بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
محدوديّة المناهج في كتب التّفسير(2) «ثنائيّة اللّفظ والمعنى»
 إنّ علاقة الصّوت بالمعنى من بين القضايا الّتي تجد لها جذورا عند الهنود، ومن ثمّ تعدّدت الآراء العليقة بنشأة اللّغة واختلفت، فمنها ما رأى أنّ اللّغة من الهبات الإلهيّة، ولذلك تتميّز بصفة القِدم والثّبات. وقد تمّ الانتباه إلى أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد المجهّز بجهاز التّصويت والقدرة على إنجاز الفعل الكلامي. وهكذا انطبعت علاقة الصّوت بالمعنى بالثّبات المستند إلى الوثوقيّة اللّاهوتيّة. ومنها ما اعتبرها من وضع البشر وأنّها ثمرة من ثمار تفكيره. كما تعدّدت الآراء أيضا في مستوى علاقة اللّفظ بمعناه فمنها ما رأى أنّها علاقة اقتران لا تقبل الانفصال بين الكلمة والشّيء. ومنها ما ذهب إلى اعتبار أنّ هذه العلاقة فطريّة تبعا لمبدإ المحاكاة وتقليد الأصوات الطّبيعيّة، ومن ثمّ بدا الرّابط ضروريّا بين الصّوت وما يُفيده من دلالة. ومن هذه الآراء ما ارتأى أنّ العلاقة بين الطّرفيْن حادثة(1).
لقد أرجع الهنود أصناف الدّلالة الثّاوية في الكلمات إلى أربعة أصناف: عام وشامل مثل كلمة إنسان. وقِسم يدلّ على معنى الكيفيّة مثل النّعوت كقولك طويل أو قصير. وقسم يدلّ على حدّ البنية الحدثيّة مثل ذهب وقام. وقسم يدلّ على معنى الذّات مثل الأسماء كإبراهيم(2).
وليس خافيا أنّ اللّفظ كائن حيّ تتلوّن دلالته بمقتضى السّياق. وفي هذا الفضاء تولّدت ألفاظ متقاربة المعاني وهو ما يُعرف بالمشترك اللّفظي، بالإضافة إلى ما يُجريه المجاز من دلالات متعدّدة في اللّفظ الواحد. ولقد شغلت هذه القضيّة كلّ الثّقافات من مصريّة ويونانيّة وعربيّة إسلاميّة.
إنّ الاهتمام البالغ من اللّغويّين العرب والمسلمين بلغتهم لم يَعدم هذا المشغل الأساس في التّفكير اللّغوي. وقد تزايد أكثر فأكثر بمقتضى الارتباط بالنّصّ القرآني إظهارا للقدرات اللّغويّة الكامنة فيه. ومن مظاهر التّدقيق اللّغوي المنعكسة رأسا على المعنى، هو مسألة الإعجام والتّنقيط والتّشكيل والقراءات، فكلّ تغيّر يمسّ المبنى يمسّ بالضّرورة الجوانب المعنويّة، ومثال ذلك الآية 37 من سورة التّوبة 9، والّتي نصّها ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾، وهي آية  يتغيّر فيها المعنى رأسا على عقب بحسب القراءتيْن: إحداهما تعتبر تقويم النّسيء حراما وهي الّتي تقرأ لفظة «زِيَادَةٌ» بالرّفع ويُصبح المعنى إخباريّا، كما تَقرأ لفظة «يُضَلُّ» بفتح الضّاد. وأمّا الأخرى فتعتبر النّسيء تقويما مُباحا، وهي الّتي تقرأ لفظة «زِيَادَةً» على النّصب وتعتبر لفظة «يُضِلُّ» مكسورة الضّاد. وعلى هذه الصّورة تُصبح الزّيادة في النّسيء هي الأمر المحرّم، لأنّ هذا الفعل هو الّذي يتسبّب في عمليّة الإضلال. علما بأنّ زعماء قريش كانوا يحلّون النّسيء عاما ويُحرّمونه عاما جريا وراء تحقيق مآرب شخصيّة دون المبالاة بأوامر الله(3).
