في الصميم

بقلم
نجم الدّين غربال
نماذج نحتاجها للحيلُولة دُون وُقوع الفقر
 يتنزّل مفهوم الإنسان في التّصوّر الإسلامي ضمن رؤية استخلافيّة في الأرض مضمونها أن يكون مستأمنا على خيراتها وحاملا لأمانة تعميرها وعاملا للصّالح فيها، ليكون شاهدا على أحقيّته بالتّكريم الإلهي على عدوه الأزلي ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً﴾(الاسراء: 62) وتفضيله على كثير من خلقه﴿وَلَقَد كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَهُم عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾(الاسراء: 70) وشاهدا على قُدرته على كسب معركة التّحرّر من أسر عدُوه المُقَدَّرْ والّذي اتّخذ على نفسه أمام اللّه الْمُقَدِّرْ، عهدا بقوله ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾(الأعراف: 16)  .
وللحفاظ على ذلك التّكريم يخوض الإنسان معركة التّمكين في الأرض، تمكينا يهدف جوهريّا إلى تغيير موازين القُوى لصالح المُستضعفين ضحايا المُمَكَّنين وذلك حين يُخَلُّ، نتيجة طُغْيانِ الجهة المُمَكَّنة. ولعلّ خوض تلك المعركة هي الضّامن الأساسي للحيلولة دون وقوع الأغلبيّة المُستضعفة في الفقر والّذي يُنظر اليه في التّصور الإسلامي على أنّه وعد الشّيطان للإنسان، من خلال ما يأمر به من فحشاء ﴿الشّيْطَانُ يَعِدُكُم الْفَقْر ويَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاء واللّه يَعِدُكُم مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(البقرة: 268).
والفحشاء هو أن يقع الإنسان في تجاوز قدر الأشياء فيما يُكره(1)، أي أن يسلك، على سبيل المثال لا الحصر، على مستوى الإنفاق سلوك الإسراف أو التّبذير أو التّقتير أوالاكتناز وما لذلك من إهدار للموارد وحيلولة دون تلبية احتياجات النّاس الأساسيّة كالغذاء والصّحة والتّعليم، وكذلك سلوكه على مستوى تحصيل الموارد على سبيل المثال لا الحصر، أكل أموال النّاس بالباطل، وما لذلك من ضياع مُستحقاتهم وتداعيات ذلك على مستوى حياتهم ومعيشتهم.
وواقعا يتجلّى ذلك ابتداء من فُحشِ الاستعلاء، استعلاء قِلّة من النّاس في الأرض على أغلبيّتهم من خلال ما تضعه من استراتيجيّات وتتبعها من خطط وبرامج، يتمّ تحقيق أهدافها من خلال سياسات دُوليّة ظالمة ومُفرِزة للفقر، مُرُورًا بالإفساد في الأرْض وتداعيّاته السّلبيّة على حَجْم تراكم رأس المال الضّرُورِي للرّفَاه، وصولا الى منع الحُقُوق عن أهلها عبر إشاعة سُلُوك البُخلِ، الّذي يُعتبر فُحْشا والّذي هو عند العرب أقبح خصال المرء(2) وتداعياته الخطيرة على النّشاط الاقتصادي ووضعيّة فئات اجتماعيّة عريضة.
ويحصل التّمكين حين يمتلك الفرد أو المجموعة سُلطة الفعل الاقتصادي والإيواء الاجتماعي بما يجعل لكليهما مكانة راسخة في السّوق والمجتمع معا، وما يعنيه من قدرة على وضع استراتيجيّة لهذا الفعل ووعي بما يتطلّب الإنجاز من إمكانيّات وخبرة ومراحل ليمرّ الرّاغب في التّمكين منه كمسار الى أن يعيشه حالة يُحافظ على ديمومتها(3).
وأمام النّتائج الّتي توصلنا إليها في بحثنا والّتي عرضناها بالتّفصيل سابقا والمُتمثلة في النّقاط التّالية:
- الفشل الذّريع لنماذج التّنمية المُعتمدة والمُهيمنة على المستوى الدّولي في الحدّ من الفقر ومسؤوليتها عن اتساع دائرته، من خلال ما تضعه فِئة قليلة مُتمكِنَة من استراتيجيّات وما ترسمه من سياسات،خاصّة الهيكليّة منها، التي تريد من خلالها ضمان استمراريّة تَمَكُّنِهَا عبر ديمومة مصالحها وتفوّقها، وذلك من خلال تعزيز النّظام العالمي القائم والعلاقات السّائدة غير المتوازنة، سياسات كان نتيجتها استضعاف فئات عريضة من المجتمعات البشريّة وانتشار الفقر لديهم.
