محراب الأدب

بقلم
د.جهاد معلى
الأحكام الجاهزة بين التصديق والتحقيق (2-2)
 

تبيّنا إذن أنّ المؤوّل لا يمكن أن يكون في حاضره منقطعا عن ماضيه، فالزمن الماضي هو الزمن القادح للحاضر وكلّما اتّخذت الذّات من الماضي متّكأً يكون ذلك أفيد في إنتاج المعارف، فنلفي الشعراء يستحضرون الذكريات الماضية لأنّها تبني كيانا ولا يقتصرون على استحضار الذكريات الخاصة. فتنتقل المرجعيّة من فرديّة إلى جماعيّة، ونلمس ذلك في قصيدة البحتري «الذئب»

سَلامٌ عَلَيْكُمْ، لا وَفَاءٌ وَلاَ عَهْدُ،
أما لَكُمُ من هَجرِ أحبابكُمْ بُدُّ
أأحبَابَنا قَدْ أنجَزَ البَينُ وَعْدَهُ
وَشيكاً، وَلمْ يُنْجَزْ لنَا منكُمُ وَعْدُ
أأطلالَ دارِ العَامرِيّةِ باللّوَى،
سَقَتْ رَبعَكِ الأنوَاءُ، ما فعلَتْ هندُ؟
أدَارَ اللّوَى بَينَ الصريمَةِ والحمَى،
أمَا للهّوَى، إلاّ رَسيسُ الجَوَى قَصْدُ
بنَفْسِيَ مَنْ عَذّبْتُ نَفسِي بحُبّهِ،
وإنْ لمْ يكُنْ منهُ وِصَالٌ، وَلاَ وِدّ
حَبيبٌ مَنِ الأحبابِ شطّتْ بهِ النّوَى،
وأيُّ حَبيبٍ ما أتَى دونَهُ البُعْدُ
إذا جُزْتَ صَحْرَاءَ الغُوَيْرِ مُغَرِّباً،
وَجَازَتْكَ بَطْحَاءُ السّوَاجيرِ يا سَعْدُ
فقُلْ لبَني الضّحّاكِ: مَهْلاً، فإنّني
أنا الأُفْعُوَانُ الصِّلُّ والضّيغمُ الوَرْدُ
بَني واصلٍ مَهْلاً، فإنّ ابنَ أُختكم
لَهُ عَزَماتٌ هَزْلُ آرَائهَا جِدّ
متى هِجْتُمُوهُ لا تَهيجوا سوَى الرّدى،
وإنْ كانَ خِرْقاً ما يُحَلُّ لَهُ عَقْدُ
مَهيباً كَنَصْلِ السّيفِ لوْ قذفت بهِ
ذُرَى أجإٍ ظَلّتْ وأعلامُه وَهْدُ
يَوَدُّ رِجَالٌ أنّني كُنتُ بَعضَ مَنْ
طَوَتْهُ المنايا، لا أرُوحُ وَلا أغدُو
وَلَوْلا احتمَالي ثِقْلَ كُلّ مُلمّةٍ،
تَسُوءُ الأعادي، لم يَوَدّوا الذي وَدّوا
ذَرِيني وإيّاهُمْ، فحَسبي صَرَيمَتي
إذا الحَرْبُ لمْ يُقدَحْ لمُخْمِدِها زَنْدُ
وَلي صَاحبٌ عَضْبُ المَضَارِبِ صَارِمٌ،
طَوِيلُ النِجَادٍ، ما يُفَلُّ لَهُ حَدّ
وَبَاكِيَةٍ تَشْكُو الفرَاقَ بأدْمُعٍ
تُبَادِرَها سَحّاً، كَمَا انتَثَرَ العِقْدُ
رَشَادَكِ لا يُحْزِنْكِ بَينُ ابنِ همّةٍ
يَتُوقُ إلى العَلْيَاءِ لَيسَ لَهُ نِدّ
فَمَنْ كَانَ حُرّاً فَهْوَ للعَزْمِ والسُّرَى،
وَللّيلِ من أفعالِهِ، والكَرَى عَبدُ
وَلَيْلٍ، كأنّ الصّبحَ في أُخرَيَاتهِ،
حُشَاشَةُ نَصْلٍ، ضَمّ إفرِندَهُ غِمدُ
تَسَرْبَلْتُهُ والذّئْبُ وَسْنانُ هاجِعٌ،
بعَينِ ابنِ لَيلٍ، ما لهُ بالكَرَى عهدُ