إنّ هذا المشغل الّذي دارت في إطاره المحاورات اللّغويّة والمعارك الفكريّة، الّتي عليها شُيّد صرح الإعجاز القرآني يمكن إرجاعه إلى الاهتمام بعلاقة اللّفظ بالمعنى والوقوف على أيّهما أفضل، وهو ما حدا بالجاحظ، على سبيل المثال، إلى أن ينتصر للّفظ، إذ يقول: «وليس الشّأن في إيراد المعاني لأنّ المعاني يعرفها العربيّ والعجميّ والقرويّ والبدويّ، وإنّما هو في جودة اللّفظ وصفائه وحُسنه وبهائه ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته ومائه مع صحّة السّبك والتّركيب والخلوّ من أود النّظم والتّأليف»(4). وما من شكّ في أنّ انتصار الجاحظ للّفظ في عصره إنّما هو ردّ فعل على الدّخيل المبتذل من القوالب الأعجميّة في عصر تعالت فيه أصوات الشّعوبيّة المفضّلة لأعراق غير عربيّة على العنصر العربيّ. ولربّما تأثّر الانتصار للّفظ عند الجاحظ بالمقولات الفلسفيّة المُعلية من شأن الصّورة على حساب المادّة. وتدريجيّا، تبلورت مقولة استراتيجيّة الشّكل البادية في جواهر الألفاظ المركّزة على الفنّ الشّكليّ « فأحسن البلاغة التّرصيعُ والسّجع واشتقاق لفظ من لفظ وتمكين ما نُظم من بناء وتلخيص العبارة بألفاظ مستعارة وإيراد الأقسام موفورةً بالتّمام وتصحيح المقابلة بألفاظ متعادلة. وصحّة التّقسيم باتّفاق النّظوم وتلخيص الأوصاف بنفي الخلاف والمبالغة في الرّصف وتكافؤ المعاني في المقابلة والتّوازي وإرداف اللّواحق وتمثيل المعاني»(5).
وهكذا فالقول بجوهريّة اللّفظ ينمّ عن وعي بقضيّة الشّكل والمضمون وأولويّة العناية بالشّكل وأهميّة الصّناعة في النّصّ. وإذ رُبِطت هذه القضايا بإعجاز القرآن، فإنّ القائلين بالصّرفة من المعتزلة يجدون متّسعاً ملائماً للتّصرّف في اللّغة. وأمّا غير القائلين منهم ومن غيرهم بالصّرفة، فإنّهم يحترسون من التّصرّف في الجهاز المعجميّ احتراساً شديداً كي لا يتناقضوا مع مختلف المعاني القرآنيّة بين المشترك اللّغوي. وجرياً منهم وراء تحقيق خلوّ اللّغة القرآنيّة من التّناقض والنّقائص. وإذ يذهب الخفاجيّ إلى أنّ الألفاظ أدوات وليست مقصودة لذواتها، فإنّ المقصود لديه هو المعنى والغرض اللّذيْن اُحتيج  إلى العبارة عنهما بالكلام وصار الكلام حينئذ بمنزلة الطّريق الموصلة إلى المعاني(6). ومن ثمّ يصبح المعنى مقدّما على اللّفظ بالرّغم من أنّ كتاب «سرّ الفصاحة» هو أكثر الكتب إمعانا في الانتصار للّفظ وتخصيصه بالأولويّة والفضل جودةً وحُسناً، إلاّ أنّه يشترط ترابط الألفاظ بالمعاني وتداخل مجاليْ الفصاحة والبلاغة(7).
ولعلّ الإشكال القائم في علاقة البلاغة بالفصاحة وجد حلّه على يد عبد القاهر الجرجاني انطلاقا من اللّفظ والمعنى، إذ مثّل الكلام لديه المعنى الموصول لكليْهما ألفاظاً وتراكيب. ففي النّظم تنتظم العلاقة في الجدل الظّاهر بين الطّرفيْن: اللّفظ والمعنى. وكذلك الجاحظ الّذي اعتبر أنّ المعنى كامن في ظاهر اللّفظ وأنّ اللّفظ ليس أسرع معنى إلى القلب، وهي مقاييس يفرضها التّلقي وضرورة تمثّل أجزاء النّصّ أوّلاً بأوّل حتّى لا ينفلت الخيط النّاظم لها(8). وقد استقرّت العلاقة في تفكير الجرجاني، على أنّ الصّيغة المُثلى في هذه العلاقة بين الزّوجيْن على صورة متوازنة لا يطغى فيها طرف على طرف. يقول في «أسرار البلاغة»: «مَن نصر اللّفظ على المعنى كان كمَن أزال الشّيءَ عن جهته وأحاله عن طبيعته وذلك مظنّة الاستكراه وفيه فتح أبواب العيب والتّعرّض للشّيْئيْن»(9) .
