للنقاش

بقلم
عادل دمّق
سُورة الجمعة وصلاة الجمعة
 بعد ثلاثين سنة من التّدريس والخطابة أدركت (1)، أنّ جلّ ما قدّمته كان على هامش المطلوب تماما!كنت مقلّدا، غافلا عن المقصد الأسمى لخطبة صلاة الجمعة،وأصول الخطاب. 
1. مقاصد سورة الجمعة
في ترتيب المصحف، أتت سورة الجمعة بعد سورة الصّفّ التي يبشّر فيها اللّه :﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾(الصّفّ:9). وقد أتت سورة الجمعة لبيان منهج إعداد أجيال «الإظهار». والسّورة التي أتت بعدها في ترتيب المصحف هي سورة «المنافقون» التي تحذّر من الكذب والنّفاق والكبر والغفلة.
أمّا من حيث ترتيب النّزول، فقد أتت سورة الجمعة بعد سورة التّحريم التي نقرأ فيها:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا... ﴾(التّحريم:8). وتليها سورة التّغابن التي جاء فيها قوله تعالى:﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾(التّغابن:12).
ملاحظات حول الرسم البياني:
أفقيا نجد ترتيب المصحف، (الصفّ فالجمعة فالمنافقون) أمّا عاموديا فنجد ترتيب النزول (التحريم فالجمعة فالتغابن). وجاءت أعداد ترتيب المصحف باللّون الأخضر الزّيتوني على يمين اسم كلّ سورة، فيما جاءت أعداد ترتيب النّزول باللون الأزرق على يسار اسم السّورة .
استقراء:
ويمكن أن نلاحظ أنّ السّورتين السابقتين لسورة الجمعة(في ترتيب المصحف وترتيب النّزول) تتشابه من حيث المحور والأهداف. كما تتشابه أيضا السّورتان اللّتان تأتيان بعد سورة الجمعة (في ترتيب المصحف وترتيب النّّزول ). وهذا الاستقراء يطّرد مع سائر السّور.
2. محاور سورة الجمعة
أولا : دعوة الإنسان للطّاعة والتّسليم توافقا مع حركة ما في الأكوان :﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾(الجمعة:1). ويسّبح بمعنى يُطيع.
ثانا: هداية اللّه :﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾(الجمعة:2).
ثالثا: التّحذير من عاقبة قسوة القلوب والغفلة عن تدبّر القرآن :﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(الجمعة:5).
رابعا : سبل الفلاح والصّلاح :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(الجمعة:9). (فاسعوا إلى ذكر اللّه ) :ذكر اللّه يعني الآيات الذّكر الحكيم، الذّكورة في بداية السّورة ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾(الجمعة:2)، لا مجرّد الذّكر.
نقرأ في سورة طه : ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾(طه:124)؛ وفي التّعقيب (كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ...(125) ﴾(طه:126).
3. المقصد من صلاة الجمعة
صلاة الجمعة اجتماع لتيسير تدبّر القرآن، ولتلاوته حقّ تلاوته، بهدف شرح الصّدور، والتخلّق، والاصطباغ، والتزكيّة، والصّلاح والإصلاح. ويكون الوعظ والنّصح وتناول مظاهر الضّنك والغيّ ضمن التّفسير والشّرح.
4. ما مجال الخطاب الديني المسجدي؟ 
لم يعد الجامع مركز التّأثير والتّوجيه الوحيد في المجتمع، فقد تعدّدت المراكز: إدارة، إعلام، أحزاب، جمعيات، نقابات، نخب...إلخ، فوجب الحذر من الذّهول عن تبدّل الأحوال. يقول إبن خلدون: «ومن الغلط الخفيّ في التّاريخ، الذّهول عن تبدّل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدّل الاعصار ومرور الأيام. وهو داء شديد الخفاء، إذ لا يقع إلاّ بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطّن له إلاّ الأحاد من أهل الخليقة» (2).
لذا يترتب عن ذلك أمران:
أولا : التّخصّص والحرص على الأمر الجامع بتيسير تدبّر الذّكر الحكيم  أي تقريب ما أمكن من علوم القرآن خاصّة منها ما يتعلّق بأصول التّفسير :نظم القرآن، ترتيب المصحف وترتيب النّزول علم المناسبة.والتّخصّص لا يعني عدم الاهتمام بمعرفة الزّمان وإنّما تمكين عموم الأمّة من سبل تحصيل اليقين والتّقوى والرّشد وشرح الصّدر، ومقاومة مظاهر الغيّ والضّنك والوهن كالإجرام، والخيانة، والمخدّرات، والغشّ،  وكلّها ناتجة عن قسوة القلوب وغلبة الأهواء: ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(الزمر:22)
ثانيا : المشاركة في مختلف الجمعيّات وحضور النّدوات، والنّشر على صفحات الوسائط لتجلية الرّأي المستفيد من القرآن والسّنة والمجتهدين. وتظلّ الكثير من دلالات الآيات كامنة تنتظر تأويلها وتنزيلها.. 
