بحوث ودراسات

بقلم
د.جميل حمداوي
مفهوم الحقيقة في الفكر الإسلامي الحديث (الكواكبي،ارسلان، قاسم أمين)
 اهتم الكاتب السوري عبد الرحمن الكواكبي (1869-1946م) كثيرا بالواقع السياسي العربي والإسلامي على حدّ سواء، فارتأى أن سبب التخلف والانحطاط، كما في كتابه: «أم القرى»، يعزو إلى سوء فهم الدين، وانتشار عقيدة الجبر، وفلسفة الاتكالية، والتعصب للمذاهب، والتدليس على الدين، وانعدام الحرّية، واستبداد الأمراء، وفقد قوّة الرّأي العام، وانتشار الجهل، وفساد التعليم، ومعاداة العلوم الحيّة، وفقدان الرّابطة الدّينية، وعدم إشراك أهل الحلّ والعقد، والميل إلى التّقليد الأعمى، وغلق باب الاجتهاد، وانتشار الاستبداد ، وطغيان الحكم الفردي المطلق، وانعدام الشّورى والعدالة السياسية الحقيقية. (1)... 
هذا، وقد فصل الكواكبي هذه الآراء السّياسية بشكل دقيق في كتابــه الثانـــي: «طبائع الاستبـــداد ومصارع الاستعبـــاد»(2) . بيد أن الكاتب قد ركّز كثيرا على الحقيقة السّياسية، باعتبار أن الاستبداد مسلك للتخلف والانحطاط، مادام ذلك الاستبداد يقوم على التجهيل، والتجويع، والاستغلال، وتضييع الدّين...لذا، فالحلّ الحقيقي لتحقيق النهضة والتنوير يتمثل في تطبيق الشّـــورى، وذلك مصداقا لقوله تعالى :«وشاورهم في الأمر» (3)، ويقول جلّ شأنه في آية أخرى : «وأمرهم شورى بينهم» (4). وفي هذا الصدد، يقول الكواكبي:«من الحكم البالغة للمتأخرين قولهم: «الاستبداد أصل لكل فساد»؛ ومبنى ذلك أن المبحث المدقّق في أحوال البشر وطبائع الاجتماع كشف أن للاستبداد أثرا سيئا في كل واد.
وقد سبق أن الاستبداد يضغط على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده، وإني الآن أبحث في أنه كيف يغالب الاستبداد المجد فيفسده ، ويقيم مقامه التمجد...والحاصل أن المجد هو محبب للنفوس، لاتفتأ تسعى وراءه، وترقى مراقيه، وهو ميسر في عهد العدل لكل إنسان على حسب استعداده وهمته، وينحصر في زمن الاستبداد بمقاومة الظلم على حسب الإمكان...
ويقابل المجد، من حيث مبناه التّمجد. وماهو التّمجد؟ وماذا يكون التّمجد؟... التّمجد خاص بالإدارت المستبدة، وهو القربى من المستبد بالفعل، كالأعوان والعمال، أو بالقوة كالملقبين بنحو دوق وبارون، والمخاطبين بنحو ربّ العزة وربّ الصولة، أو الموسومين بالنّياشين، أو المطوقين بالحمائل، وبتعريف آخر: التمجّد هو أن ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبد ليحرق بها شرف الإنسانية.
وبتوصيف أجلى: هو أن يتقلّد الرّجل سيفا من قبل الجبار يبرهن به على أنه جلاّد في دولة الاستبداد، أو يعلّق على صدره وساما مشعرا بما وراءه من الوجدان المستبيح للعدوان، أو يتحلّى بسيور مزركشة تنبىء بأنه صار أقرب إلى النساء منه إلى الرجال. وبعبارة أوضح وأخصر: هو أن يصير الإنسان مستبدّا صغيرا في كنف المستبد الأعظم.