وإذا كانت المعاني سابقة على الألفاظ واسعة المدى، فإنّ الألفاظ ستصبح علامات دالّة عليها(10). فقيمة اللّفظ تُستمدّ ممّا يقيمه من شبكة علاقات متشابكة بما سبقه وما لحقه من الألفاظ. وفي هذا الفضاء يتدخّل محور الاختيار حيث تتوفّر اللّغة على إمكانات عديدة في التّعبير عن الفكرة الواحدة، فالألفاظ حينئذ واسطة دالّة على ما في النّفس من المعاني، يقول عبد القاهر الجرجاني في هذا الصّدد : «لمّا كانت المعاني إنّما تُتَبيّن بالألفاظ. وكان لا سبيل للمرتّب لها والجامع شملها إلى ما يعلّمك ما صنع في ترتيبها بفكرة إلاّ بترتيب الألفاظ في نطقه تجوّزا فكنّوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ ثمّ بالألفاظ بحذف التّرتيب»(11).  وعلى هذه الصّورة يصبح الإعجاز خروجا عن المجاز، الّذي هو بدوره عدول عن قواعد اللّغة الموضوعة لها في أصل الاستعمال، فهو عدول على العُدول. ولقد بدا الحرص على إظهار الصّورة المُثلى التي ينبغي أن تظهر عليها طريقة الاستعمال اللّغوي من أجل أمر جوهريّ هو الإحاطة بالمقصد أو قل المعنى الكلّي المراد من القيل القرآني. ولعلّ هذه الصّورة المثلى تبدو واضحة المعالم فيما رسمه المبرّد في قوله الوارد في رسالته حول البلاغة في كتابه «الكامل»: «حقّ البلاغة إحاطة القول بالمعنى واختيار الكلام وحسن النّظم حتّى تكون الكلمة مقاربة أختها ومعاضدة شكلها وأن يُقرَّب بها البعيد ويُحذَف منها الفضول»(12). 
إنّ المجهود المبذول في الوقوف على الوظيفة البلاغيّة يستهدف إجراء اللّحمة بين مكوّنات الخطاب والحرص على التّماسك بين وحداته وهو الّذي يُسمّى بالنّظم أو الهيأة البنيويّة. إنّ الإعجاز متأتّ من ضروب المجاز الّذي هو عدول عن العبارة الحقيقيّة كما وُضعت في أصلها اللّغوي، وذلك رغبة في الإبانة عن حاجات إلى التّعبير تظلّ الحقيقة عاجزة عن أدائها. وقد ذهب صاحب «معجم التّعريفات» إلى أنّ الإعجاز في الكلام: «هو أن يؤدّى المعنى بطريق هو أبلغ من جميع ما عداه من الطُّرق»(13). وقد عجّ النّصّ القرآنيّ بهذا العدول وتحدّى أصحاب اللّسان الّذي نزل بلسانهم أن يُنجزوا عدولا كهذا العدول وأن ينظمّوا نظمه ولو في آية واحدة أو ما يعادلها. علما بأنّ اللّغويّين، والمفسّرين من ورائهم، قد ذهبوا مذاهب متقاربة في استكناه معنى الحقيقة ومعنى المجاز والعلاقة الرّابطة بينهما. وفي هذا الإطار، يندرج ما ذهب إليه ابن سنان الخفاجي (ت466 ه) من أنّ « اللّفظ الموصوف بأنّه حقيقة هو ما أُريد به ما وُضع لإفادته والمجاز هو اللّفظ الّذي أريد به ما لم يُوضع لإفادته»(14). وهو ما يذكّر بتعريف ابن جنّي(ت 392 ه) للفرق بين الحقيقة والمجاز، إذ يقول «الحقيقة ما أقرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللّغة والمجاز ما كان بضدّ ذلك»(15). 
والمهمّ أنّ أقصى درجات المجاز تتجلّى في استعمال القرآن الاستعارةَ بأنواعها، حيث يفعل القول فعله في إحداث التّخييل والتّأثير وتعميق المعنى في ذهن المتلقّي. وقد اهتدى الجرجاني إلى تلخيص هذه العمليّة الإيحائيّة الّتي يحتوي النّصّ عليها في مضاعفة الإيحاء وإنتاج المعاني في إبرازه لمقولة «معنى المعنى»(16). فاللّفظ قد يدلّ على الحقيقة. وقد يعبّر اللّفظ نفسه عن غير معناه، ولكنّه يفيد موضوعا مُرادا، وهي الدّلالة الثَّانية الموصلة إلى الغرض، وفي هذه الحالة، تتدخّل الكناية والاستعارة والتّمثيل، وللّفظ إفادة ظاهرة ومُراد في المعنى بعيد.
