الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
مفهوما الليّل والنّهار في القرآن 1. النّهار في القرآن
 تمهيد
أصبح واضحا لدينا أنّ النّهار هو اسم لطبقة من الضّياء الذي ينتج عن انتشار فوتونات ضوء الشّمس المرئي في كلّ الاتجاهات عند دخولها الغلاف الغازي المحيط بالأرض وأساسا في مكوّنه السّفلي أي في حوالي الثّلاثين كيلومترا التي تعلو مباشرة سطح الأرض أين تتركّز أكثر من 99% من كتلة الغازات المكوّنة للغلاف. أمّا اللّيل فهو يشير الى الظّلمة التي تعقب الضّياء المرتبطة بالجزء من ذلك الغلاف الموجود في ظلّ الأرض. هذا عن المعنى اللّساني الأصلي للفظي النّهار واللّيل وما يتعلّق بهما من ظواهر طبيعيّة درسها العلم الحديث وتعرّف على خصائصها.  فماذا عن استعمالهما في القرآن خاصّة وأنّهما وردا في سياقات مختلفة؟ هل جاءا بمفاهيم تحمل مضامين تستفاد من تلك الاستعمالات ولم تكن معلومة في القرن السّابع ميلادي؟
1. النهار في القرآن
1.1.  النّهار في القرآن ضياء الشمس على الأرض.
أفاد الزّمخشري أنّ ظاهر التّقابل يقتضي ذكر النّهار»(1) في تفسيره للآية: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾(القصص : 71) حيث أنّه اعتمد بلا شكّ معطى من القرآن يتمثّل في قرنه اللّيل والنّهار في عدد كبير من آياته فضلا عن الجمع بينهما في الآية التي تليها: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾(القصص : 72). وتتمثل الإفادة التي أشار اليها الألوسي في تفسيره «روح المعاني» في قوله: «فإن قلت هلا قيل بنهار تتصرّفون فيه، كما قيل ﴿بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ﴾؟ قلت ذكر الضّياء وهو ضوء الشّمس لأنّ المنافع التي تتعلّق به متكاثرة»(2) حيث اعتبر أنّ منافع الضّياء الكثيرة هي التي تفسّر استعماله دون النّهار. وفي نفس الموضوع قال ابن عاشور: «وعُبر بالضّياء دون النّهار لأنّ ظلمة اللّيل قد تخفّ قليلاً بنور القمر، فكان ذكر الضّياء إيماء إلى ذلك»(3). ليس الغاية من استشهادنا برأيين من أعلام المفسّرين قديما وحديثا تفسير أسباب ما يسمّيه الألوسي بـ «العدول عن ذكر النّهار الى الضّياء»(4) بل اتفاقهما على أنّ الضّياء المذكور في الآية 71 من سورة القصص هو تعبير عن النّهار وهو، أي الضّياء، ما يصرف إليه ذهن العربي عند سماعه كلمة نهار كما مرّ بنا في المقال السّابق. 
2.1.  النّهار في القرآن مُبصِر. 
ورد لفظ النّهار في القرآن سبعا وخمسين مرّة(5). وقد جاء في ثلاث آيات أنّ اللّه جعل النّهار مُبصِرا وهي الآيات 67 من سورة يونس(6), و86 من سورة النّمل(7)و61من سور غافر(8). واللّفظ (مبصرا) مشتقّ من الجذر (بصر) وقد جاء في شأنه في مقاييس اللّغة ما يلي: «(بَصَرَ) الْبَاءُ وَالصَّادُ وَالرَّاءُ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ: هُوَ بَصِيرٌ بِه. وَمِنْ هَذهِ الْبَصِيرَةُ...وَالْبَصِيرَةُ: الْبُرْهَانُ. وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ وُضُوحُ الشَّيْءِ. وَيُقَالُ: رَأَيْتُهُ لَمْحًا بَاصِرًا، أَيْ: نَاظِرًا بِتَحْدِيقٍ شَدِيدٍ. وَيُقَالُ: بَصُرْتُ بِالشَّيْءِ: إِذَا صِرْتُ بِهِ بَصِيرًا عَالِمًا، وَأَبْصَرْتُهُ: إِذَا رَأَيْتَهُ»(9). و«البصر، العَيْنُ، مذكّر»(10) أو «هُوَ الْقُوَّةُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي الْعَيْنِ، فَتُدْرِكُ بِهَا الْأَضْوَاءَ وَالْأَلْوَانَ وَالْأَشْكَالَ»(11)، إنّه حاسَّةُ الرّؤيةِ لأنّ «أَبْصَرْتُ الشّيءَ: رأيته»(12). وبناء على ما قيل في المادّة نستنتج أنّ أصل الجذر (بصر) يفيد الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ وبوضوح من خلال حاسَّةُ الرؤيةِ المسمّاة بصر أي العين. وشرط العلم بوجود الشّيء من خلال البصر هو توفّر الضّوء المرئي الذي ينقل صورة الجسم إليه.
