهم أحدٌ بالتّقصير والإهمال، أو يصفهم آخر بالضّعف والاستخذاء، وأنهم استمرأوا الذّل والهوان، وقبلوا به وسكتوا عليه، فجرأوا العدوّ على ما هو أكثر وأسوأ، وأنهم بهذا يتحمّلون المسؤوليّة قبل غيرهم عمّا أصاب مدينتهم ولحق بمسجدهم، لأنّهم لم يكونوا على قدر المسؤولية، ولم يهبوا بصدقٍ في وجه الاحتلال، لهذا فقد أرادوا أن يثبتوا لأبناء شعبهم أولاً، ثم لأمتهم العربيّة والإسلاميّة، أنّهم أوّل من يتصدّى للاحتلال، وأنّهم لا يتأخّرون عن مقاومته، ولا يمتنعون عن مواجهته، وأنّهم لا يطالبون شعبهم وأمّتهم بالنّصرة والعون، في الوقت الذي يهربون فيه من المواجهة، ويقصرون في القيام بواجبهم.
شعر العدوّ الصهيوني بأنّ الجمرة التي كانت تحت رماد المقدسيّين قد اشتعلت من جديد، وأنّها عمّا قريب ستصبح ناراً عظيمة، قد تضرّ به وتؤذيه، وأنّه سيكون من الصّعب عليه تطويقها أو إطفاءها، أو السّيطرة عليها وإخمادها، ولن يستطيع مواجهتها والتصدي لها، ليمنع انتشارها، ويحد من امتدادها، إذ سيكون لها نتائج خطيرة، وتداعياتٍ قاسية، تضرّ بمكانته، وتهدّد سمعته، وتهزّ الثّقة به، وتعرض علاقاته الخارجيّة للخطر، وتحالفاته السّياسيّة للحرج، كما ستظهر بأن –عاصمة كيانه- قلقة وغير مستقرّة، وأنّها تعاني من اضطراباتٍ وقلاقل، وفيها مظاهرات واشتباكات، ويسمع في أرجاءها طلقاتٌ ناريّة، وتطلق في أنحائها قنابل دخّانية، وأخرى مسيلة للدّموع، وسيكون على مداخلها وفي قلبها حواجزٌ وموانع، وسياراتٌ عسكريّة ودورياتٌ للشّرطة، وشرطةٌ خيّالة وأخرى راجلة، وحراسٌ للحدود، ومجموعاتٌ من الجنود.
لهذا قررت الحكومة الإسرائيلية إعادة احتلال مدينة بالقدس بالكامل، وبسط السيطرة عليها، وممارسة السيادة على كل ما فيها، فأمر رئيسها بنيامين نتنياهو وزير داخليته وكافة المسؤولين عن الأمن في المدينة، بضرورة أخذ كل الاحتياطات اللاّزمة، والتدابير الخاصّة، لضمان السّيطرة على المدينة المقدّسة، وفرض الأمن فيها، ووقف كافة عمليات الاحتجاج والتظاهر، ومنع الفلسطينيين وسكان المدينة من القيام بأي أعمالٍ قد تخلّ بالأمن العام، أو تربك الحياة العامّة في المدينة، وتهدّد باندلاع انتفاضة غضبٍ جديدة.
نفّذ المسؤولون الإسرائيليّون التعليمات بسرعةٍ وعجل، فبدأت طائرات الهليكوبتر تحلّق في أجواء مدينة القدس، تصوّر وتراقب وتسجّل، وتنقل الضباط والمسؤولين المكلّفين بإدارة شؤون المدينة، وأطلقت مناطيدٌ كثيرة في سماء المدينة، تصوّر وتراقب وتسجل وتنصت، وتنقل تفاصيل دقيقة لما يجري على الأرض إلى القيادة العسكرية الإسرائيليّة، ونصّبت الأجهزة الأمنيّة حواجزها في كل مكان، وبدأت عملياتٌ واسعة للتّفتيش والتّحقيق والمساءلة، واعتقل العشرات من أبناء المدينة، وأطلق المسؤولون الإسرائيليون أيدي الجنود الضّباط والمستوطنين، ليفتحوا النّار على كلّ الأهداف التي يرون أنها خطرة أو مريبة.
وصدرت التعليمات إلى المحاكم العسكريّة الإسرائيليّة بضرورة تشديد العقوبات بالسّجن لغاية عشرين سنةً، مع غراماتٍ مالية عالية جداً ضدّ راشقي الحجارة، خاصةً الأطفال منهم، وضدّ المحرضين على العنف، والمعتدين على المستوطنين، والدّاعين إلى مواجهة الإجراءات الإسرائيلية.
باتت مدينة القدس هذه الأيام ثكنةً عسكريةً حقيقيّة، وكأنها تعيش عشية أيّام الاحتلال الأولى، جنودٌ وضباطٌ وعساكرٌ في كل مكان، وعرباتٌ مصفحةٌ وناقلاتُ جند في كل الزوايا والأنحاء، واجتماعاتٌ ولقاءاتٌ ومخطّطات، وحركةٌ سريعة، وجلبةٌ كبيرة، وتنقلاتٌ كثيرة، ولكن مع فارقٍ كبير، هو أن المقاومة في المدينة حاضرة، وأن خطوات الاحتلال فيها غير ميسرة، وأن سعيه للسّيطرة عليها ليس سهلاً، وأن الاستعدادات لانتفاضةٍ جديدة، وثورةٍ غاضبة باتت قائمة. 
-----------
-  كاتب فلسطيني
moustafa.leddawi@gmail.com