وعلى هذا النّحو، يصبح للدّال الواحد مدلول أوّل ومدلول ثان. ممّا يدعو إلى التّأويل وضرورة البحث عن المقصد والمدلول الأسمى الثّاوي وراء حسن اللّفظ أو العبارة أوّلا ومقتضى السّياق ثانيا، مع التّركيز على طبيعة القرينة العقليّة الرّابطة بين ظاهر القول ومقصده الخفيّ. وعليه، فإنّ المجاز مندرج، أساسا، في علم الدّلالة اللّغويّة المتجاوزة للحقيقة والموظّفة لها خدمة للّغة وتوسيعا لآفاقها، ولاسيّما اللّغة القرآنيّة ذات الآفاق الواسعة والمتضمّنة لدلائل الإعجاز، الّتي جنح الفقه إلى تضييقها انطلاقا من ارتباطه العضويّ بالوقائع والأحداث الجزئيّة، وإن كان ذلك من باب البحث عن المنفعة المباشرة في حياة النّاس اليوميّة، سواء ارتبطت بعقائدهم أو بمعاملاتهم.
وفي هذا الفضاء، اهتدى القاضي عبد الجبّار إلى فضل تجاوز الاحتذاء في الاستعمال اللّغويّ وإلى تجاوز المواضعة إلى فعل التّصرّف بفضل علم زائد على المواضعة والاحتذاء، إذ الاحتذاء لا تفاضل فيه، في حين أنّ التّصرّف يظهر فيه فضل الفاضل(17). وهكذا يتجلّى التّفاعل الحيويّ بين البنى اللّغويّة ومعانيها إذ كلّما تغيّر الشّكل تغيّرت الدّلالة. وما تحدّي القرآن للأذهان أن يأتوا بمثله، إلاّ شحذ لها  كي تحكّك الأساليب وتجوّد الصّيغ، ومع ذلك يظلّ نظمه مُعجزا رغم تعقّل أساليبه ومادّة إعجازه.
ويبدو أنّ  القواعد اللّغوية المتعلّقة بالممارسة البلاغيّة من شأنها، مبدئيا، أن تقوّي، لدى المتكلّم، مهارة التّجاوز للمواضعات. ولعلّ جهود الرّمّاني في تعريف الاستعارة تندرج في هذا الإطار، فهو يعتبر «كلّ استعارة لابدّ فيها من أشياء مستعار ومستعار له، واللّفظ المستعار قد نُقل عن أصل إلى فرع للبيان»(18). وهكذا اُعتبرت الحقيقة، في التّفكير البلاغي والتّفسيري، هي الأصل والمجاز هو الفرع. وكذلك الأمر بالنّسبة إلى الدّلالة اللّغويّة الّتي بدورها تنشدّ إلى دلالة حقيقية وأخرى مجازية. والجدير بالملاحظة، هو أنّ العلاقة بين هذيْن الطّرفيْن مشدودة بالمراوحة، إذ المجاز يتولّد عن الحقيقة، والحقيقة بدورها تتولّد عن المجاز حسب عبارة ابن جنّيّ(19). فكثرة استعمال المجاز وتداوله على الألسنة يتحوّل إلى حقيقة ظاهرة مركّبة في الطّبائع والسّجايا كتشبيه الشّجاع بالأسد، على سبيل المثال، أضحت تركيبا مبذولا لا يستوجب جهدا في الصّناعة والأداء اللّغويّ. وليس الأمر المتعلّق بالحقيقة والمجاز على هذه الصّورة في الخطاب القرآني، إذ يتضمّن خروجا عن المألوف اللّغوي بما أوتيَه من قدر معجز. فلمّا كان القرآن كتابا مقدّسا معجزا ومنزّها عن الزّيادة في القول ونقصانه، فإنّ كلّ لفظة فيه وكلّ وجه من وجوه المجاز يعبّر عن معنى منسجم تماما مع النّسيج العامّ المشارك في بنائه حيث تنتفي وجوه العبث والمناقضة لبيان حكمة الرّسالة وإعجازها(20).
