فقه المعاملات

بقلم
الهادي بريك
من فقه المعاملات المالية في الإسلام الحلقة 2 : من قواعد المعاملات المالية وقواعد الإستنباط فيها
 قبل الغوص في فقه المعاملات الماليّة لا مناص من عرض أمرين : أوّلهما بعض قواعد المعاملات الماليّة نفسها إذ هي تختلف عن قواعد المعاملات الإعتقاديّة والتعبّدية بالمعنى الخاصّ وعن بعض قواعد المعاملات الأسريّة العائليّة. ولا شكّ أنّ إختلاف المساحات تنوّعا بعضها عن بعض تحت السّقف التّشريعيّ نفسه مؤذن بالضّرورة بإختلاف المقاييس والمعايير ولو جزئيّا إختلاف تكامل وإئتلاف وليس إختلاف تضادّ وتنافر. وثاني الأمرين هو عرض بعض قواعد الاستنباط في مجال تلك المعاملات الماليّة ذاتها وهو ذاته مختلف جزئيا عن قواعد الإستنباط في المجالات الأخرى. هذا التّمييز بين شتّى مساحات الشّريعة ذاتها وتحت سقفها يصنع الفقه، ويميّز بين فقيه جدير بالإستنباط وبين دخيل لا يحسن عدا فتح أبواب التّحريم أو أبواب الإباحة على مصراعيها.
من قواعد المعاملات الماليّة
الأصل في المعاملات الماليّة هو الإباحة إلاّ لدليل صحيح صريح
هذا الأصل محلّ توافق بين النّاس. وهو كذلك لأسباب منها أنّ إستقراء الشّريعة قرآنا وسنّة يخبرك أنّ المعاملات الماليّة تقع في المساحة التي تقلّ فيها النّصوص وتكثر فيها المقاصد. وهو دليل توسعة عند أهل العلم. ومن تلك الأسباب كذلك أنّ المعاملات الماليّة مجالها الرّحب هو السّوق بمختلف وجوهه. وهو سوق مفتوح لكلّ خبيث وطيّب، بل لكلّ كافر ومسلم. وهو سوق تغشاه البضاعة والخدمة. وقد يغيب العميل بالكلّية بمثلما هو في واقعنا المعاصر. أي في المعاملات الإلكترونيّة والتّبادلات عن بعد. ومن ذا فإنّ المعوّل عليه هنا هو العقود وشروطها. وليس أصحابها في العادة. ولو إمتلأ هذا الحقل بنصوص آمرة وآخرى ناهية لتعوّقت حركة المال وتعوّقت الحياة. ومن الأسباب كذلك أنّ وجود ما أسماه بعضهم فراغا تشريعيّا ـ أو منطقة فراغ ـ في هذا الحقل لا مناص منه لأجل دفع حركة عمارة الأرض إلى الأمام. ومن ذات حرصت الشّريعة على المقاصد هنا لا على التّراتيب التّضييقيّة. وعندما إعتملت كلّ تلك الأسباب وغيرها، فإنّ عنوان الإباحة العامّة هو الأصل. إلاّ ما جاء في الشّريعة صحيحا صريحا من نصّ أو مقصد أو مآل خشيه أهل الذّكر هنا فهو مستثنى طبعا من الإباحة العامّة. ولكنّ ورود مثل هذا قليل.
الطّبيعة التّعليليّة الإستصلاحيّة لا التّعبّدية
هذا الأصل مستقرأ بيسر ممّن ينظر في نصوص الشّريعة قرآنا وسنّة نظرة موضوعيّة لا موضعيّة. ومقاصديّة لا وسائليّة. وجامعة لا مجتزأة مبتسرة. معلوم أنّ الشّريعة مساحتان كبيرتان تعتلجان تحت سقف الهدي الإسلاميّ إعتلاج تكامل فيكون تمييز بينها لا تخاصم ونفور. مساحة الإعتقاديّات والتّعبّديّات هي مساحة علّتها الإيمان بالغيب والطّاعة بالغيب. سواء فقه المسلم المقصد أو العلّة أم لم يفقه. ولكنّه لو فقه الحكمة لكان خيرا له. ومساحة المعاملات بدء من الأسرة إلى السّياسة الخارجيّة، وهي معلّلة مقصّدة في كلّ تفاصيلها وكليّاتها وفي صورتها العامّة كذلك. وهي المساحة التي قيّدها العلماء بهذه القاعدة الأصوليّة الذّهبيّة (يدور الحكم مع علّته وجودا وعدما). وكان ذلك كذلك بسبب أنّ المعاملات الماليّة معقولة مفهومة لا تندّ عن فهم كلّ ذي فهم وهي معاملة مادّية ماليّة رأسمالها البضاعة والخدمة بغضّ النّظر عن الحريف والعميل والشّريك. إلاّ إستثناءات قليلة محدودة لا تشغب على القاعدة العظمى. ومن القواعد الحاكمة هنا كذلك : الإتّباع في الدّين (لأنّه يقوم على الطّاعة حتّى فيما لا يفقه المرء مصلحته) والإبتداع في الدّنيا إختراعا جديدا وإبتكارا.
