بهدوء

بقلم
عبدالنّبي العوني
الإصلاح : رؤية شاملة وتقويم تدريجي
 مرّ المجتمع التونسي بعديد التجـــارب، ضارّهــــا ونافعهــــا، تأثّر بهــا وأثّرت فيـــه، مما قبل الاستعمـــار إلى الآن. عانى الأمرّيـــن من التجارب المسقطة عليه، داخليا وخارجيا، مارس معــــه السلاطيــــن وصايـــة، قتلت فيه كل التطلعات لصناعة هويّة فاعلــــة ومتفاعلــــة، تخرجـــه من حالة الضّعف والوهــــن التي أصبـــح وأمســــى فيهمـــا، ثم تربّع على أرضه استعمار بغيض يحمل مشروعا من بين أهم أهدافه استلاب ما بقي له من هويته، ومن ثمّ سرقة ثرواته وتشويه تاريخه ولغته وتحريف بوصلته وزرع اصطناعي لهوية ثقافيــــة، سيليكونيــــة، استئصاليـــة، فرنكو-كاثوليكية ومعدية، حاولت غزو كل مناحـــي الحياة في المجتمع، وقتل كل الخلايـــا الحيّة فيـــه، ولولا بعض صمود داخلي ومناعة شعبية بدائية، سمحت للمجتمع أن يتكئ عليها أوقات الشدّة، لما وجدنا الآن رائحة لهذه الخصوصية، التي نبتت وترعرعت بين مجنّبات الشعب، طيلة أربع عشر قرنا، رغم الهويات المتعدّدة التي مرّت به من قبل، ومعها .
ثم استلـــم من يد هذا الاستعمـــار الشامـــل والغبـــي، الذي فرّخ في كل مكان، ولم يترك مجالا إلا وترك فيه وليدا مشوها لـــه، يواصل بنـــاء ما بنـــاه، وإتمام المشروع الثقافـــي، بأيدي تونسيـــة، لقيادة وطـــن وصناعة مجتمع جديد، بعلمانيـــة شوفينيــــة موغلة في الاستئصـــال والتّطـــرف، مزركشـــة بإقليميّــــة نرجسيّـــة، أصبح فيه الشعب أمّة و قوميّة تونسيّة، والأمّة اختزلت في الزعيـــم، ومارس الزعيم على ذاكرة المجتمع الخـــارج لتوّه من ألام الاستعمار أبشع أنواع التدجين والإلحاق الحضاري، وطبقت عليه كل أنواع التجــــارب، وبلغة واحـــدة وغريبة عنه، حاولت اقتلاعه من جذوره الثقافية وإلباســـه كسوة ليست على مقاســـه. ورغم كل المحاولات، لم تستطع هذه التجارب النفاذ إلى وجدانه وكيانه الباطني، هناك، حيث الثراء والغنى، وبقي الشعب وقطاعاته، بالرغم من ذلك، يتعاملون معها كاستعمار ثقافي مقنع، بأدوات تربوية فرنسية وبشخوص تونسية.
ثم استلم القيادة، لصّ... اغتنم الشيخوخة وصراع الديكة، وعلى حين غفلة من حرّاس الهيكل وسدنته، لمواصلة المسيرة. وهذا اللّص من فصيلة القراصنة الجهلة، لم يحمل معه لا كتبا ولا قلما، وإنما  دخل بصوت خشن ومسدس وأكياس ليحمل فيها ما لذّ وطاب من مكتسبات وخيرات الشعب، ويرافقه في مسيرته هذه،عصابة الأربعين والغواني. أسرف اللص، وبأبشع أنواع الهتك والسرقة، في جسد الشعب وهويته وطاقاته و خيراته ، ومارس أدنس أنواع اللصوصية الغير محترفة والجريمة المنظّمة والتعاطي والفساد، وتنعم الجاهل بجهالته ،وشقي المواطن في معيشته وفيما يقتات منه.
ولمــــا ظنّ الطاغيــــة أنه استــــوى في زهــوه وبغيــــه، وظنّ المتّعبون أنهم سُحِقوا، ولم يعد بينهـــم وبين اليـــــأس إلا شبـــر، ولما بلغت القلـــوب الحناجـــر، أتى أمــــر الله، وأرادت الجماهيــــر التي تخرّجـــت من مدارس أشرف على صياغتها مستشــــارو علي بابــــا، انتفض الشعـــب وهــــــرب اللّص خلسة مذعورا وعاريا، وبرزت للعيان صناعــــة الحياة، من الشّهــــادة على أنقاض الخراب، ومن الكفــــاف، وظهـــرت صناعة المجد والشرف بيد وحنجرة وإصرار، وبانت إرادة الحيــــاة وإصرار الشعب على التغيير والقطع النهائي مع الفساد والإفساد والاستبداد، وفي إقبال منقطع النظير على الصناديق، بعد إقبال مماثل على الساحات والشوارع. 
ولأن المجتمع والى الآن لم يتخلّص من مخلفات الأمراض، فإن المطلوب وبإلحاح، من الطبقة الجديدة، التي تبغي بناء الوطن الحرّ العزيز الكريم، منها:
1/ النظر إلى المجتمع، كوحــــدة حيّـــة حيويّة وغنيّـــة، طاقاتها كامنة وثريّة، وثرواتـــه البشرية هائلـــة وشابــــة، كبلها الفساد والاستئثار والإلحـــاق على مرّ العقود الماضية، ومتى ما اكْتشفتم مكامنها، واستطعتم إزالة الكلس والصدأ الذي كان يخنقها، ومتى ما وفرتم المجال الحيــــوي الآمن والمطمئن، للمجتمع، ليعبـــر عـــــن كل تطلعاتــــه، فإنكم وقتها تكونوا، قد عرفتم المقصد وبدأتم أول خطوة جريئة وصائبة بعد أن أعطاكم الشعب تذكرة العبور إلى الضفة التي ينشدها.