-  بقاء اختلال ميزان الإنسان عند كلّ النّماذج الّتي أفرزتها المقاربة المادّية النّفعيّة الفئويّة المُهيمنة كما شرحنا سابقا(4)، ممّا أفرز اختلالا في موازين القوى في الأسواق ما فتِئ يتعزّز لصالح الفئات النّافذة والمتمكّنة، ويعكسه طُغيَان سافِر على مستوى موازين القوى وعلى مستوى العلاقات الدّوليّة، مِمّا فاقم من ظاهرة الفقر.
أمام تلك النّتائج، فإنّ تغيير الُمقاربة المُهيمنة وتحرير مصير الأغلبيّة السّاحقة للبشريّة من قبضتها، يُصبح ضرورة واقعيّة ومطلبا مشروعا يستند الى هَدي كِتاب اللّه للنَّاسِ جميعًا، الدّاعي الى عدم الطُّغيان في المِيزَان ﴿والسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْا فِي المِيزَان﴾(الرَّحمان: 7-8) وإقامة الوزن بالقسط وعدم خُسران الميزان ﴿وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَان﴾(الرَّحمان: 9) 
ونظرا لتلك الضّرورة لتغيير المُقاربة المُهيمنة ومشروعيّة ذلك، عرضنا في المقال السّابق (5) أهمّ ملامح المُقاربة البديلة التي تحتاجها البشريّة لمعالجة الفقر كإطار لسياسات هيكليّة تغييريّة، ونعرض في هذا المقال نماذج من التّمكين مُستوحاة من آيات القرآن الكريم لعلّها تُساعد الأفراد والدّول والبشريّة جمعاء على معرفة سبيل عدم الوقوع في الفقر مُتعدّد الأبعاد، حفاظا على الكرامة البشريّة وتفضيلا لأفرادها.
I- أنموذج سببي لمنع وقوع الفساد (تجربة ذي القرنين عليه السّلام ) (6)
من نافلة القول  أنّ الفساد من مُولِّدات الفقر وأينما ظهر حَدَّ من تراكم رأس المال وجُعِلَ دُولَةً بين «الأغنياء من النّاس» مِمَّا يكبح النّمو الاقتصادي خاصّة اذا اعتمدنا نموذج سُلّو (MODELE SOLOW)ا(7) الّذي فسّر النّمو الاقتصادي للدّول بحجم تراكم رأس المال لديها وكمِّيَّة العمل، وبيّن العلاقة الايجابيّة بين حجم رأس المال والنّمو الاقتصادي، ممّا يؤكّد أنّه كلّما حلّ الفساد تراجع حجم رأس المال المُخصّص لتحقيق النّمو الاقتصادي وبالتّالي يتراجع النّشاط الاقتصادي وتزداد تبعا لذلك البطالة ومن ثمّة تتسع دائرة الفقر.
ولمنع وقوع الخراب وحلول الفقر بكلّ مجموعة بشريّة، لابدّ من إقامة سدّ بين أفراد تلك المجموعة وبين المُفسِدِين، وأمام فشل النّماذج سابقة الذّكر(8) ضمن المقاربة المهيمنة للحيلولة دون انتشار الفقر بل المتّهمة بتوفير أسباب ظهور الفقر، وبتدبّر آيات القرآن الكريم يلمع بريقُ ما يُمكن عبره الحيلولة دون الفساد، فما مميزات ذلك؟ وما النّهج المتّبع ضمنه لتحقيق أهدافه؟ 
ذُكِرَت في الكتاب الحكيم  شخصيّة رجل يُدعى ذو القرنين بوصفه مُمَكَّنًا من اللّه سبحانه ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾(الكهف: 84)  وقد عرّفت الآية ذاتها التّمكين بإتيان الأسباب واتباعها. 