العبرة بمدار العدل والجور وليس سواه
قضيّة حقول الشّريعة المتنوّعة منتظمة تحت سقفها الأوحد ومختلف المقاييس والمعايير التي تحكم كلّ حقل من تلك الحقول هو موضوع أصوليّ مهمّ لم يجد حظّه المناسب في حركة التّدوين والتّأليف وفيما يقدّم للطّلبة. ومن ذا لا تعدم أن تجد من الذين يشار إليهم ببنان التّخصّص اليوم وهم يخلطون بين الحقول أو بين معاييرها. هي بإختصار شديد : حقل الإعتقاديّات ومقياسه الأوحد هو الهدى والضّلالة، وحقل التّعبّديّات ومقياسه الأوحد هو الطّاعة أو العصيان، وحقل الحاجات اليوميّة من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومرافق ومناكح ومراكب وغيرها ومعياره الأوحد هو الحلال والحرام، وحقل المعاملات الماليّة ومعياره الأوحد هو العدل والجور، وحقل العمران والإجتماع أو السّياسة والدّولة بالتّعبير المعاصر ومقياسه الأوحد هو المصلحة والمفسدة. ويتأتّى الفساد العلميّ بسبب إستخدام مقياس حقل لمعالجة حقل آخر، كمن يطلب دليلا مادّيا على اللّه سبحانه. لأنّ الإعتقاديّات تنتمي إلى حقل معنويّ لا مادّي. وكمن يحرّم معاملة ماليّة مع عدوّ محارب لجلب مصلحة أو درء مفسدة قدّرها أهلها. وأمثلة أخرى كثيرة جماعها هو أنّه على طلبة العلم قبل غيرهم فقه حقول الشّريعة وهي متنوّعة متميّزة، ولكنّها موحّدة تحت سقف واحد، وفقه معاييرها، فلا يعالج أيّ حقل إلاّ بمعياره هو، كما أنّ الطّبيب لا يعالج مريضه بأدوات فلاّح مثلا أو حدّاد. حقل المعاملات الماليّة مقياسه الأوحد هو العدل والجور، وليس الحلال والحرام مثلا. من ذلك أنّه ﷺ إستأجر مشركا ليقود أخطر رحلة ولدت بها الأمّة وهي رحلة الهجرة، وهو يعلم أنّه مشرك قد يشرب بذلك المال خمرا أو يرابي به. وهو نفسه الذي إقترض شعيرا من يهوديّ، وهو يعلم أنّه ربّما إكتسب ماله ذلك من ربا. كلّما كانت المعاملة عادلة غير جائرة في نظر المسلم أو الجماعة فهي معاملة إسلاميّة لأنّها معاملة ماليّة. وأن يكون موضوع المقايضة طبعا نفسه مباحا، ليس خمرا مثلا. وكذلك ردّ ﷺ ودائع المشركين في مكّة إلى أصحابها وهو يعلم أنّهم مشركون ومحاربون، وفعل ذلك وهم بصدد تهجيره من وطنه بغير حقّ. وهو يعلم كذلك أنّهم يستعينون بتلك الودائع عليه وعلى دعوته وأصحابه.