وما من شكّ في أنّ الجهود الّتي بُذلت في الدّراسات اللّغويّة، والّتي اتّخذت منهجا واضح المعالم في دراسة البلاغة وتوظيفها في التّفسير، قد رامت الوقوف على ركائز واضحة وثابتة  لاستبانة ملامح الإعجاز القرآني وهيمنته على كلّ الأساليب الفنّيّة والأدبيّة السّائدة. وقد بلغ هذا التّفكير المنهجيّ مع عبد القاهر الجرجاني درجة تعتبر القرآن بناءً موحّداً تتفاعل أجزاؤه داخليًّا، وفهمه رهين الإمساك بهذا البناء، والمدخل المنهجيّ إليه كامن في مقولة النّظم أو ما كان الرّمّاني يطلق عليه، قبله، دلالة الاسم والصّفة ودلالة التّأليف(21). والقصد من دلالة التّأليف، لدى الرّمّاني، هو جملة الأحكام الحاصلة من تعليق أقسام الكلام بعضها ببعض كدلالة الملكيّة في الإضافة، على سبيل المثال، فهي تقع من غير ذكر لها باسم أو صفة. علما بأنّ دلالة المعجم لدى الرّمّاني تقف عند دلالة معلومة ومحدودة. أمّا دلالة التّأليف، فهي غير متناهية فالعدد المحدود من المعجم يستطيع المؤلّف أن يتصرّف فيه ليُقيم عددا غير محدود من العلاقات المتشابكة. وإعجاز القرآن، لديه، قائم على هذا النّوع من الدّلالة غير المحدودة، يقول : «والبيان في الكلام لا يخلو من أن يكون باسم أو صفة أو تأليف من اسم للمعنى أو صفة كقولك غلام زيد، فهذا التّأليف يدلّ على المُلك من غير ذكر له باسم أو صفة، ودلالة الأسماء والصّفات متناهية. وأمّا دلالة التّأليف فليس لها نهاية ولهذا صار التّحدّي فيها بالمعارضة لتظهر المعجزة ولو قال قائل: «قد انتهى تأليف الشّعر حتّى لا يمكن أحد أن يأتي بقصيدة إلاّ وقد قيلت لكان ذاك باطلا، لأنّ دلالة التّأليف ليس لها نهاية كما أنّ الممكن من العدد ليس له نهاية يوقَف عندها لا يمكن أن يزاد عليها»(22). 
وعلى هذا الشّكل، تمّ الرّبط بين اللّفظ والمعنى انتظاما والتئاما وكمال صوغ وجمال تركيب، حيث تتحوّل فصاحة الألفاظ إلى بلاغة الكلام في صيغته التّركيبيّة. وفي هذا الإطار، ذهب الباقلاّني إلى اعتبار أنّ نظم القرآن، على تصرّف وجوهه وتباين مذاهبه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلام العرب ومباين للمألوف من تركيب خطابهم وله أسلوب يختصّ به ويتميّز في تصرّفه عن أساليب الكلام المعتاد. وذلك أنّ الطّرق الّتي يتقيّد بها الكلام البديع المنظوم تنقسم إلى أعاريض الشّعر على اختلاف أنواعه ثمّ إلى أصناف الكلام المسجّع المعدّل ثمّ إلى معدّل موزون غير مسجّع ثمّ إلى ما يُرسَل إرسالاً فتُطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة على وجه البديع. وقد عُلم أنّ القرآن خارج عن هذه الوجوه ومباين لهذه الطّرق(23). وهذه الخصائص البديعيّة تجعل تأليف القرآن غير مقدور على الإتيان بمثله من المخلوقات جميعا، ولذلك استقرّت هذه الخصائص دليلاً على صحّة نبوءة الرّسول.
ومع ذلك فإنّ المذاهب الإسلامية ليست على رأي واحد إزاء قضايا الحقيقة والمجاز. ففي الوقت الّذي ذهب فيه الشّافعية إلى أنّ اللّفظ لا يكون مجازا إلاّ إذا تمّ الاضطرار إلى تجاوز الحقيقة، فقد رأى الحنفيّة أنّ المجاز طريق لأداء المعنى مثل الحقيقة تماما. فالمجاز عند الشّافعيّ ضرورة يُلجأ إليها وفق مقتضيات مخصوصة(24). ولئن ارتبطت فرادة النّص القرآني، بإشكاليّة اللّفظ والمعنى، فإنّ التّفكير الاعتزالي وجد له مخرجا يتمثّل في أنّ القرآن المتكوّن من خطاب الأمر والنّهي وهما يستوجبان وجود متلقّ مخلوق يُتوجّه إليه بخطاب مخلوق، والقديم الوحيد هو الله. فقوّة القول لا تكمن في القيل المخلوق فحسب، بل في القدرة الإلهيّة الماثلة في منع قلوب المعاندين على الإتيان بمثله. وذهب الأشاعرة إلى الكلام النّفسي الفاصل في الخطاب بين المعاني القائمة في النّفس وبين الألفاظ الملفوظة باللّسان هروبا من المأزق المتمثّل في قدم كلام الله أو عدم قدمه، ومن ثمّ فُصل بين المعنى واللّفظ وجُعل لكلّ منها كيان مستقلّ(25). وهكذا اتّضح أنّ فرادة القرآن كامنة في معانيه وطرائق التّعبير عنها، باعتبار توقيفيّة اللّغة. 