قلت: إن التمجيد خاص بالإدارات المستبدة، وذلك لأن الحكومة الحرة، التي تمثل عواطف الأمة، تأبى، كل الإباء، إخلال التساوي بين الأفراد إلا لموجب حقيقي، فلا ترفع قدر أحد منها إلا أثناء قيامه في خدمتها؛ أي الخدمة العمومية، كما أنها لا تميزه بوسام أو تشرفه بلقب إلا إعلانا لخدمة مهمة وفقه الله إليها، وبمثل هذا يرفع الله الناس بعضهم فوق بعض درجات.» (5) 
وهكذا، فقد حاول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه: «طبائع الاستبداد» أن يعرف الاستبداد، و يبين مفهومه، ويستجلي كل مرادفات الاستبداد من استعباد، واعتساف، وتسلط، وتحكم...كما استعرض أنواعا من الحكومات المستبدة. وبعد ذلك، يبرز ما للاستبداد من آثار سلبية على مجموعة من القيم الفكرية والاجتماعية، كالدين، والعلم، والمجد، والمال، والأخلاق، والتربية، والترقي. ويخصّص الفصل الأخير بمبحث يتعلق بطرق التّخلص من الاستبداد،  عبر التركيز على ثلاث حقائق جوهرية لمحاربة الاستبداد: 
(1) الأمة  التي لايشعر كلها، أوأكثرها، بآلام الاستبداد لاتستحقّ الحريّة.
(2) الاستبداد لايقاوم بالشّدة، إنما يقاوم باللّين والتدريج.
(3) يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد. (6)
والسبب في تركيز الكواكبي على الحقيقة السّياسية، وذلك باعتبارها الحقيقة الجوهرية التي يجب الاهتمام بها أولا وقبل كل شيء، هو وجود معظم العالم العربي في ظل الحكومة العثمانية المستبدة، ولاسيما حكومة عبد الحميد الثاني المطلقة، التي عملت على تتريك المجتمع العربي، وتجهيله، وتجويعه، وتفقيره، والتنكيل به بطشا وعسفا وقهرا.
ومن هنا، يتبين لنا بأن عبد الرحمن الكواكبي كان مفكرا سياسيا ثوريا، ومفكرا إصلاحيا تنويريا، يستند في أفكاره الجريئة إلى أن الحقيقة السياسية هي الأساس في كل إصلاح مجتمعي لتحقيق النهضة والتقدم والازدهار، ولكن لن يتحقق هذا التقدم إلا بالتحرر من الاستبداد، والتخلص من الحكم الفردي المطلق، وذلك عبر إرساء مؤسسات الشورى والحرية والديمقراطية الحقيقية. ولن يتم القضاء كذلك على الاستبداد إلا بالعلم والتربية والتعليم، وتهذيب الناشئة، وتنوير المجتمع علميا وسياسيا وثقافيا. ويقول الدكتور محمد عمارة في حق الكواكبي: «كان الكواكبي حقّا داعية ثورية مدروسة، وتغيير جذري للمجتمع، لأن ذلك هو الطريق الوحيد المناسب لعظم أهدافه، وخطر القضايا التي كشف عنها فيما كتب من صفحات.
وأدركنا كذلك أن الثورة بالنسبة للكواكبي لايمكن إلا أن تكون النتيجة الطبيعية للمقدمات التي صاغها في شكل بحوث ومشاكل وقضايا واجهها واكتشفها في واقع المجتمع العربي في ذلك الحين، وحلول عملية وتغييرات جذرية قدمها لأمته كي تبعث ثانية، وتجدد عصبتها، وتلحق بالركب الإنساني المتطور، وتسهم في البناء الحضاري الإنساني بالقسط الذي يتلاءم مع ما لها من عراقة وأمجاد وتراث وتقاليد.
ذلك هو عبد الرحمن الكواكبي، في حياته ونضاله...ونظرياته وأفكاره...وسلوكه العملي الثوري، نقدمه، بناء إنسانيا وفكريا متكاملا، ليكون منارة في ضمير حاضرنا ومستقبلنا، كما كان منارة في ضمير امتنان أضاءت ولا تزال تضيء منذ نحو قرن من الزمان.» (7)
وعليه، فعبد الرحمن الكواكبي من أهم دعائم التفكير الإسلامي الحديث، ويعد كذلك من أهم زعماء الإصلاح الحديث (8) ، وقد تأثر بشكل من الأشكال بمحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وابن خلدون، وجون لوك، وتوماس هوبز، وجان جاك روسو، ومونتيسكيو، ومكيافيلي...وما يهمنا في كتاباته أنه يعتبر الحقيقة السياسية هي أسّ الإصلاح، ولكن من خلال القضاء على الاستبداد السياسي المشين،واستبداله بنظام الحرية والشورى والأغلبية الديمقراطية.