وما نحن عليه اليوم، يوجب علينا تدبّر سور القرآن المدني ذات المضمون المكّي لاستعادة الدّفق الرّوحي والامتلاء اليقيني، خاصّة سورتي الحديد والحشر.
﴿ أَلَم يَأنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلكِتَٰبَ مِن قَبلُ فَطَالَ عَلَيهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَت قُلُوبُهُم وَكَثِير مِّنهُم فَٰسِقُونَ * ٱعلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحيِ ٱلأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا قَد بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ * إِنَّ ٱلمُصَّدِّقِينَ وَٱلمُصَّدِّقَٰتِ وَأَقرَضُواْ ٱللَّهَ قَرضًا حَسَنٗا يُضَٰعَفُ لَهُم وَلَهُم أَجر كَرِيم﴾(الحديد:16-18).
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ * لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ  هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(الحشر:18-24).
5. رسائل مُهمة إلى السّادة الأئمة
الأولى: من الإمام محمد عبده إذ يقول:« ... والخسار إنّما يحيق بمن لم يوص أو من يسمع الوصيّة ولم يقبلها، فإن كان الموصي لم يحصل من وسائل التقريب (والترغيب) ما يحتاج إليه وكان نفور صاحبه من طريقة نصحه ولو سلك غيرها لقبل منه ، كان الخسار في الآخرة عليه كذلك. يجب على العلماء ومن يتشبّه بهم أن يتعلّموا من وسائل القيام بالواجب ما يدعو إليه الحال على حسب الأزمان واختلاف أحوال الأمم ...
وأول ما يجب عليهم في ذلك أن يتعلّموا التّاريخ الصّحيح وعلم نشوء الأمم وارتفاعها وانحطاطها وعلم الأخلاق والحسّ والوجدان وأحوال النّفس (والإجتماع )ونحو ذلك مما لا بدّ منه في معرفة مداخل الباطل إلى القلوب ومعرفة طرق التّوفيق بين العقل والحقّ وسبيل التّقريب بين المنفعة واللّذة الدّنيويّة والأخرويّة ووسائل استمالة النّفوس عن جانب الشّرّ إلى جانب الخير...
ولو اقتضى الأمر بأن يكون من وسائل التّمكّن من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أن يضرب الإنسان في الأرض ويمسحها طولا وعرضا،وأن يتعلّم اللّغات الأجنبيّة ليقف على ما فيها ممّا ينفعه، فيستعمله وما يخشى ضرره على قومه فيدفعه، لوجب على أهل العلم أن يأخذوا من ذلك ما يستطيعون..
وكلّ ما يهونون به على أنفسهم ممّا يخالف ذلك، فإنّما هي وساوس الهوى يشغلهم بها عن النّظر في معاني القرآن ويحرمهم من التّعرّض لرحمة الرّحمان .فإن لم يحصلوا علم ذلك كلّه (أو جله) فوزرُ العامّة عليهم ولا تنفعهم دعوى العجز (والوسع) فإنّهم ينفقون من أزمانهم في القيل والقال والبحث في الألفاظ والحروف والأقوال والأشعار ما كان يكفيهم أن يكونوا بحور علم وأعلام هدى ورشد، فليطلبوا العلم من سبيله التي قام عليها السّلف الصّالح والله كفيل أن يمدّهم بعونه»(3) 
الثّانية، من الشّهيد عبد القادر عودة: «وأحب من علماء الإسلام أن يمكنوا للمثقفين ثقافة غربية من دراسة الشّريعة والإطلاع على مبادئها ونظريّاتها ومدى تفوّقها على القوانين الوضعيّة. كلّ ذلك يدعوني إلى الإعتقاد بأن خير ما ينفع الإسلام هو تعريف الجميع بالإسلام في صراحة وشجاعة (ووعي وبصيرة).
 وأخيرا فإنّي إذ أرمي المثقّفين ثقافة غربيّة بجهل الإسلام لا أقصد انتقاص أقدارهم، وإنّما إقرار الواقع وما أنا إلاّ أحدهم ،كنت قبل دراستي للشّريعة في مثل حالهم جهلا بالشّريعة وتجاهلا حتّى أراد اللّه لي الخير، فعرفت إلى أيّ مدى يذهب الجهل بصاحبه، ولا أرضى أن يبقى إخواني وزملائي على حال كنت فيها ولا أزال استغفر اللّه منها»(4).  
الهوامش
(1) منذ 2013، بعد مطالعة تفسير الإمام البقاعي «نظم الدّرر في تناسب الآيات والسّور»،وكتابه «مصاعد النّظر للإشراف على مقاصد السّور»
(2) ابن خلدون. المقدمة 
(3) من محاضرة ألقاها الشيخ محمد عبده في تونس 1903 - تفسير سورة العصر.
(4) عبد القادر عودة، الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه – ص66و67.