2/ العمل من داخل المجتمع ،معه وبرفقته، تبلسمون جراحه، تلاطفونه وتمسحون عن وجهه غبار الأسفار الطويلة وتزيلون عنه تعب الرحيل، تُسَكِنون ألام  الإصلاح والمراجعة والتقويم، وتحرّرون طاقاته، دون وصاية، أو خوف من التحرّر، كما قال ربعي ابن عامر «جئنا لنحرّر العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة» وكما قال ابن الخطاب «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا».
3/ التدرج، والعمل الهادف والواعي في الإصلاح والتقويم، فلا الصدمات تنفـــع ولا الاستعجـــال يداوي، والنظر بحكمة وبصيرة إلى مواضع الألم والأرق لدى الشعب، فالآلام كثيرة والمعانات أكبر، مادية نفسية ومعنوية، مسّت الجسد والروح والعقل والتطلّعات والإرادة، لدى الفرد كما المجتمع، والاقتداء بسنن الرّسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في مسايسة الناس، ومعاملته الشريفة مع المخالف والمساند والمرافق. ويبقى الهدف الحقيقي للمشروع الحضاري ليس تنفيذٍ غير واعي للأحكام والحرص عليها، وإنما بناء وطن عزيز حرّ ومستقل، و بناء مجتمع حصين فاعل وريادي.
4/ التشخيص الجيد والعلمي، لكل المشكلات التي يعاني منها الوطن، والابتعاد قدر الإمكان والاستطاعة عن العمليات الجراحية الاستعجالية، وتعويض ذلك بوخز مكامن الطاقة فيه واستثارتها، وتوفير الفضاء الرّحب لها، لكي تشعّ وتعبر الحواجز، على طريقة الطّب البديل الطبيعي، النفسي والوجداني الرياضي، أو بطريقة الوخز بالإبر الصينية، فخريطة الطاقة في المجتمع معلومة، وفيها مفاصل ومكامن ومكنونات، وما على الحكيم إلا تحفيزها وتطهير وتسهيل كل المجاري والتفرعات كي تمرّ الطاقة وتمس أفئدة الشعب وأخيلته.
5/ تطوير آليات التناول والتعامل مع مكونات الشعب المختلف معه قبل المؤتلف، بالاستناد إلى الإرث والمرجعيـــات الحضارية الغنيـــة والمتفاعلــــة مع كل التجــــارب الناجحــــة القريبــــة والبعيـــدة لصناعــــة أفق بحجم وطـــن ...كتونس، وتوفير الفضـــاء الجيد والنقي لإعلام فاعل وهـــادف ومســـؤول، ومجتمـــع مدني حيوي وحركي ومقاوم ومُقَوِّمْ، على نسق أسلـــوب بعض أسلافنا، وذلك، إن أخطأتــــم، فالواجـــب النصـــح والتقويـــم، حتى بالمظاهــــرات، وإن أصبتـــم فذلك واجبكم، لأنكم سعيتم لتحمل المسؤولية، أو إن أصبتم فهو توفيق من الله، وإن أسأتم فمن أنفسكم.
6/ توفير الفضاء لإنتاج معرفي فكـــري وحضـــاري داخل مؤسسات المجتمـــع وداخل جامعاتـــه وجوامعــــه، حتى تشرف على تطوراته وتصوراتــــه، وحتــــــى تُدْرَس وتعالج الاخلالات والتجاوزات وتحلّل تحليــــلا منهجيـــا وفق رؤية حضارية هدفهــــا رفعة الوطن لا رفعة الفصيل، ومعالجة حالة القصـــور والوهن التي تمرّ بهـا مفاصـــل الوطن من جامعة الزيتونة إلى الجامعات العلمية والإنسانية والمعاهد البحثية، وفسح المجال للاعتناء أكثر بالعلوم الإنسانية المختلفة والدّراسات الحضارية التي تتناول المجتمع ككل وبشكل تفصيلي، وتقدم الرؤى والمناهج والأساليب بنظرة تقويمية إصلاحية ايعازية شاملة لها القدرة على الإحاطة بكل الجوانب الممكنة للمسائل والمشاكل العويصة.
7/  مشروعكم مشروع مجتمع، مشروع وطن، مشروع نهوض وريـــادة وبنـــاء، لا ينشغل بالتافــــه من الأمـــور ولا تشغله الجزئيات الصغيـــرة ولا الجزيئات الفضائيــــة ولا الصياح هنا وهناك ولا ضجيـــج الظواهـــر الصوتيـــة في المعلبات وبين الأوراق، عن الاهتمام بالمشاغل الحقيقية للمواطن والوطن.مشروعكم مشروع حضاري لبناء وطن ومجتمع حرّ، إذا فالمسؤوليـــة ثقيلـــة والأمانـــة مجلبة للنجــــاح أو الخســـوف، والملتفّون والمتحلِّقون والشعراء والغنـــــاؤون والطبّالـــون والمتزلفــــون والمتسكعــــون على المقرّات كثر تجلبهم الروائح وتبعدهم، وينفرون من العمل الجادّ والعادل، فالهدف واحد والبوصلة اتجاهها معلوم، فما عليهم من سبيل وما عليكم إلا العمل، وما التوفيق إلا من الله العلي القدير.
« إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب»  (سورة هود-الآية 88)
«...وان تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم» (سورة محمد-الآية 38)
-------
- أستاذ ، سجين سياسي سابق
ouni_a@yahoo.fr