رعاية الحاجات والضّرورات وإنشاء الإستثناءات
معلوم أنّ المرء يلقى من العنت في الحياة كلّما خرج من خويصة شأنه الدّاخليّ بسبب معالجته لمسائل هو شريك فيها مجرّد شراكة وله فيها سهم واحد. بخلاف خويصة النّفس من مثل الإعتقاديّات وبعض التّعبّديّات وبعض الأسريّات. كلّما ضاقت مساحة المعالجة قلّت الحاجات. فإذا وجدت كان مقدورا على معالجتها، وكلّما توسّعت تلك المساحة توسّعت الحاجات ثمّ كانت ضرورات. ذلك هو شأن المعاملات المالية. ولذلك كانت التّوسعة فيها من الشّريعة لنفي الحرج ووضع العنت. بل إنّ هذه المساحة تقبل إنشاء إستثناءات من قواعد الشّريعة نفسها وذلك بقدر فتح ذرائع عمارة الأرض. وهو مقصد عظيم من مقاصد الشّريعة ونبذ الأسباب المعيقة في وجه المرء المطلوب منه فعل تلك العمارة. ولا معنى عند العقلاء أن يطلب منك أمر وفي الآن نفسه تقيّد سبل كثيرة في ذلك الأمر، أو يحال دونك ودونه. ولكن يظلّ السّبب الأكبر لهذه القاعدة أي رعاية الحاجات والضّرورات هو طبيعة الإشتراك في هذه المساحة التي لا يغشاها المسلم فحسب ولا حتّى الطّيب فحسب ولا حتّى المسالم فحسب. وجود كلّ أولئك يقتضى مساحة حرّة أو شبه حرّة تكون فيها الإستثناءات مقبولة. وخير مثال على ذلك هو أنّه ﷺ لمّا وفد إلى المدينة وجد أهلها الأصليّين على صيغة تجاريّة إسمها «بيع السّلم». وهو أن يبيع البائع سلعة لا يملكها حال بيعها، ولكنّ المبتاع يملك ثمنها فيسلّمه البائع على أن يسلّمه هذا بضاعته بعد أجل، أي عمليّة تجاريّة يجهز فيها الثّمن ويغيب المثمون. نهى ﷺ بادي الأمر عن ذلك، فلمّا علم أنّ النّاس يتعالجون بذلك حتّى أضحى ذلك بينهم عرفا معروفا أقرّ ﷺ (بيع السّلم) ولكنّه قيّده بما يحاصر الخلافات والنّزاعات التي قد تنشأ بين النّاس في إثر ذلك وقال: «من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم». أي أجرى إستثناء على القاعدة الأصليّة في كلّ عمليّة تبايع وهي : جاهزيّة الثمّن والمثمون معا، وحصول التّراضي دون ريب وإباحة موضوع التّبادل نفسه، فلا يكون خمرا مثلا. هذا العمل النّبويّ سيكون من بعد ذلك فيصلا ومركزا وهاديا يفتح اللّه به تبادلات كثيرة عند من يؤمن بفلسفة المعاملات الماليّة ويعي مقاصد الشّريعة في المال. أمّا عند المتشدّدين من الجهلة فإنّ هذا يكون منكورا أو سنّة خاصّة بأهل المدينة أو بعصر دون آخر وغير ذلك من التّمحّلات التي يقذف بها الدّخلاء على الفقه النّبويّ في النّاس فيحرّمون عليهم ما أحلّ اللّه لهم.
من قواعد الإستنباط
توسيع دائرة الصّناعة الفقهيّة
تقوم الصّناعة الفقهيّة على مراحل ثلاث معروفة غير منكورة وهي : مرحلة إستخراج النّص من مظانّه قرآنا وسنّة، ومرحلة الكشف عن علّته أو مقصده أو حكمته أو مصلحته (بحسب إختلاف التّعابير ذات المرجع الواحد تقريبا)، ومرحلة تنزيله في محالّه المناسبة. مراحل الصّناعة الثّلاث هذه خاصّة بمجال المعاملات سيّما في توسّعها ودقّتها. في حين أنّ حقل الإعتقادات والتّعبّديّات لا يحتاج إلى كلّ ذلك بسبب قربها من الشّأن الفرديّ الخاصّ، ومن ذا تكون محالّها في العادة متاحة. وكذلك بسبب أنّها لا تحتاج إلى تعليل، عدا علّة الإيمان بالغيب والطّاعة بالغيب. ولكنّ الأمر مختلف كثيرا عندما يتعلّق بحقل المعاملات ماليّة كانت أو سياسيّة. إذ لا مناص من الحرص كلّ الحرص على دقّة التصّور ودقّة التّنفيد في كلّ مرحلة بتأنّ ولبث وتريّث. ومن ذات سمّيت صناعة ككلّ صناعة. النصّ هنا في هذا الحقل قليل، وعندما يوجد يكون على صورة مقصد عامّ أو جزئيّ أو كليّ أو مبدإ أو قيمة. وقد يحمل ذلك الدّليل حكمته وقد لا يحملها. ومن ذا يتوجّب على الفقيه إستنباط الحكمة لنوطها به نوط كلّ متعلّق بمتعلّقه المناسب فلا ينخلع عنه. فإذا تأمّنت تانك الخطوتان إستخراجا وتهذيبا وتشذيبا، فإنّه عليه حسن البصر بالمحلّ المراد التنزّل عليه ليقع مراد اللّه سبحانه وفق ما يريد هو من عدل وقسط وخير ومعروف وبرّ.