أما المفكر والأديب السوري شكيب أرسلان (1869-1946م) ، فيرى بأن الحقيقة الدينية المبنية على أساس التضحية والجهاد هي الحقيقة المثلى للخروج من الانحطاط والتخلف. فقد عمد  في كتابه: «لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟» (9) إلى تحديد أسباب ارتقاء المسلمين  في الأمس، وسبب تقاعسهم في الحاضر، وذلك بالمقارنة مع الغربيين في ماضيهم وحاضرهم. ويعني هذا أن شكيب أرسلان يناقش قضية التقدم والتخلف في ضوء منهج المقارنة بين الشعوب. وقد استهل شكيب أرسلان كتابه بتبيان أسباب ارتقاء الأمة الإسلامية في الماضي، وقد عزا ذلك إلى التشبث بالديانة الإسلامية قولا وفعلا ومنهجا: «إن أسباب الارتقاء كانت عائدة في مجملها إلى الديانة الإسلامية، التي كانت قد ظهرت جديدا في الجزيرة العربية، فدان بها قبائل العرب، وتحولوا بهدايتها من الفرقة إلى الوحدة، ومن الجاهلية إلى المدنية، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الواحد الأحد، وتبدلوا بأرواحهم الأولى أرواحا جديدة، صيرتهم إلى ماصاروا إليه من عز ومنعة، ومجد وعرفان وثروة، وفتحوا نصف كرة الأرض في نصف قرن، ولولا الخلاف الذي عاد فدب بينهم منذ أواخر خلافة عثمان، وفي خلافة علي رضي الله عنهما، لكانوا أكملوا فتح العالم، ولم يقف في وجههم واقف...
والحقيقة أنهم لم يستقلوا استقلالا حقيقيا واسعا إلا بالإسلام، ولم تعرفهم الأمم البعيدة، وتخضع لهم الممالك العظام، والقياصرة والأكاسرة، ويتحدث بصولتهم الناس، ولم يقعدوا من التاريخ المقعد الذي أحلهم في الصف الأول من الأمم الفاتحة إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم.» (10)
وبعد ذلك، يحدد شكيب أرسلان أسباب تخلف المسلمين وانحطاطهم، فيحصرها في فقد المسلمين السبب الذي ساد به سلفهم، وخيانة بعض المسلمين لدينهم ووطنهم بخدمة الأجانب، واعتذارهم بالباطل، وتخاذل المسلمين وتعاديهم، وتقاعس المسلمين عن البذل لنشر الدين. ومن أهم الأسباب الأخرى وراء تأخر المسلمين، نذكر: الجهل والعلم الناقص، وفساد الأخلاق، ولاسيما فساد الأمراء والعلماء، والجبن والهلع، واليأس والقنوط، ونسيان المسلمين لماضيهم المجيد، وضياع الإسلام بين الجامدين والجاحدين. وهكذا، «فتأخر المسلمين في القرون الأخيرة لم يكن من الشريعة؛بل من الجهل بالشريعة، أو كان من عدم إجراء أحكامها كما ينبغي.» (11) 
وينتقل شكيب أرسلان إلى رصد ماضي الغربيين وحاضرهم، فيبين بأن أوروبا كنت تعيش إبان العصر الوسيط في الظلمات. في حين، كان المسلمون قد توسعوا في العالم لتحقيق مدنية الإسلام: «تنصرت الأمم الأوروبية في القرن الثالث، والرابع، والخامس، والسادس من ميلاد المسيح، وبقيت أمم في شرقي أوروبة إلى القرن العاشر حتى تنصرت، ولم تنهض أوروبة نهضتها الحالية التي مكنتها تدريجا من هذه السيادة العظمى بقوة العلم والفن إلا من نحو أربعمائة سنة. أي: من بعد أن دانت بالإنجيل بألف سنة، ومنها بعد أن دانت به بسبعمائة سنة، ومنها بثمانمائة سنة...إلخ
وهذه هي القرون المسماة في التاريخ بالقرون الوسطى، ولا نقول: إن الأوروبيين كانوا في هذه القرون بأجمعهم هائمين في ظلمات بعضها فوق بعض، بل نقول: إن العرب كانوا أعلى كعبا منهم بكثير في المدنية بإقرار مؤرخيهم.» (12)
أما سبب تقدم الأوروبيين في حاضرهم، فيعود ذلك إلى أخذهم بالعلم والفكرة والإرادة والعزيمة والصناعة، والدفاع عن هويتهم القومية.