أُثيرُ القَطا الكُدْرِيَّ عَنْ جَثَماتهِ،
وَتألَفُني فيهِ الثّعَالبُ، والرُّبْدُ
وأطْلَسَ مِلْءِ العَينِ يَحملُ زَوْرَهُ،
وأضْلاعُهُ منْ جَانبَيْهِ شَوًى نَهْدُ
لَهُ ذَنَبٌ مثلُ الرِّشَاءِ يَجُرّهُ،
وَمَتنٌ كَمَتنِ القَوْسِ أعوَجُ، مُنْأدّ
طَوَاهُ الطّوَى حَتّى استَمَرّ مَرِيرُهُ،
فَما فيهِ إلاّ العَظْمُ والرّوحُ والجِلْدُ
يُقَضْقِضُ عُصْلاً، في أسرّتها الرّدى،
كَقَضْقَضَةِ المَقْرُورِ، أرْعدَهُ البَرْدُ
سَمَا لي، وَبي منْ شدّةِ الجوعِ ما به،
ببَيداءَ لمْ تحسسْ بها عَيشَةٌ رَغْدُ
كلانا بها ذِئْبٌ يُحَدّثُ نَفْسَهُ
بصَاحبهِ، والجَدُّ يُتْعِسُهُ الجَدّ
عوَى ثمّ أقْعَى، وارتَجَزْتُ، فهِجْتُه،
فأقْبَلَ مثْلَ البَرْقِ يَتْبَعُهُ الرّعْد
فأوْجَرْتُهُ خَرْقَاءَ، تَحسبُ رِيشَها
على كوْكبٍ يَنقَضُّ واللّيلُ مُسوَدّ
فَما ازْدادَ إلاّ جُرْأةً وَصَرَامَةً،
وأيْقَنْتُ أنّ الأمْرَ منْهُ هوَ الجِدّ
فأتْبَعْتُهَا أُخرَى، فأضْلَلْتُ نَصْلَها
بحَيثُ يكونُ اللُّبُّ والرُّعبُ والحِقْدُ
فَخَرّ وَقَدْ أوْرَدْتُهُ مَنهَلَ الرّدَى
على ظَمَإٍ، لَوْ أنّهُ عَذُبَ الوِرْدُ
وَقُمْتُ فجَمّعتُ الحَصَى، فاشتَوَيتُه
عَلَيْهِ، وللرّمضَاءِ من تحته وَقْدُ
وَنلْتُ خَسيساً منهُ، ثمّ تَرَكْتُهُ،
وأقْلَعْتُ عَنهُ، وَهْوَ مُنْعَفِرٌ فَرْدُ
لَقَدْ حَكَمَتْ فينا اللّيالي بجَوْرِها،
وَحُكمُ بَناتِ الدّهرِ لَيسَ لَهُ قَصْدُ
أفي العَدلِ أنْ يَشقَى الكَرِيمُ بجَوْرِها،
ويأخُذَ منها صَفوَها القُعدُدُ الوَغْدُ
ذَرِينيَ من ضَرْبِ القِداحِ على السُّرَى،
فعَزْميَ لا يَثنيهِ نَحسٌ، ولا سَعدُ
سأحملُ نَفْسِي عندَ كلّ مُلمّةٍ
على مثلِ حدّ السّيفِ أخلَصَهُ الهندُ
ليَعْلَمَ مَنْ هَابَ السُّرى خَشيةَ الرّدى
بأنّ قَضَاءَ الله لَيسَ لَهُ رَد
فإنْ عشتُ مَحموداً فمثلي بغَى الغنى
ليَكسِبَ مالاً، أو يُنَثَّ لَهُ حَمْدُ
وإنْ مُتُّ لمْ أظفَرْ، فلَيسَ على امرِىءٍ
غَدا طالباً، إلاّ تَقَصّيهِ، والجُ
فقد شكّل لوحة استند فيها إلى ما كان يستند إليه الشّعراء الأوّلون في إثبات وجودهم وقوّتهم، وما تعارف عليه الجميع من قبيل (السّيف) ليبيّن قوّته وعتاده.
ويعتبر السّيف علامة على فتوّة صاحبه وقوّته. السّيف وحامل السّيف هو فتى له من المكارم ما يجعله متأهّبا لأيّ طارئ خاصّة وأنّه في بيداء موحشة وفي ليل دامس. ويبدو أنّ الشّاعر وهو يصف شدّة جوع الذّئب يشير الى شدّة ضراوته، وهو ما يوهم بمآل للشّاعر سحيق.