والحاصل ممّا سبق، هوّ أنّ ظاهرة الإعجاز قد استقطبت اهتمام الفرق والمذاهب ممّا جعل الآراء تتعدّد وتتباين، فمنها ما حصرها في البيان، ومنها ما جعلها في المعاني، ومنها ما رآها في القصص المخبِر. وإذا قال البعض بالصّرفة فقد قال البعض الآخر بالنّظم. وقد دفعت جهود المتكلّمين بالمباحث اللّغويّة قُدُما بطريقة لافتة للانتباه مازجين الدّلالة اللّغويّة بالدّلالة المنطقيّة والعقليّة. ولعلّ الجرجانيّ الأشعريّ صاحب «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة»، وأبا يعقوب السّكاكي المعتزليّ هما اللّذان نظّرا لقضيّة الإعجاز وقنّنا لها. ويبدو أنّ مدار الإعجاز في الوعي الدّيني التّقليدي يتركّز حول عمق المعنى وفصاحة العبارة معا، يقول أبو هاشم الجبّائيّ ( ت321ه) في هذا المجال: «إنّما يكون الكلام فصيحا لجزالة لفظه وحسن معناه، ولا بدّ من اعتبار الأمريْن، لأنّه إذا كان جزل اللّفظ ركيك المعنى لم يعد فصيحا، وإذًا لا بدّ أن يكون جامعا لهذيْن الأمريْن»(26). وأمّا الرّمّاني فيحصر وجوه الإعجاز فيما يتجاوز اللّفظ وحده أو المعنى مُنفردا، ويجعله في سبعة وجوه وهي: عدم وجود المعارضة من العرب مع توفّر الدّواعي، والتّحدّي للكافة وظهور عجزهم، والصّرفة، والإخبار بالغيوب، ونقض العادة بالإتيان بطريقة جديدة تسمو على الطّرق المألوفة في الشّعر والنّثر، وقياسه بالمعجزات الأخرى كقلب العصا ثعبانا، والبلاغة(27). وانطلاقا من هذه المناقشات والجهود المتعلّقة بإثارة الدّلالة من الملفوظ تبلورت فكرة النّظم في ذهن عبد القاهر الجرجانيّ نظرا لتأخّره النّسبي في الزّمن. 
ومن علامات تضافر الجهود اللّغويّة ما توصّل إليه الجرجاني من بلورة العلاقة بين اللّفظ والمعنى والارتقاء بها إلى درجة الانتظام وفق مقتضيات السّياق، الّذي يفرضه مضمون الخطاب ومحتوى النّص، بحسب الضّوابط النّحويّة، الّتي تحدّد المرجع، حيث تتعالق الأجزاء اسما وفعلا وحرفا، وحيث تنتظم العلاقات النّحويّة والمعنويّة والمنطقيّة. ومن ثمّ تتكثّف دلالة الإعجاز البادية في اللّفظ وفي المعنى، لتتجلّى في المزيج المتأتّي من انتظامهما. يقول الجرجانيّ، في هذا الصّدد: «إنّ مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعا من الذّهب أو الفضّة فيذيب بعضها في بعض حتّى تصير قطعة واحدة، وكذلك أنّك إذا قلت ضرب زيد عمرا يوم الجمعة ضربا شديدا تأديبا له، فإنّك تحصل من مجموع هذه الكلم كلّها على مفهوم هو معنى واحد لا عدّة معان كما يتوهّمه النّاس، وذلك لأنّك لم تأت بهذه الكلم لتفيده أنفس معانيها، وإنّما جئت بها لتفيده وجوه التّعلّق، الّذي بين الفعل وبين العمل فيه. والأحكام الّتي هي محصول التّعلّق»(28). ومن هذا التّوجّه يتّضح أنّ النّظام النّحوي، هو المدخل للدّلالة العقليّة، ومنها المجاز العقليّ المتمثّل في إسناد الفعل أو ما جرى مجراه إلى غير فاعله. والعلاقة المعنويّة إنّما تدرك بالعقل. والكلام ضربان: إمّا أن يكون على الحقيقة، وإمّا أن يكون على المجاز بمختلف فروعه. فاللّغة ما عادت مجرّد أداة تواصل ووعاء للمعنى، بل هي علامات دالّة على المعنى. وهكذا تصبح الألفاظ حمّالة أوجه في نطاق نظام تواصليّ شامل. 