هذا عن مادة (بصر) في لسان العرب، فماذا نجد في المعاجم عن عبارة (النهار مبصرا) القرآنية حيث مبصرا كلمة مشتقة من تلك المادة؟ نجد في الغريبين في القرآن والحديث: «وقوله: ﴿والنّهار مبصرًا﴾أي يبصر فيه: كما يقول: ليل نائم: أي ينام فيه»(13). وينقل الأزهري(14) عن الفرّاء قوله في الآية: ﴿وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها﴾(الإسراء : 59)، «أنّه جَعَلَ الْفِعْلَ لَهَا، ومعنى: {مُبْصِرَةً}: مضيئةً، كما قال جلّ وعزّ ﴿وَالنَّهارَ مُبْصِرًا﴾(يونس : 67)، أي: مضيئًا». فجعل فعل الإبصار الى النّهار تأكيدا على شرط الضّياء الحاصل لظهور الشّمس فيه لعمليّة الإبصار.  وفي تاج العروس: «وَالنَّهارَ {مُبْصِرًا}: أَي مُضِيئًا يُبْصَرُ فيه»(15). وما قاله بن عاشور في تفسيره للآية 12 من الاسراء(16) يوجز بدقّة تلك الأقوال، فـ{مبصرة} عنده «اسم فاعل أبصر المتعدّي، أي جعل غيره باصراً. وهذا أدقّ معنى وأعمق في إعجاز القرآن بلاغة وعلماً، فإنّ هذه حقيقة من علم الهيئة»(17). 
هذه عيّنة ممّا جاء في بعض المعاجم والتّفاسير اللّغوية عن الجملة القرآنيّة (النّهار مبصرا) والتي تتّفق في أنّ معنى ذلك أنّ اللّه قد جعل النّهار مضيئا يُبْصَرُ فيه أو أنّ النّهار يجعل الإنسان باصرا حسب تعبير ابن عاشور. ففي النّهار تتمّ عمليّة الإبصار حيث تتمكّن حاسّة البصر (العين) من التقاط صور الأشياء لوضوحها بفضل ما يسقط عليها من ضوء الشّمس القادم من كلّ الاتجاهات، وهي خاصّية لا توجد الاّ في الجزء السّفلي من الغلاف الغازي المحيط بالأرض كما سبق وأن رأينا في المقال السّابق. إنّ الضّياء الممكّن للإبصار هو خاصّية النّهار في اللّسان والقرآن وهو ما تشير إليه الآية 71 من سورة القصص. 
إنّ كلّ ما عرضناه يؤكّد أنّ لفظ النّهار في أصل الوضع وفي الاستعمال القرآني يتضمّن أساسا الضّياء الذي يعتبر شرطا لعمليّة الرّؤية للإنسان وهو ناتج عن تفاعل أشعة الشّمس والغازات المحيطة بالأرض في طبقة نصف كرويّة سمكها حوالي 30 كيلو متر، ولا علاقة للفظ النّهار بالوقت. فإذا أراد اللّه معنى الوقت فإنّه يستعمل لفظ «اليوم» وليس لفظ «النّهار» مثل قوله تعالى:﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُّخْلِفَ اَللَّهُ وَعْدهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّون﴾(الحج : 45). 
إنّ النّهار مبصر في القرآن وهو تأكيد على خاصّيته اللّسانيّة الأصليّة أي الضّياء باعتباره هو الذي يجعل الإنسان باصرا كما نعلم من علم البصريّات. لم يكتف القرآن بهذا الوصف للنّهار بل استعمل وصفا آخر له وهو التّجلّي سواء بالذّات أو بأثره على الشّمس حيث جاء في الآية 2 من سورة اللّيل أنّه تجلّى: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ﴾ وأنّه جلّى الشّمس وذلك في الآية الثالثة من سورة الشّمس:﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾، وسنعود للتّجلية في آخر هذا الفصل.
