تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
علاقة اللّغة برموز المشاعر
 اللّغة دون علامات التّرقيم كمسرح فقد أدوات الإضاءة والصّوت. فلا يرى المتفرّج حركة ولا يسمع نصّا. فعلامات التّرقيم في اللّغة عبارة عن الحركات والعلامات التي تستعمل في تنظيم الكتابة، وفي الفصل بين الكلمات، أو أجزاء من الجملة، وهي علامات ورموز متّفق عليها توضع في النّصّ المكتوب بهدف تنظيمه وتيسير قراءته وفهمه. هكذا اتفق النّحاة حيث يفقد النّصّ معانيه إذا ما حُرِم من النّقطة والفاصلة ومن علامتي الاستفهام والتّعجب. وإذا كان النّص كتابة وقراءة وسيلة اتصال تنقل محتواه من المرسل إلى المتلقي، فغياب علامات التّرقيم عند الإرسال يعرّض المحتوى إلى احتمالات التّشويه، فيصل إلى المتلقّي في أشكال مختلفة ومتعدّدة لا علاقة لها بالغرض المقصود من المرسل. والفرق واضح بين: «لنأكل، أخي» و«لنأكل أخي»، وضوح الفاصلة التي أبعدت معنى أن يلتهم سليمان بن أحمد البُطْحي صاحب المثال، أخاه.
تطوّرت اللّغات بتطوّر آليّات الكتابة، فتزايد عدد الحروف بتطوّر ذات أشكالها أو بإدخال رموز حروف جديدة لينطق كلّ شكل بما يقتضيه الغرض ويؤدّي المعنى للكلمة. فكلّنا يعلم أنّ القرآن في نسخه الأولى لم يكن منقّطا ممّا يجعله اليوم مستحيل القراءة والتّلاوة. بل يحرّف المعنى كلّما نطقنا الدّال ذالا والرّاء مكان الزّاي أو القاف مكان الفاء، وكذلك العين والغاء والظّاء والطّاء والضّاد والصّاد والباء مع الياء والسّين بالشّين. زد على ذلك، هل كان ممكنا قراءة القرآن دون العلامات الدّالّة على الحركات والسّكنات التي تمّ تحديدها زمن الحجاج بن يوسف الثّقفي، وقام بتعديلها الخليل بن أحمد الفراهيدي زمن الدّولة العبّاسيّة؟ فإضافة إلى ضبط العلامات النّقطيّة، ابتكر الخليل بن أحمد واضع العروض علامة للشَّدَةِ. كما أنّ تلاوة القرآن ما كانت ممكنة لو لم يتم وضع رموز خاصّة بعلامات الوقف الطّويل والقصير، وعلامات ضبط الوقف. وعلامة السّجدات، وعلامات تَقْسِيم المُصْحَفِ إلى أَجزاء، وأحزاب، وأرباع، وأثمان.
كلّ ذلك التّطوّر كان محمودا يرمي إلى توحيد قراءة كتاب اللّه حتّى لا يختلف المسلمون في فهم دينهم. ولكن شاء ربّك أن يختلفوا إلى حدّ ما، حيث أقرّ العلماء في الأخير واتفقوا على عشر قراءات لا يجوز الخلط بينها. ولعلّها من حكمته أن جعل من اختلاف القراءات أبوابا مفتوحة للاجتهاد في فهم ديننا الحنيف ووضع الشّريعة الإسلاميّة اعتمادا على القرآن والسّنّة حسب المذاهب الأربعة وما تفرّع عنها. 
لعلامات التّرقيم دور هامّ عند الكتابة، ليس فقط في لغتنا العربيّة بل في كلّ اللّغات بما فيها لغة الإشارة الخاصّة بالصّم وضعاف السّمع. وهي مجموعة من الإيماءات والرّموز اليدويّة يستخدمها كذلك أصحاب السّمع السَّوِي للتّخاطب مع الصمّ. وتعتمد لغة الإشارة على الأفكار أكثر من الكلمات، فكلّ إيماءة تعبر عن فكرة أو مفهوم محدّد. وهو استنباط لمعجم الحركات برّرته الغاية فدفعت به. وكذلك الرّقص، فكلّ حركة جسمانيّة تعبّر عن حالة ما طبقا لمعجم متّفق عليه.  هكذا هو الفنّ استنباط معاجم لرموز تمثّل الأحاسيس والمشاعر وما يعجز التّعبير عنه باللّسان. فالأشياء التي تستطيع إخبارها لا تستحقّ رقصا. 
اللّغات إذن معاجم لمفردات تكون كلمات في فنّ الكتابة وألوانا بالنّسبة لفنّ الرّسم (خربش ولوّن لأقرأ ما في داخلك) ومعاجم حركات جسمانيّة بالنّسبة لفنّ الرّقص (تحرّك لأفهمك). كلّ شيء لا يتحرّك ولا يتغيّر مبهم حتّى الكتابة تبقى غامضة ومبهمة طالما لا تتحوّل. أبعد من ذلك، فحسب رأي بعض المتخصّصين، فالرّقص هو «اللّغة الخفيّة للرّوح»، وعند آخرين هو «حالات الرّوح التي تترجم إلى تعبير جسدي أو فيزيائي»، فهذه الفنون مثل الرّقص والموسيقى قديمة قدم البشريّة، باتت وسائل فعّالة للتّعبير حتّى وإن حكمتها ثقافات وأيديولوجيّات مختلفة. 