وخلاصة القول: إن شكيب أرسلان يتفق مع جمال الدين الأفغاني في أن الحقيقة الدينية هي الأساس لكل تنمية فكرية وعلمية ومدنية في العالم الإسلامي، وهي كذلك القاعدة الكبرى لكل تنوير نهضوي إسلامي، وذلك بفهم الحقيقة الشرعية  فهما حقيقيا قائما على العقل والعلم والإيمان والعمل. وفي هذا النطاق، يقول شكيب أرسلان: «أما الإسلام فلا جدال في كونه هو سبب نهضة العرب وفتوحاتهم المدهشة، مما أجمع على الاعتراف به المؤرخون شرقا وغربا، ولكنه لم يكن سبب انحطاطهم فيما بعد، كما يزعم المفترون، الذين لا غرض لهم سوى نشر الثقافة الأوروبية بين المسلمين دون ثقافة الإسلام، وبسط سيادة أوروبة على بلدانهم، بل كان السبب في تردي المسلمين هو أنهم اكتفوا في آخر الأمر من الإسلام بمجرد الاسم، والحال أن الإسلام اسم وفعل.» (13)
بيد أن هذه الحقيقة الدينية لايمكن أن تتحقق في الواقع العملي، وتعطي ثمارها المرجوة، إلا بالتضحية والأخذ بالجهاد في سبيل الله لنصرة الدّين والمسلمين والأوطان :«إن الواجب على المسلمين لينهضوا ويتقدموا، ويعرجوا في مصاعد المجد، ويترقوا كما ترقى غيرهم من الأمم، هو الجهاد بالمال والنفس، الذي أمر به الله في قرآنه مرارا عديدة، وهو مايسمونه اليوم (التضحية).» (14) 
ومن ثم، فالتضحية أو الجهاد بالمال والنفس:«هو العلم الأعلى الذي يهتف بالعلوم كلّها، فإذا تعلمت الأمة هذا العلم وعملت به، دانت لها سائر العلوم والمعارف، ودنت منها جميع القطوف والمجاني.» (15)
وعلى العموم، فالحقيقة عند شكيب أرسلان هي الحقيقة الدينية المبنية على تمثل روح الإسلام قولا وعملا وسلوكا، والأخذ بفكرة التضحية والجهاد في سبيل نصرة الإسلام والمسلمين على حد سواء: «المسلمون يمكنهم إذا أرادوا بعث العزائم، وعملوا بما حرضهم عليه كتابهم أن يبلغوا مبالغ الأوروبيين والأمريكيين واليابانيين من العلم والارتقاء، وأن يبقوا على الإسلام، كما بقي أولئك على أديانهم، بل هم أولى بذلك وأحرى، فإن أولئك رجال ونحن رجال، وإنما الذي يعوزنا الأعمال، وإنما الذي يضرنا هو التشاؤم والاستخذاء وانقطاع الآمال، فلننفض غبار اليأس، ولنتقدم إلى الأمام، ولنعلم أننا بالغون كل أمنية بالعمل والدأب والإقدام وتحقيق شروط الإيمان في القرآن.» (16) 
وعليه، يتفق شكيب أرسلان وجمال الدين الأفغاني معا في أن الحقيقة الدينية هي أساس تحقيق النهضة الإسلامية، إلا أن جمال الدين الأفغاني يركز كثيرا على الوحدة السياسية والدينية؛ بسبب انقسام المسلمين إلى ممالك ودويلات سياسية، وتشتتهم إلى طوائف ومذاهب دينية. في حين، يشدد شكيب أرسلان على التضحية والجهاد في سبيل نصرة الإسلام والمسلمين؛ وذلك بسبب تنامي ظاهرة الاستعمار في العالم الإسلامي شرقا وغربا.