3.1.   الضّحى في القرآن: 
1.3.1 الضّحى لغة 
للضّحى علاقة وطيدة بالنّهار، وقد تناولنا معناه في اللّسان العربي ودلالة استعماله في بعض الموارد من القرآن وذلك في كتابنا «هل الأرض مسطّحة؟»(18). وتمهيدا للبحث الذي نهدف من ورائه الى تقصّي مفهومين محتملين للّيل والنّهار في القرآن نعيد في هذه الفقرة وباختصار وتصرّف، ما كتبناه حول هذا اللّفظ. ونكتفي هنا، بالنّسبة لدلالة اللّفظ ضحى في اللّسان العربي، بالتّذكير بمعناه الأصلي فقط وذلك بإيراد ما أجمل الرّازي القول في شأنه إذ هو « أكمل أجزاء النّهار في النّور والضّوء»(19). ‏
2.3.1 الضّحى في القرآن مجاز عن النّهار
أتى لفظ الضّحى في القرآن محمولا بنفس المعنى الذي لخّصه الرّازي. وقد قدّمنا في الكتاب دليلين نكتفي بالرّجوع الى واحد منهما وهو ورود هذا اللّفظ في الآيتين الأولى والثّانية من سورة سمّيت به وهما: ﴿وَالضُّحَىٰ، والليل ‏إذا سجى﴾(الضّحى : 1-2). لم يستعمل القرآن في هذه الآية لفظ النّهار مقابل اللّيل على غرار عدد كبير من الآيات التي اقترن فيها اللّفظان بل جعل «الضّحى» في مقابلة «اللّيل» من جهة وأضاف تقييدا للّيل وهو السّجو. والسّؤال هنا ما دلالة هذه المقابلة؟ 
نرى، واللّه أعلم، أنّ القرآن، حين قيد اللّيل باشتداد ظلامه وذلك باستعمال اللّفظ «سجى»، قيد النّهار باشتداد ضيائه وهو ما يفسر استعمال لفظ «‏الضّحى» لأنّه يعبر عن أكمل أجزاء النّهار ضياء كما رأينا. لذلك يمكن أن يكون معنى هاتين الآيتين ما يلي: «والنّهار إذا امتدّ واشتدّ ضياؤه، واللّيل إذا امتدّ واشتدّ ظلامه». ففي الأول استقرار الضّياء الشّديد‏، وفي الثّاني استقرار الظّلام المدلهم. وهذا يعني أنّ القرآن استعمل كلمة «ضحى» على معناها الأصلي في اللّسان ‏العربي دون النّهار للحاجة التي يطلبها السّياق وهو استقرار ضياء النّهار وظلام اللّيل. 
قال الألوسي في الآية 29 من سورة النّازعات ﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾ أنّهُ «تُجوّز بالضّحى عن النّهار بقرينة المقابلة»(20) باعتبار أنّ القرآن يجمع اللّيل والنّهار في الكثير من الآيات. فلم يقل وأغطش ليلها وأخرج نهارها بل عبّر عن النّهار بالضّحى، وتسمية النّهار بالضّحى من المجاز المرسل حيث يعبر عن الكلّ بالجزء لأنّ الضّحى أكمل أجزاء النّهار في النّور والضّوء كما نعلم. 
إنّ التّعبير بالضّحى عن النّهار ووصف هذا الأخير بأنّه مبصر يؤكّد أنّ النّهار في اللّسان وفي القرآن هو تعبير عن الضّياء المقابل للظّلام أي الضّياء الذي يحصل لوجود الشّمس فوق الأفق. 
4.1.   نهار الغلاف الغازي وليله
وردت كلمة الضّحى في آيات أخرى جاءت في بعضها بمعنى أكمل أجزاء النّهار في الضّياء(21)، كما استُعمل لفظ الضّحى مضافا الى الشّمس والى السّماء في آيتين وهما: ﴿وَٱلشَّمسِ وَضُحَىٰهَا﴾(الشمس: 1) و﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾(النازعات:29). وإذا كانت الشّمس التي أضيف إليها الضّحى معلومة الهويّة، فما هي السّماء المعنيّة بالإضافة في الآية 29 من سورة النّازعات؟ وهذا تساؤل يفرض نفسه لأنّ لفظ السّماء ذكر في القرآن في عشرين ومائة موضع ما يعني أنّ دلالته يمكن أن تتغيّر حسب السّياق. ثمّ ما دلالة إضافة الضّحى الى الشّمس والسّماء معا؟ وما الذي يمكن أن تضيفه نسبة الضّحى الى الشّمس والسّماء لبحثنا عن مفهوم النّهار ومفهوم اللّيل في القرآن؟
سنبدأ بتناول لفظ السّماء في الآية 27 من سورة النّازعات ومعها الآية التي تليها والتي تشير الى سَمك تلك السّماء وتسويتها: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴾(النازعات : 27-28) لأنّ ذلك وطيد الصّلة بظاهرتي اللّيل والنّهار كما سيتبين لنا.