والجدير بالملاحظة، هو ما ذهب إليه بعض الدّارسين من أنّ العقل العربيّ الإسلاميّ في فترة حيويّته لم يقنع باجترار المقولات الإغريقيّة، بل تفاعل معها وأنتج مقولات تدلّ على حيويّته. إذ جاء السّكاكيّ بإضافة عمّا كان عليه التّفكير اللّغويّ بزوج يتمثّل في نظام الخطاب ونظام العقل، متجاوزا بذلك الجهود اللّغويّة، الّتي سبقته، وهي الّتي نهضت على ثنائيّة اللّفظ والمعنى(29). وهكذا تمّ التّضام بين علميْ البيان والمعاني، وهو مكمن الإعجاز في الخطاب القرآنيّ وقد تمّ توظيفهما في مجاليْ التّفسير والتّأويل إنْ في الآيات المُحكمات وإنْ في الآيات المتشابهات. والإعجاز عموما هو البحث عن خواص التّراكيب العربيّة المبنيّة بواسطة الألفاظ ومطابقته للحال بطريقة يعجز البشر عن الإتيان بشبهه، بالرّغم من الإمساك بناصية الفصاحة، وإدراك مقتضيات المقام. فغاية المرام من دراسة الإعجاز، هي أنْ يقف الدّارس على مطابقة الكلام للمراد منه ومطابقة الكلام لمقتضى الحال، والّذي يخلص إليه الدّارس، هو أنّ ثنائيّة اللّفظ والمعنى أفضت إلى ثنائيّة الحقيقة والمجاز. وهذه بدورها أدّت إلى تعالق علم البيان مع علم المعاني فكان التّزاوج بين نظام الخطاب ونظام العقل مدخلا يتوسّل به المفسّر للظّفر بالمُراد من القيل القرآني المُعجز. ومازالت علاقة اللّفظ بالمعنى قضيّة تجد لها مبرّرا في الحياة الفكريّة الحديثة والمعاصرة. وبعض الاتّجاهات الفكريّة تذهب إلى أنّ الفكر واللّغة متطابقان تمام التّطابق(30). واللّافت للنظر في هذا المجال، هو أنّ «بلومفيلد» قد رأى أنّ دراسة المعنى هي النّقطة الأضعف في الدّراسة اللّغويّة، والأوفق هو أن يُركّز علم اللّغة اهتمامه على مجال المادّة اللّغويّة الّتي يمكن ملاحظتها وتجربتها وقياسها، إذ أنّ دراسة أصوات الكلام دون النّظر إلى المعاني هو الاستخدام الفعلي(31). وقد ذهب السّلوكيّون إلى أنّ المعنى متحيّز خارج حدود اللّغة انسجاما مع موقفهم المضاد للتّصوّرات والأفكار القبليّة والمجرّدة. وذهب البعض إلى اعتبار أنّ تجاهل المعنى يعدّ وهما، لأنّ اللّغة نشاط يتميّز بكونه ذا معنى، ولذلك احتلّ المعنى قلب الفعل اللّغوي(32). وهو ما يُحيل، بالضّرورة، على دراسة العلاقة بين المفردات والتّقارب بينها.
الهوامش
(1) يمكن العودة في هذا المجال إلى أحمد مختار عمر، علم الدّلالة، عالم الكتب، القاهرة، سنة1998، ص18 وما بعدها.
(2) انظر أحمد مختار عمر، البحث اللّغوي عند الهنود وأثره على اللّغويّين العرب، دار الثّقافة، بيروت، لبنان، سنة1972، وبالتّحديد الفصل التّاسع: علم الدّلالة، ص99 وما بعدها.
(3) انظر في هذا الصّدد كتاب نيازي عزالدين، النّسيء: تقاويم  العالم والتقويم العربي الإسلامي، دار الأهالي للطّباعة والنّشر والتّوزيع، ط1، سنة 1999، وقد اعتمد فيه على بعض القراءات الّتي كانت سائدة في مطلع الإسلام  وقد عَثر على بعضها من خلال التّشكيل الّذي كانت عليه النّسخة من المصحف الّذي بعث به محمّد علي باشا إلى الباب العالي بالأستانة سنة 1811، وهي نسخة كاملة عن المصحف الأثري العثماني المكتوب بالخط الكوفي وهو يتكوّن من 815 صحيفة بالتصوير الفوتوغرافي، علما بأنّ فعل التّنقيط والتّشكيل عمل بشري طارئ على النّصّ القرآني. كما يُمكن العودة إلى محمّد بالحاج سالم في كتابه «من الميْسرِ الجاهلي إلى الزّكاة الإسلاميّة: قراءة إناسيّة في نشأة الدّولة الإسلاميّة الأولى،  دار المدار الإسلامي، ط1، سبتمبر 2014، وبالتّحديد ص386 وما بعدها.
