إن التاريخ له طبيعة خاصة تختلف عن بقية العلوم الأخري، حيث أن التاريخ لا يبحث عن الظواهر الإنسانية فحسب، بل يبحث كذلك في الظواهر الماضية أيّا كان نوعها، وذلك بدراسة ماضي الطبيعة وماضي المجتمعات، لذلك فدراسة هذه الظواهر يجب أن يتم على أساسين مختلفين، أحدهما نظري والآخر تاريخي وهو الذي يحاول أن يرسم لنا صورة واضحة عن التجارب الإنسانية الماضية، مستعينا في ذلك بما تركته ورائها من آثار مادية، كالمقابر والتماثيل والأثاث والنقوش والأدوات المصنوعة، أو آثار نفسية كالقصص والأساطير وغيرها. ولابد من الدارس للتاريخ -أي كان- من أن يدرك فلسفة التفسيرات التاريخية المختلفة ويستخدمها جميعهــــا في فهم حركة التاريخ وهو في نفس الوقت غير ملتزم أو متقيد بتفسير مذهب بعينه، فعليه أن يكون ذاك المؤرخ الــــذي يهـــدف إلى خدمة البحث التاريخي وهو الذي يمكنه في النهاية أن يفسّر لنا حركة التاريخ، وعلى الدارس للتاريخ أيضا أن يبدأ باستعراض الحقائق والتأكد من صدق وقوعها، ثم يكون في نفسه فكرة عنهــا ثم يتابع دراسته البحثية جاعلا تلك الفكرة أساسا يبني عليه عمله في التعليل والإيضاح حتى إذا بدا له أن هذا الأساس لا يصلح للبناء الذي يريد أن يقيمه عليه ، عاد فنقضه، وبحث عن فكـــرة أخـــرى أو فرض آخر يقيم عليه بناء عملـــــه ، وهكذا دواليـــك ، حتى يرى أن أساسه ثابت وأن بناءه متين .
|