في هذه المغامرة الحربيّة، إعادة انتاج للصّورة النّمطيّة التي بها يعرف الفتى الجاهلي الّذي ينزل الى ساحة الوغى لمحاربة العدوّ. فالبحتري لا يخشى هذا الذّئب، ويمشق سيفه ليقضي على خصمه (الحيوان) والذي صوّره في صورة فاتكة، وهو ما يجعل القائم بالتّأويل يستحضر صورة عنترة، فالبحتري يثق بنفسه في ساحة الوغى رغم ما يتهدّده من خطر، لكن المواجهة هنا لم تكن متكافئة إذ لم يكن طرفا الحرب إنسانين بل إنسان وحيوان، فهي حرب من أجل البقاء والحياة. 
ولئن أجلى الشّاعر صورة للذّات ممزوجة بالفخر والعتاد والقوّة من خلال القضاء على الخصم في ليل حالك وفي صحراء مقفرة، فإنّه يشير إلى المعاناة التي يحيياها، وأنّه سيظلّ يواجه في سبيل أن يموت ميتة الكرماء والشّرفاء، ولعلّ هذا المعنى يذكّرنا بظاهرة التّوسيد، وهي ظاهرة اجتماعيّة معروفة في الثّقافة الجاهليّة، وهي موت الإنسان حيث يتمنّى، وقد عٌرِفَ على الفتى الجاهليّ أنّه يتمنّى الموت في ساحة الحرب، فمن المتواضع عليه أنّ الفتى الجاهليّ ليس من طبعه التّسلّط إنّما أمره إذا تأبّط السّلاح أن يكون متأهّبا للدّفاع عن نفسه، وقيمة البحتري لا تبرز في صورته في الصّحراء يقاتل الذّئب بل تبرز في الصّورة التي يجب عليها أن يكون الإنسان القويّ من استعداد دائم لخوض الحرب ولمواجهة أيّ طارئ . ولعلّ الصّحراء والسّيف كانا وسيلتين مكمِّلَتين لبناء شخصيّة البحتري ولا شكّ في أنّ الارتداد إلى التّجربة التّاريخيّة في التّأويل يجعل الذّات تبني التّقدير التّأويلي على الماقبليّات الذّاتيّة فكان التّأويل هو توسّل لآليّة الشّكّ وإعادة صياغة لأشياء الكون وربط لها بحيويّة الفكر، وحديثنا عن السّابق ليس يعني ما كان يَعْتَوِرُ من طرائق عيش إنّما هو يعني دعما للملكات بواسطة المعارف الجاهزة الّتي لا تكون ثابتة ومكتملة، بل هي دائمة الخضوع للشكّ والانتقاء والتّمحيص، إنّها تعنى «إعادة بناء الماضي بعيدا عن كلّ دعاوى اليقينيّة أو القبض على هذا الماضي بموضوعيّة مزعومة متحيّلة»(1)
ولئن استحضرنا بعض المعارف السّابقة عن السّيف وعن الكرم وعن صورة الفتى الجاهليّ، فإنّ الذّاكرة اقتضت ذلك، وكذلك بناء المعرفة اللاّحقة لن يتمّ إلاّ من خلال استحضار السّابق غير أنّ الذّات يجب أن تكون على وعي بأنّ هذه المعارف الماقبليّة ليست جاهزة أو صالحة لمقاربة كلّ النصّوص لأنّها ثابتة، أمّا النصّوص فهي تتحوّل بحيويّة ذهن القائم بتأويلها، فهو لن يرضى العودة إلى الوراء من أجل الاستنساخ والتّكرار، إنّما يعتمد على الإدراك والشكّ. وبما أنّ التّأويل هو عمليّة ذاتيّة، فإنّ الملكات البدائيّة في حاجة إلى تنمية دائمة لأنّها تتقصّى باستمرار ماهيّة الحقائق الكونيّة التي تتطلّب الاستكمال دائما، لقد تبيّن أنّ الشكّ طريق أمكن فيه للمعاني الموجودة أن تتفاعل لتنتج معان جديدة ترث بعض المعنى من المعاني الأصليّة، ولكن يكون لها معنى جديد ناشئ خاصّ بها، وتلك هي مسألة أصل المعنى كيف يمكن للمعاني الموجودة أن تتفاعل لإنتاج معان سلبيّة ليست مجرّد نسخ من المعاني الأصول.(2)
وليس يخفى