ببساطة، عندما نقوم بقراءة أيّ نص في أيّة لغة كان بما فيها لغة الموسيقى مثلا، ونقف على جمل المفردات -بما تحمله المفردة من معنى- وفقا لمواضعها الصّحيحة، واستخدام العلامات المناسبة للكلمات أو لجمل المفردات، نجد التّرابط المنشود واضحا، وبالتّالي يسهل علينا فهم المعنى المقصود. فالرّقص مثله مثل الموسيقى، طريقة للتّعبير عن الذّات، وهو عبارة عن لغة فيزيولوجيّة للتّعبير عن مكنونات الإنسان، وطريقة تواصله مع الآخرين ومع الذّات، تتجاوز كلّ حواجز اللّغات الأخرى ولا يحكمها قصور المفردات. وكذلك فنّ الرّسم وكلّ الفنون التي نعرفها ولا نعرفها.
واليوم، أمام ثقافة جديدة لا تحدّها جغرافيا ولا عقيدة، جعلت أبواب الاجتهاد مفتوحة على مصراعيها لاستنباط لغات جديدة لمخاطبة الآلات ولغات للتّخاطب فيما بينها، إضافة إلى أخرى بين البشر تحاكي أحاسيسهم ومشاعرهم وحالاتهم النّفسيّة وكلّ ما يصعب التّعبير عنه بالوسائل التّقليديّة، ظهرت أشكال لرموز جديدة سمحت بها لوحات مفاتيح الحواسيب الحديثة والهواتف الذّكيّة التي في الحقيقة على قدر ما ارتفعت حدّة ذكائها ما كانت لترتفع لولا إطلاق حرّية الذّكاء البشري. فإضافة إلى أنّ كلّ بروتوكول تبادل معلومات بين الآلات نفسها أو بينها وبين الإنسان للتّحكم فيها، هو في الحقيقة لغة تعتمد على رموز ومصطلحات تجمع بينها معاجم تسمى بروتوكول تفاهم. ومن أهمّ اللّغات الحديثة التي انتشرت تلك التي تعتمد على رموز وأشكال الإيموجي. وهي مجموعة من الرّموز التّعبيريّة تستخدم لنقل المشاعر أو الأفكار في الرّسائل الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي. وتطورت بسرعة مذهلة حتّى أصبحت جزءًا لا يتجزّأ من الثّقافة الرّقميّة العالميّة بفضل انتشارها الواسع واعتمادها في الرّسائل النّصيّة ووسائل التّواصل الاجتماعي.
فالإيموجي لم يعد مجرّد رمز أو صورة تحيل المتلقي إلى التّعبير عن مفردة، ولكنّها إشارة إلى الحالة العاطفيّة التي نختبرها بينما نتواصل مع شخص لا نراه، فتصبح البديل عن لغة الجسد وتعابير الوجه وشدّة الصّوت أثناء الحديث، والتي تعطي معلومات أكثر ما تعطي اللّغة الكلاميّة والكتابيّة.
بالنّظر إلى توسّع مكتبة الإيموجي لتشمل تعبيرات ثقافيّة ولغويّة من مختلف أنحاء العالم ولتتيح للأفراد التّعبير عن أنفسهم بشكل أكثر إيجازًا تجاوز مجال التّواصل الشّخصي إلى مجالات التّسويق والتّعبير الفنّي، ممّا أثر تأثيرًا كبيرًا في الثّقافات الشّعبيّة وبروز أدب جديد يسمّى أدب الإنترنت على حساب الآداب الأكاديميّة والشّعبيّة، يُطرح على المعنيين بهذا الشّأن سؤالان إثنان: 
السّؤال الأول: هل تهدّد الرّموز والمصطلحات الحديثة مثل الإيموجي والأخرى المستجدّة - والتي مازلنا لا نعرفها وستظهر في القريب العاجل في إحدى التّطبيقات التي تدعم وترتقي بما يسمّى بأدب الانترنت- الآداب الأكاديميّة والشّعبية الكونيّة؟ وإن كان كذلك، فما هو مصير لغتنا العربيّة ولغة القرآن؟
السّؤال الثّاني: إذا كان هذا التّطوّر للمصطلحات بهذه السّرعة وبهذه الجدوى التي يؤكّدها الواقع المعيش، فلماذا لا يستخدم هذا الذّكاء البشري في تطوير قراءة القرآن حتّى يفهمه هؤلاء الشّباب والأطفال الذين أضاعوا الكلمة واستبدلوها بالرّمز والصّورة؟ ولماذا لا يعاد فتح باب الاجتهاد في إعادة ترقيم النّص القرآني؟ فلولا شجاعة الحجاج بن يوسف الثّقفي واجتهاد الخليل بن أحمد ما كنّا قرأنا القرآن وفهمناه.