(4) الجاحظ ، الحيوان، ج 3، تحقيق عبدالسلام هارون، القاهرة، ط2، سنة 1965 ، ص ص131،132. وأبو هلال العسكريّ، كتاب الصّناعتين الكتابة والشّعر، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة،  سنة1971، ص64.
(5) قدامة بن جعفر، جواهر الألفاظ، تحقيق محمّد محي الدّين عبد الحميد، دار الكتب العلميّة، بيروت، سنة1985، ص3.
(6) ابن سنان الخفاجي، سرّ الفصاحة، دار الكتب العلمية، بيروت، سنة1982، ص 203
(7) حمّادي صمّود، التّفكير البلاغي عند العرب، منشورات الجامعة التّونسيّة، سنة 1981، ص460.
(8)  انظر حمّادي صمّود، م ن، ص463.
(9) عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ج1، تحقيق عبد المنعم خفاجي، القاهرة، سنة1972، ص100.
(10) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، م س، ص319 وما بعدها.
(11)  عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، م ن، ص50.
(12) المبرّد، الكامل، مج1، تحقيق عبد الحميد هنداوي، وزارة الشّؤون الإسلاميّة والأوقاف والدّعوة والإرشاد، المملكة العربيّة السّعودية، ص77.
(13)علي بن محمد الجرجاني، معجم التّعريفات، تحقيق محمد صديق المنشاوي، دار الفضيلة، مصر، د ت، ص30.
(14) ابن سنان الخفاجيّ، سرّ الفصاحة، م س، ص43.
(15) ابن جنّيّ، الخصائص، ج 2، تحقيق محمّد عليّ النّجار، دار الهدى للطّباعة والنّشر، بيروت، ط2، د ت ، ص442.
(16) عبد القاهر الجرجانيّ، دلائل الإعجاز، م س، ص262.
(17) القاضي عبد الجبّار، المغني في أبواب التّوحيد والعدل، ج16، م س، ص192.
(18) الرمّاني، النّكت في إعجاز القرآن، م س، ص86.
(19) ابن جنّيّ، الخصائص، ج2، م س، ص447.
(20) انظر حمّادي صمّود، التّفكير البلاغي عند العرب، م س، ص432.
(21) انظر الرّمّاني، النّكت في إعجاز القرآن، م س، ص106 وما يليها.
(22) الرّمّاني، النّكت في إعجاز القرآن ، م س، ص107. وهو يصرّح بعبارة النّظم، في تفسيره في عدّة مواطن نذكر منها تفسيره للآية 94 من سورة آل عمران 3، ص60. 
(23)انظر أبا بكر الباقلاّني، إعجاز القرآن، تحقيق أحمد صقر، مصر، ط3، سنة1972، ص35. 
(24)محمّد عابد الجابري، بنية العقل العربيّ: دراسة تحليليّة نقديّة لنُظم المعرفة في الثّقافة العربية، المركز الثّقافي العربي، ط3، سنة1993، ص59.
(25) محمّد عابد الجابري، م ن، ص65.
(26) القاضي عبد الجبّار، المغنى في أبواب التّوحيد والعدل، ج16: إعجاز القرآن، م س، ص197.
(27) الرّماني، النّكت في إعجاز القرآن، م س، ص 75.
(28)الجرجانيّ، دلائل الإعجاز، م س، ص 116.
(29) محمّد عابد الجابري، بنية العقل العربيّ، م س، ص 92.
(30) “Lannguage and thought are inseparable. Words without are dea the sounds, thoughts without words are nothing. To think is to speak low and to speak is to think aloud. The word is the thought incarnate”. Max Muller, lectures on the science of language, fourth edition, longman, green, logman Roberts and green, London, 1864, lecture 9: the theoretical stage and the origin of the language: sound thought, p401.
(31) Leonard  Bloomfield, language, university of Chicago press, ChicagoLondon, 1984, chap9: meaning, p139  
(32)يُشير أحمد مختار عمر إلى الجدل العلمي الّذي دار بين بلومفيلد وفيرث في كتابه «علم الدّلالة» ، م س، ص25 وما بعدها.