أما إذا انتقلنا إلى المفكر المصري قاسم أمين (1865-1908م) ، فقد اهتم كثيرا بالحقيقة الاجتماعية، وذلك في كتابيه: «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، معتبرا أن سبب تخلف المسلمين وانحطاطهم يعود إلى تجهيل المرأة الشرقية، والإساءة إليها، ومعاملتها معاملة دونية ؛ ممّا ترتب عن ذلك وجود تربية عائلية أو أسرية فاسدة كان لها آثار سلبية على المجتمع العربي؛ لأن المرأة نصف المجتمع أو هي أم المجتمع، فإذا صلحت المرأة صلح المجتمع، وإذا فسدت المرأة فسد المجتمع. ومن ثم، فهو يدعو إلى إصلاحها، وتربيتها، وتعليمها ، ومعاملتها معاملة حسنة. لذا، فهو يثور على الفهم السيء للدين، كما يثور على العادات والتقاليد البالية التي تنظر إلى المرأة نظرة دونية قاصرة.
هذا، وقد استعمل قاسم أمين منهجا توفيقيا في تعامله مع قضية المرأة، فقد تسلح بآراء العلم الحديث. وفي الوقت نفسه، تسلح بالنص الديني والشرع الرباني لمناقشة الكثير من القضايا الحساسة والشائكة كالحجاب والسفور، حيث يدعو قاسم أمين إلى تخفيف حجاب المرأة على أساس التربية والتعليم. وفي هذا الصدد، يقول قاسم أمين:« والذي يجب علينا هو معالجة المضار التي يظنّ أنها تنشأ عن تخفيف الحجاب، ولا توجد طريقة أنجع في ذلك العلاج إلاّ التربية التي تكون هي الحجاب المنيع والحصن الحصين بين المرأة وبين كل فساد يتوهّم في أيّة درجة وصلت إليها من الحرية والإطلاق.
سيقول معترض: إنّ التربية والتعليم يصلحان أخلاق المرأة، وأما الإطلاق فربما زاد من فسادها، فنجيب أن الإطلاق الذي نطالب به هو محدود يحظر الخلوة مع أجنبي.وفي هذا من الخطر ما يكفي لاتقاء المفاسد التي لا تتولّد إلاّ من خلوة، أما الإطلاق في نفسه فلا يمكن أن يكون ضارّا أبدا متى كان مصحوبا بتربية صحيحة ؛ لأنّ التربية الصّحيحة تكون أفرادا أقوياء بأنفسهم، يعتمدون على أنفسهم، ويسيرون بأنفسهم. فمن كملت تربيته، استقل بنفسه، واستغنى عن غيره، ومن نقصت تربيته، احتاج إلى الغير في كل أموره، فالاستقلال في النساء كالاستقلال في الرجال، يرفع الأنفس من الدنايا، ويبعد عنها الخسائس .لذلك، يجب أن يكون هو الغاية التي نطلبها من تربية النساء.» (17) 
 هذا، وقد استلهم قاسم أمين هذا المنهج التوفيقي الذي يزاوج بين العقل والنّص من أستاذه محمد عبده ، وقد طبقه بشكل واضح في كتابه: «تحرير المرأة».أما في كتابــه:«المرأة الجديدة»، فقد تخلّى قاسم أمين عن هذا المنهج، واستعمل منهج علم الاجتماع، متأثّرا في ذلك بأفكار سبنسر(Spenser)، وداروين، وأفكار الفلسفة الوضعية، مقارنا بين المرأة في الغرب والمرأة في الشرق، فالأولى قد حصلت على كامل حقوقها وحرياتها الطبيعية والمكتسبة، والثانية مازالت تعيش في رقّ وذلّ وجهل  وظلم واستعباد.  وفي هذا النطاق، يقول قاسم أمين:«المرأة الجديدة هي ثمرة من ثمرات التمدّن الحديث، بدأ ظهورها في الغرب على أثر الاكتشافات العلمية التي خلصت العقل الإنساني من سلطة الأوهام والظنون والخرافات، وسلمته قيادة نفسه، ورسمت له الطريق التي يجب أن يسلكها...ذلك حيث أخذ العلم يبحث في كل شيء، وينتقد كل رأي، ولا يسلم إلا إذا قام الدليل على ما فيه من المنفعة العامة، وانتهى به السعي إلى نسخ معظم ما كان الرّجال يرونه من مزاياهم التي يفضلّون بها النساء، ولايسمحون لهن بأن يساوينهم في كل شيء...