1.4.1 الغلاف الغازي سماء 
يدلّ لفظ السّماء في الأصل على العلوّ والارتفاع، وهو مأخوذ من السّموّ. فكلّ عال مطلّ سماء.  تسمي العرب (السّحاب) سماء و(السّقف) سماء، كما توسّعت في استعمال لفظ السّماء حتّى سمّت (المطر) سماء و(ظهر الفرس) سماء. فكلّ شيء علا شيئا آخر فهو بالنّسبة له سماء. لا يمكن أن تشذّ السّماء المذكورة في الآية 27 من سورة النّازعات(22) عن هذا المعنى. إنّها موجودة في الأعلى بالنّسبة للنّاظر من الأرض. أصبحنا نعلم اليوم أنّ الغلاف الغازي موجود أعلى سطح الأرض أي أنّه يتحقّق فيه شرط يجعل من تسميته «سماء» أمرا جائزا في اللّسان العربي. فأينما كنّا على الأرض فالغلاف الغازي أعلانا. لذلك افترضنا أنّ الغلاف الغازي للأرض هو المراد بهذا الاسم. لم نبنِ فرضيّتنا على ذلك فحسب بل على ما جاء في الآيتين التّاليتين للآية 27 وهو ما سنوضّحه تاليا. وقبل ذلك هناك سؤال يفرض نفسه: هل هناك في القرآن ما يمكن أن يفيد أيضا أنّ السّماء تأتي بمعنى الغلاف الغازي؟ الإجابة يمكن أن تكمن في الآية 26 من سورة إبراهيم(23)، وفي الآية 126 من سورة الأنعام(24) وفي الآية 79 من سورة النّحل (25) بالإضافة إلى  الآيات 27 و28 و29 من سورة النّازعات (26) كما أشرنا الآن. 
2.4.1 فرع الشّجرة في السّماء
لم تقل الآية 26 من سورة إبراهيم إنّ فرع الشّجرة، وهو امتدادها وعلوّها، هو باتجاه السّماء بل قالت في السّماء، وحرف «في» هنا يرد بمعنى الظّرفيّة بوضوح. وبما أنّنا نعلم يقينا أنّ فرع الشّجرة يوجد في الغلاف الغازي فهذا يعني أنّ لفظ «السّماء» يشير الى الغلاف الغازي. 
3.4.1 الصّعود في السّماء وصعوبة التّنفس
وتربط الآية 126 من سورة الأنعام الصّعود في السماء بالصّعوبة في التنفس الذي تصفه بضيق الصدر وهذه الصعوبة أكدها العلم الحديث من خلال تفسيرها بتناقص كمية الأكسجين الضرورية للتنفس العادي مع الارتفاع في الغلاف الغازي بما يعني أنّ الصعود في السماء هو الصعود في الغلاف الغازي. 
4.4.1 الطّيور في جوّ السّماء
أمّا الآية 79 من سورة النّحل فهي تقول إنّ الطّيور تطير في جو السّماء، فهي تضيف الجوّ الى السّماء و«الإضافة في اللّغة هي مطلق الإسناد. وفي النّحو فهي إسناد اسم الى آخر»(27). وبما أنّ «المضاف يتخصّص بالمضاف اليه أو يتعرّف به»(28) فإضافة الجوّ الى السّماء يعني أنّ الجوّ يتخصّص بالسّماء ويتعرّف بها. ونحن نعلم أنّ الطّيور تطير في الغلاف الغازي وبالتّحديد في الجزء السّفلي الذي تسمح فيه كثافة الغاز للطّيور بالاعتماد عليه والانزلاق فوقه من جهة، والذي فيه ما يكفي من الأكسجين لأنّ الطّيور تتنّفس مثلنا من جهة أخرى، ويمكن أن يصل ارتفاع مستوى طيران الطّيور الى 10000متر فوق سطح الأرض إذ «تطير الإوزّة ذات الرّأس الشّريطي فوق جبال الهيمالايا على ارتفاع يزيد عن 10000 متر. وقد تمّ رصد البجع على ارتفاع أكثر من 8000 متر فوق سطح الأرض، إلاّ أنّ غالبيّة الطّيور لا تتجاوز أبدا ارتفاعا يزيد عن 1500 متر»(29). لذلك يكون واضحا لدينا الآن أنّ القرآن حينما استعمل لفظ «السّماء» في مركّب إضافي وهو جوّ السّماء، فقد أراد بذلك الإشارة إلى جزء من الغلاف الغازي، لأنّ الطّيران فوق الأرض لا يمكن أن يحدث الّا في الجزء السّفلي للغلاف الغازي.