وفي طريق سيره، مرّ «ذو القرنين» بقرية استنجد أهلُهَا به من فساد «يأجوج ومأجوج» الوشيك بالقول ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾(الكهف: 94)، حينها ردّ «ذو القرنين» بالقول:﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ...﴾(الكهف: 95) كاشفا عن عدم اعتماده على المقاربة المادّية الماليّة، لمنع الخطر الدّاهم على أهل القرية وحمايتهم من الفقر، باعتباره أحد أهم تبعات الفساد واعتماده على مُقاربة سببيّة تمكينيّة للحيلولة دون وقوع الفساد كسبب للفقر بالقول ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾ وكاشفا في الوقت ذاته عن معنى ما ذكرته الآية السّابقة حين وصفت أهل القرية بالقول ﴿... وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا﴾(الكهف: 93) ممّا يؤكّد أن اعتماد المقاربة المالية للحيلولة دون سبب الفقر نابع من عدم فقه القول وأنّ المقاربة التّمكينيّة مُتعدّدة الأبعاد هي المعبرة عن فقه القول والقادرة على عدم حصول سبب الفقر، مِمّا يُؤكِّدُ على أنّ التّمكين يهدف الى الحيلولة دون الفساد وبالتّالي الحيلولة دون إحلال الفقر بين أهل القرية، ولكن ما هي المقاربة السّببيّة التّمكينيّة؟
بتلاوة الآيات التّالية ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا* قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾(سورة الكهف95-98) يتّضح لنا بجلاء معنى المقاربة السّببيّة التّمكينيّة، إذ أنّها مُقاربة ترى أنّ الحيلولة دون الفقر تمرّ حتما عبر الحيلولة دون أسبابه والمتمثلة هنا بالفساد، وأنّها مُقاربة عطاء مُتشارك ومُتبادِل وليست مُقاربة تأجير مالي، بل مُقاربة تعتمد على الذّات والثّقة في القدرات واعتماد الهندسة في عمليّة الإنجاز وكذلك على التّعاون  والتّشاركيّة في جميع المراحل، بين قائد عمليّة الإنجاز المُتعفّف والرّاغبين فيه المُشتركين في ذات العمليّة، كل ذلك مع إرجاع فضل التّمكين للّه المُمَكّن صاحب الوعد الصّادق بالتّمكين، وأنّ التّمكين ليس الى الأبد ممّا يؤكّد دوريّة الحضارات، وكما ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾(سورة النجم 39)  فإنّ ليس للجماعات البشريّة الاّ ما سعت في كلّ عصر وكلّ مكان.
وممّا سبق يُمكن تعداد عناوين التّمكين الرّئيسيّة الخمسة وهي عمق الإدراك والإرادة وامتلاك القدرة الذّاتية والعمليّة التّصورّية والمنهجيّة واعتماد التّعاون والتّشاركيّة والتّفاعل الإيجابي مع كلّ متطلّبات الإنجاز. فعمق الإدراك يعكسه فِقه القول بإدراك نقاط القوّة في المجال المكاني الذي تتواجد فيه المجموعة البشريّة الّتي تُريد التّصدّي لأسباب الفقر كوجود أهل القرية التي مرّ بها «ذو القرنين» بين سدّين، وكذلك بعدم الاكتفاء بالوعي بسبب الفقر وعدم تبنّي مقاربة ماليّة لا تعتمد على الذّات في الحيلولة دون وقوع سبب ظهور الفقر والخراب.
أمّا امتلاك القدرات الذهنيّة والمعرفيّة فهي لعمق فهم الواقع بكلّ مكوناته بما فيها الجغرافيّة واعتماد منهجيّة واضحة ذات مراحل دقيقة في الإنجاز تجعل الرّاغبين في الحيلولة دون وقوع سبب الفقر شركاء ومتعاونين وليسوا مؤجّرين لمن سيقوم بالمهمّة بالوكالة عنهم..
ولإنجاز المطلوب لا بدّ من الإرادة وتوفّر القدرة على قيادة عمليّة الإنجاز في جميع مراحلها تحقيقا للهدف المُحدّد منذ البداية، ولعلّ الأهم في القيادة اتباع منهج تشاركي تعاوني تدرّجي طيلة مراحل الإنجاز يتمّ استثمار الإطار الموضوعي وحسن التّعاطي مع قدرات المجموعة البشريّة الّتي ترغب في تحقيق الهدف الّذي رسمته لنفسِهَا.