حسن التّكييف ودقّة التّصوير وليس النّقل الببّغاويّ
كثير من معاملاتنا الماليّة تقوم اليوم على آلة القياس وآلات أخرى إستصلاحا وإستحسانا وغير ذلك. وهو ما ينتمي إلى الإجتهاد، سواء كان إنتقائيّا ممّا ورثناه وهو في الحقّ كثير. ولكن لا يعثر عليه عدا من يطيل النّظر في تراث الأسبقين بصبر لا يعرف كللا ولا مللا. أو كان إجتهادا إنشائيّا جديدا، وله كذلك محالّه عند الذين يجمعون بين الأصل والعصر معا في زوجيّة إسلاميّة قوامها التّكافل والتّكامل وليس التّنافي والتّنافر. ومن أولى خطوات ذلك الإجتهاد هو إحسان تكييف العمليّة الجديدة ودقّة تصويرها وإرجاعها إلى أصل في الشّريعة أو دليل من أدلّتها ولو كان جزئيا. إذ أنّ الصّناعة الفقهيّة تقوم على حشر المتماثلات والمتشابهات والمتجانسات بعضها مع بعض وعلى التّفريق بين المختلفات، وهو عمل عقليّ منطقيّ صارم. هذه الخطوة إمّا أن تكتنف بكلّ دقّة. مثل دقّة الجرّاح الذي يعالج شريانا موغلا في الدقّة في أحشاء شرايين أخرى لا تكاد تحصى. وإمّا فإنّ كلّ تعجّل أو هوى مؤذن بخطإ دون ريب. هنا لا مناص من الإحاطة بأمرين : الشّريعة أدلّة جزئيّة وكلّية وعامّة من جهة والواقع الماليّ بكلّ تعقيداته وتداخلاته وتغيّراته غير المسبوقة من جهة أخرى. ومن ذا فإنّ المجامع الفقهيّة التي تحترم نفسها لا تبتّ في أيّ عمليّة واقعيّة في أيّ حقل إلاّ من بعد دعوة أهل الخبرة في ذلك الحقل ليصوّروا لهم المسألة خير تصوير. أمّا النّقل هنا من إجتهادات الأقدمين نقلا ببّغاويا لا يراعي تغيّرا ولا مسافة زمنيّة ولا تبدّلا في المكان والحاجات والضّرورات ودون رعاية المقاصد والحكم من باب أولى وأحرى فهو عبث معبوث يضلّ به كثيرون ممّن حسبوا على العلم كثيرين من المقلّدين. ويشيع هذا في النّاس أنّه العلم الشّرعيّ ويخيّم الإنحطاط ويعربد التّقليد.