إنّ الآيات الثّلاث التي عرضناها تشير صراحة الى الغلاف الغازي للأرض باستعمالهما لفظ «السّماء». أمّا الآيتين 27 و28 من سورة النّازعات فهي تشير أيضا صراحة الى الغلاف الغازي إذا التزمنا في قراءتهما بالمعاني الأصليّة للكلمات الواردة فيها وهي: «بناها»، «رفع»، «سمكها»، «سواها» من جهة، وتناولناهما بالبحث على ضوء آخر المعارف العلميّة المتعلّقة بالغلاف الغازي وظاهرتي اللّيل والنّهارمن جهة ثانية (30).  
سنعود في مقال قادم -إن شاء اللّه- الى مسألة إضافة اللّيل والنّهار الى السّماء لتوضيح رأينا فيما سنطلق عليه مفهوم اللّيل ومفهوم النّهار في القرآن. 
الهوامش
(1) تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ/1854م) مصنّف ومدقق
(2) تفسير الكشّاف/ الزمخشري (ت 538 هـ/1144م) مصنّف ومدقق
(3) تفسير التّحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ/1973م) مصنّف ومدقق
(4)  الالوسي ، مصدر سابق
(5) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم –وضعه محمد فؤاد عبد الباقي-دار الجيل بيروت. 
(6)  ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾(يونس : 67)
(7) ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(النمل : 86)
(8) ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾(غافر : 61)َ
(9) مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م
(10) العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ/787م
(11) موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
(12) منتخب الصحاح-أبو نصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م
(13) الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
(14) تهذيب اللغة-أبو منصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
(15) تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
(16) ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾(الاسراء : 12)
(17) تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف ومدقق
(18)  غربال، نبيل (2022) هل الأرض مسطحة؟ قراءة علمية لآيات تسطيح الأرض ومدها ودحوها على ضوء نظرية تكتونية الصفائح، الصفحة 135 وما يليها Story Editions.  صفاقس (تونس)
(19)  الرازي (فخر الدين محمد بن عمر)، تفسير الفخر الرازي، التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب، ص 44.
(20)  تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف ومدقق
(21)﴿ أَوْ أَمِنَ أَهْلُ اُلْقُرَيٰ أَنْ يَّأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحيٗ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾(الأعراف : 97)، ﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ اُلزِّينَةِ وَأَنْ يُّحْشَرَ اَلنَّاسُ ضُحي﴾(طه : 58)، ﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾(النازعات : 46).
(22)﴿  أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾(النازعات : 27)
(23)﴿  أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾(إبراهيم : 24)
(24) ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ  وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾(الأنعام : 125)
(25)﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾(النحل : 79)
(26) ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾(النازعات : 27-29)
(27) التونجي، محمد (2003) معجم علوم العربية، دار الجيل. 
(28) نفس المرجع.
(29)  https://www.futura-sciences.com/planete/questions-reponses/oiseaux-oiseaux-jusqua-altitude-peuvent-ils-voler-2610
(30) كنّا تناولنا في الفصلين الخامس والسّادس من كتاب «هل الأرض مسطّحة؟» تلك المعاني بالبحث والتّقصّي في أمّهات المعاجم وعرضنا الآيات الواردة فيها على المعارف العلميّة التي ساعدتنا على فهم الدّلالات الممكنة للآيات، وتوصّلنا الى نتيجة مفادها أنّ السّماء المعنيّة بتلك الآيات هي فعلا الغلاف الغازي، لأنّ ما تخبر به عن السّماء يتحقّق في الغلاف الغازي للأرض:  غربال، نبيل (2022) هل الأرض مسطحة؟