II- أنموذج إستشرافي لمنع وقوع مجاعة (تجربة يوسف عليه السّلام ) (10)
ذُكِرَ في الكتاب الحكيم كيفيّة تمكين يوسف عليه السّلام بالقول: ﴿وَقَالَ الَّذي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامرأته أَكْرِمِي مَثْوَاه عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ أَنْ نَتَّخِذهُ وَلَدًا وكذلك مَكّنّا ليُوسُفَ فِي الأرض ولِنُعَلِّمَهُ مِنْ تأويل الأَحاديث والله غَالِبٌ عَلَى أَمْرهِ ولَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُون * ولَمَّا بَلَغَ أَشُدهُ ءَاتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحُسِنٍينَ﴾(يوسف: 21-22) 
وفسّر فخر الدّين الرّازي قوله تعالى ﴿وكَذَلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ في الأرْضِ﴾بـ «أيْ كَما أنْعَمْنا عَلَيْهِ بِالسَّلامَةِ مِنَ الجُبِّ مَكَّنّاهُ بِأنْ عَطَّفْنا عَلَيْهِ قَلْبَ العَزِيزِ، حَتّى تَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلى أنْ صارَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الأمْرِ والنَّهْيِ في أرْضِ مِصْر»(11)ممّا يجعل التّمكّن من قلوب المُتمكّنين في بلد ما مُمهّد لعمليّة التّمكين ذاتها.
وأضاف فخرالدّين الرّازي: «واعْلَمْ أنَّ الكَمالاتِ الحَقِيقِيَّةَ لَيْسَتْ إلّا القُدْرَةَ والعِلْمَ وأنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا حاوَلَ إعْلاءَ شَأْنِ يُوسُفَ ذَكَرهُ بِهَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ، أمّا تَكْمِيلُهُ في صِفَةِ القُدْرَةِ والمُكْنَةِ فَإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿مَكَّنّا لِيُوسُفَ في الأرْضِ﴾ وأمّا تَكْمِيلُهُ في صِفَةِ العِلْمِ، فَإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ﴾».  وهذا الرّأي يُبرز مُستلزمين رئيسيّين للتّمكين وهُما القدرة والعلم.
 ومن جانبه ذكر ابن عاشور في تفسيره «التّحرير والتنوير»(12) أنّ «التّمكين في الأرض هنا مراد به ابتداؤه وتقدير أوّل أجزائه، فيوسف -عليه السّلام - بحلوله محلّ العناية من عزيز مصر قد خُطّ له مستقبل تمكينه في الأرض بالوجه الأتمّ الذي أشير له بقوله تعالى بعد:﴿وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ...﴾(يوسف: 56)ممّا يُشير الى أنّ التّمكين يتطلّبُ مراحل أوّلها مرحلة تمهيديّة تستوجب بيئة تمكينيّة مسنودة من قبول نفسي للمُمَكّن من طرف صاحب القدرة، تليها مرحلة الاختبار على مستوى العلاقات ومدى تمكّن المعني من السّيطرة على نفسه ونزواتها وشهواتها، وبالتّالي تمكّنه من سلوكه وتصرّفاته، ولعلّ ما ذكرته الآية القرآنيّة التّالية أحسن دليل ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَءَا بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاْء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَأ الْمُخْلَصِين﴾(يوسف: 24) 
فَتَمَكُّنِ الإنسان من قلوب من يحتضنوه أوّلا، ومن القُدرة والعلم ثانيا، لا يكفيان لتمكينه إقتصاديّا، بل يتطلّب التمكّنَّ من النفس والّذي يشكِّلُ مع العنصرين السّابقين مُمهّدات التّمكين. فالتّمكين إذا بيد من يُريده، وإن تطلّب ذلك بيئة تمهيديّة فمن يُرِيدُ التّمكين هو من عليه التّمكن من قلوب من يحتضنوه، وهو من عليه أن يتمكّن من القدرة والعلم ومن عليه أيضا أن يتمكّن من نفسه، فتغيير واقع الإنسان لن يكون الّا بتغيير ما بنفسه، ولا يقدر أحد أن يغيّر ما بنفسه ما لم يتمكّن منها، ولن يتمكّن منها ما لم يتمكّن من العلم والقدرة، فتلك مُمَهّدات للتّمكين في جميع المجالات، وحين يتمكّن الإنسان من القُدرة والعلم، يقدر أن يتمكّن في نفوس الآخرين وخاصّة المُتمَكّنين في الأرض والآية التّالية تؤكّد هذا المعنى بالقول ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾(يوسف: 54) 
من جهة أخرى، بإمكان المُمَكَّن المُدرك لقدراته وعلمه، العارف بنفسه وكيفيّة التّحكّم فيها أن يضع نفسه في الموقع الصّائب وكذلك كان يُوسف عليه السّلام، حيث مكّنه حِفظه وعِلمه من القول ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ مَكّنّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾(يوسف: 55-56)، فرحمة الممكِّن وعدم إضاعته لأجر المُحسنين وإحسان المُتَرَشَّح للتّمكين وراء التّمكين، وكذلك كان تمكين يوسف عليه السّلام.