والمطّلع على الشريعة الإسلامية يعلم أن تحرير المرأة هو من أنفس الأصول التي يحقّ لها أن تفتخر به على سواها، لأنها منحت المرأة من اثني عشر قرنا مضت الحقوق التي لم تنلها المرأة الغربية إلا في هذا القرن.
فإذا كانت شريعتنا قررت للمرأة كفاءة ذاتية في تدبير ثروتها، والتصرف فيها، وحثّت على تعليمها وتهذيبها، ولم تحجر عليها الاحتراف بأي صنعة، والاشتغال بأي عمل، وبالغت في المساواة بينها وبين الرجل إلى حد أن أباحت لها أن تتولى وظيفة الإفتاء والقضاء. أي : وظيفة الحكم بين الناس بالعدل، وقد ولى عمر رضي الله عنه على أسواق المدينة نساء، مع وجود الرجال من الصحابة وغيرهم، مع أن القوانين الفرنساوية لم تمنح النساء حق الاحتراف بصنعة المحاماة إلا في العام الماضي.
إذا كانت شريعتنا تحامي عن المرأة إلى هذا الحدّ، وتمنحها هذه الدرجة من الحرية، فهل يجدر بنا في هذا العصر أن نغفل عن مقاصد شرعنا، ونهمل الوسائل التي تؤهل المرأة إلى استعمال هذه الحقوق، ونضيع وقتنا في مناقشات نظرية لاتنتج إلا تعويقنا عن التقدم في طريق إصلاح أحوالنا!...لا أظن أن ذلك سيليق بنا، وأرجو أن كثيرا من القراء يرون مثل رأينا.» (18)
وهكذا،  يقوم تصور قاسم أمين على النزعة التوفيقية بين النص والعقل، والشرع والعلم، والتركيز على التربية والمعرفة في تنوير العقل العربي، وتطوير المجتمع على جميع المستويات والأصعدة، والاستعانة بالتحليل الاجتماعي في تناول قضية المرأة، والتشديد على مبدإ الحرية، ونبذ التقاليد الموروثة.
الهوامش
(1) انظر: عبد الرحمن الكواكبي: الأعمال الكاملة، دراسة وتحقيق: د: محمد عمارة، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية سنة1975م.
(2) عبد الرحمن الكواكبي: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، دار النفائس، بيروتن لبنان، الطبعة الثانية، ص:1986م.
(3) من (سورة آل عمران)، القرآن الكريم، رقمها:159، رقم 43.
(4) من (سورة الشورى)، القرآن الكريم، رقمها:38، رقم 42.
(5) عبد الرحمن الكواكبي: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص:56-59.
(6) عبد الرحمن الكواكبي: نفسه، ص:140.
(7) د.محمد عمارة: عبد الرحمن الكواكبي شهيد الحرية ومجدد الإسلام، دار الشروق، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية 1988م، ص:169-170.
(8) د.أحمد أمين: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ص:251.
(9) شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟، دار القلم بدمشق، والدار الشامية ببيروت، الطبعة الثانية 2009م.
(10) شكيب أرسلان: نفسه،ص:21-23.
(11) شكيب أرسلان: نفسه،ص:115-116.
(12) شكيب أرسلان: نفسه ،ص:129.
(13) شكيب أرسلان: نفسه ،ص:124.
(14) شكيب أرسلان: نفسه ،ص:173.
(15) شكيب أرسلان: نفسه،ص:174.
(16) شكيب أرسلان: نفسه،ص:175.
(17) قاسم أمين: الأعمال الكاملة، إعداد الدكتور محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية 1989م، ص:369.
(18) قاسم أمين: الأعمال الكاملة، إعداد الدكتور محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية 1989م، ص:420.
-------
-  أستاذ التعليم العالي (المغرب).
hamdaouidocteur@gmail.com