إعتماد الذّرائعية فتحا وسدّا معا
من أعظم قواعد الشّريعة أنّها تفتح ذرائع الخير وتسدّ ذرائع الشّر. وذلك بسبب أنّه لا يمكن تسمية كلّ ما هو مباح وكلّ ما هو محرّم. إنّما التّعويل على العقل البشريّ الذي يعلم مدارسة وبالخبرة أنّ ما أفضى إلى المحرّم فهو محرّم وأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب. سيما الخطاب القرآنيّ الذي جاء في الأعمّ الأغلب عامّا مطلقا ليحيط بكلّ زمان وبكلّ مكان وبكلّ حال وعرف. ومن ذا جاء مصرف المؤلّفة قلوبهم ذريعة إلى إسلامهم أو صرف شرّهم على الأقلّ. ومن ذلك أنّه ﷺ همّ بإعطاء قبيلة غطفان ـ وهي مشركة محاربة في حالة حرب مفتوحة ـ ثلث ميزانيّة الدّولة. هذا العمل عندما تنظر إليه مجرّدا من الذّرائعيّة هو عمل غير مقبول. ولكنّ الذّرائعيّة هي التي جعلته سنّة نبويّة صحيحة وجعلت منه عملا مشروعا، بل واجبا لصرم الحلف العسكريّ العربيّ الذي يحاصر المدينة بأزيد من عشرة آلاف مقاتل. غلب على تراثنا سدّ الذّرائع وهو مفهوم ـ ولكنّه لا يبرّر في حالات كثيرة ـ لأسباب حضاريّة جمد فيها الفقه وأغلق فيها باب الإجتهاد وإنفصل فيها سلطان الدّولة عن سلطان المجتمع.
حسن فقه السنّة النبويّة
المقصود بهذا المنهج الإستنباطيّ هو إعتماد منهج أصوليّ قوامه أنّ القرآن الكريم حاكم على السنّة نفسها ومهما صحّت وصرحت. إلاّ أن تكون مقيّدة لمطلقه أو مخصّصة لعمومه أو مفصّلة لمجمله بوجه حقّ لنا فيه دليل لا يخترمه الإحتمال. منهاج أصوليّ قوامه أنّ السنّة لا تستقلّ بالتّشريع الإبتدائيّ الإستئنافيّ الجديد لا إيجابا ولا تحريما بالمعنى الدّينيّ الذي يرتّب على العاصي هنا عقابا. وليس بالمعنى التّرغيبيّ. إلاّ فيما أنف ذكره أي تقييدا وتخصيصا وتفصيلا، ولا نسخا كذلك من السنّة للقرآن الكريم، إلاّ في الإتّجاه المضادّ، أي نسخ القرآن الكريم نفسه بحكم حاكميّته المطلقة للسنّة التي يعتريها في أحيان كثيرة مقامات غير مقامات البلاغ وخاصّة مقامات الإمامة السّياسيّة أو الإداريّة أو العسكريّة أو العمل بشريعة سابقة في إنتظار نزول وحي (رجم الزّاني مثلا). 
وفي المعاملات الماليّة وجدت بنفسي ـ إذ درست سفرا هو عندي من خير ما كتب فيها (حقيبة المعاملات المالية للدّكتور علي القره داغي ـ ثلاثة عشر مجلدا) ـ أنّ أكثر الأحاديث النّبويّة في المسألة الماليّة هي من باب الذّرائعيّة فتحا أو سدّا، أو من باب المندوبات لا الواجبات، أو المكروهات لا المحرمات، أو المحرّمات الوسائليّة وليس الغائيّة، وهذا ربّما هو الأكثر. ذلك أنّه كان ﷺ يعالج أحداثا واقعيّة بما يناسبها وليس يرسم تعليمات نهائيّة مطلقة عامّة إلاّ في أحاديث قليلة نسبة إلى غيرها من المعالجات الوسائليّة والذّرائعيّة. وجدت أنّ أكثر تلك الأحاديث تحرص كلّ الحرص على نبذ الغشّ والخديعة وأكل أموال النّاس بالباطل بأيّ صورة كانت موغلة في الدّقة والخبيئة، وعلى نبذ أيّ سبب لتخاصم النّاس حول المال وصرم صفّهم الذي لا يكونون بغيره مؤمنين. في الأعمّ الأغلب كلّما أخطأتك هاتان النّاكيتان (الغشّ وما في حكمه وصرم الصّف وما في حكمه) فإنّ كلّ معاملة عادة ما تكون مباحة، سيما إذا كان موضوعها كذلك مباحا، ليس خمرا مثلا. المقصود هنا هو أنّ منهج السنّة غير منهج القرآن الكريم، ومن ذا فإنّ الإعتماد عليها في التّحريم المطلق بالمعنى الدّينيّ الذي يقتضي العقاب ومن دون رعاية لفقه المقامات وأشياء أخرى هو مهلكة ومظنّة غلط.