 ما عرضناه من نماذج التّمكين المُستوحاة من آيات القرآن الكريم يُؤكّدُ أنّ منع الوقوع بين مخالب الفقر يتطلّبُ الحيلولة دون الفساد وذلك عبر حُسن التّقدير النّابع من عُمق المعرفة العلميّة والإدراك للمنهج التّعاوني التّشاركي السّليم لإنجاز الأهداف وحُسن استثمار المُتاح، كما يتطلّب تَمَكُّنِ الإنسان من البيئة التي يتواجد فيها أوّلا ومن القُدرة والعلم ثانيا، وتمكّنُّهُ من نفسه ثالثا، وعارفا بقدراته ومهاراته للحفاظ على تمكّنه وتمكينه، والّتي تُشكِّلُ مع سابقاتها مُجتمعة قاموسا للتّمكين، وكل ذلك يُساعد الأفراد والدّول والبشريّة ككلّ على معرفة سبيل عدم الوقوع في الفقر مُتعدّد الأبعاد حفاظا على الكرامة البشريّة وتفضيلا لأفرادها. 
هذا لمنع وقوع الفقر، ولكن ما العمل وقد أصبح الفقر واقعا معيشا؟ فكيف يُمكن الحدّ منه في هذه الحالة؟وما هو الأنموذج المُمكن بلورته لتحقيق ذلك؟ هذا ما سنعرضه في مقال قادم إن شاء اللّه.
الهوامش
(1)   عند علماء اللغة على غرار الكفوري «الفاحش كل شيء تجاوز قدره فهو فاحش وكل امر لا يكون مُوافقا للحق فهو فُحش» وعند ابن فارس « الفحش على الاتساع هو البخل وهو اقبح خصال المرء» وعند الجوهري «الفاحش هو البخيل جدا»  https://alim.ws
(2) كتاب مقاييس اللغة الجزء 4 الصفحة 478 https://shamela.ws/book/21710/1962
(3)  راجع مقالنا بمجلة الإصلاح الالكترونية عدد 130 من ص 42 الى ص 46 الرابط www.islah.mag
(4)  راجع مقالنا بمجلة الإصلاح الالكترونية عدد 200 من ص 30 الى ص 36 الرابط www.islah.mag
(5) راجع مقالنا بمجلة الإصلاح الالكترونية عدد 201 من ص 40 الى ص 44 الرابط www.islah.mag
(6) من الآية 83 الى الآية 98 من سورة الكهف من القرآن الكريم كتاب الله المنزل على نبيه محمد بن عبد الله عليه السلام للناس أجمعين.
(7) نموذج تمّ بلورته سنة 1956 من طرف «روبرت سُلّو» الذي ولد سنة 1924 و«تريفر سوان» الذي ولد سنة 1918
Robert M Solow:A Contribution to the theory of Economic Growth », Quarterly Journal of Economics,vol. 70, n°1 ,1956 ,P.65- 94
 Trevor Swan : Eonomic Growth and Capital Accumulation », Economic Record, vol .32, n°2, nov 1956, p 334 -361
(8) راجع مقالنا بمجلة الإصلاح الالكترونية عدد 200 من ص 30 الى ص 36 الرابط www.islah.mag
 (9) الْخَرْجُ: الْإِتَاوَةُ ; لِأَنَّهُ مَالٌ يُخْرِجُهُ الْمُعْطِي حسب ابن فارس في كتابه «مقاييس اللغة» الجزء 2 ص 175
(10) سورة يوسف من القرآن الكريم كتاب الله المنزل على نبيه محمد بن عبد الله عليه السلام للناس أجمعين.
(11)  التفسير الكبير للفخر الرازي (606 ه)   https://tafsir.app/alrazi/12/ 21   
 (12)  إبن عاشور، التحرير والتنوير، (5/662)