تطوير الذات

بقلم
محمد أمين هبيري
مبدأ الكرامة الوجوديّة
 مبدأ الكرامة الوجودية هو أهمّ الشّروط الجوهريّة للنّهضة ويكون في صورتين الأولى الكرامة المعنويّة والثانية الكرامة المادّية، ولا يمكن الحديث عن هذه الكرامة دون التّدبّر في تأصيلها القرآني، حيث تكرّرت قصّة خلق الإنسان في القرآن الكريم بأنماط سرديّة مختلفة، تارة بالحديث عن نوعيّة المادّة التي خلق منها، وتارة بالحديث عن استكبار الشّيطان ورفضه السّجود لآدم بتعلّة أنّ مادّة الخلق الخاصّة به (النّار) هي أرفع قدرا من مادّة خلق آدم (الطّين)، وكثيرا ما تختتم هذه المحاورة بطرد الأخير من رحمة اللّه لتكبّره وتعنّته جهلا وإعراضا منه.
تُعرّف الكرامة الوجوديّة بأنّها أمّ المبادئ الكونيّة الجوهريّة بفرعيها التّربوي والسّياسي التي يتمتّع بها الإنسان لمجرد كونه إنسانًا، بغضّ النّظر عن أيّ صفات أو خصائص أخرى. وهي شعور داخلي بالكرامة، واحترام الذّات، وتوكيد الذّات وغيرها من المفاهيم التي يمكن من خلالها تأصيل فكرة مركزيّة الإنسان في الخلق.
كثيرا ما يعرّف القرآن الإنسانَ كمستعمرٍ في الأرض بقيم الاستخلاف الكونيّة، يهدف إلى علاج علاقة الإنسان بالطّبيعة وبالتّاريخ لسدّ حاجاته العضويّة والرّوحيّة، وتلك هي آيات الآفاق والأنفس، وهي العلم بقوانين الطّبيعة الرّياضيّة وبسنن التّاريخ السّياسيّة، وذلك هو لسان التّواصل الكوني الذي يتواصل مع الإنسان، فكونه أهلا للاستخلاف مشروط بكونه أوّلا مجهّزا لاستعمار الأرض وحرّا في أن يحقّق شروط الأهليّة للاستخلاف أو أن يرفضها، فيتحمّل مسؤوليّة هذا الرّفض لكأنّه سقط في امتحان الحرّية.
إنّ رفض الإنسان لتحمّل مسؤوليّة الإعمار يفضي بالضّرورة إلى تنازله عن قدراته التي أودعها اللّه فيه، فيستجيب حينها إلى شهواته ونزواته التي لا ترقى إلى المستوى الحيواني في بعض الأحيان، وهو ما يمثلّ آفة من آفات الحياة. إذ أنّ علاقة الإنسان بالحياة في غاية الخطورة. فكما يمكن أن تستعمل قدراته في مجالات نافعة، فتغيّر مجرى التّاريخ إيجابا، يمكن أن تستعمل في مجالات ضارّة فتغيّر مسار التّاريخ سلبا.
إن عبارة «عمارة الإنسان للأرض بقيم الاستخلاف» عبارة جامعة لفلسفة حياة الإنسان حيث تنقسم العبارة إلى قسمين «عمارة الإنسان للأرض» و«بقيم الاستخلاف»، أمّا الأولى فهي خبريّة تعني أنّ الإنسان مطالب بأن يعمّر الأرض فيستخرج منها ثرواتها ويبحث في آيات اللّه في الآفاق(العلوم الطبيعيّة) وفي الأنفس (العلوم الإنسانيّة).
هذا البحث العلمي أو بعبارة أخرى العلم بقوانين الطّبيعة وبسنن التاّريخ هو شرط الاستعمار في الأرض، وهي العلاقة بين الإنسان والطّبيعة، أي من خلالها يمكن للإنسان أن يفهم الطّبيعة بمعادلاتها الفيزيائيّة وبنظريّاتها الحسابيّة، فيتمكّن حينئذ من الأخذ بأسباب القوّة العامّة.
القسم الثاّني من العبارة «بقيم الاستخلاف»يعني تلك القيم التي تؤطّر الإنسان تأطيرا يسمح له بالمحافظة على الثرّوة التي أودعها اللّه في الأرض آمرا الإنسان باستخراجها والانتفاع بها، وهي قيم الرّزق وقيم الذّوق، أو أخلاقيّا التعّامل مع الثرّوة الاقتصاديّة والفنيّة بما يتيح للإنسان فهم العلاقة الدّيالكتيك بينه وبين التاّريخ، يؤثرّ ويتأثرّ، فالقيم الكونيّة للاستخلاف هي الضّامنة لاستغلال الثرّوة دون إساءة استغلالها المؤديّة في كثير من الأحيان لإهدارها.
الجزء الأول: مبدأ الكرامة الوجوديّة في ذاته  
يمكن تقسيم الجزء الأول إلى عنصرين؛ الأول نتحدث فيه عن أساس المبدأ (العنصر الأول)، أما الثاني فنتحدث فيه عن مبرّرات المبدأ (العنصر الثّاني)  
العنصر الأول: أساس المبدأ  
يمثلّ الإيمان تحرّرا من السّلطة الرّوحيّة المتمثلّة في الكنيسة أي من الوساطة بين العبد والمعبود. وهو أيضا تحرّر من السّلطة السّياسيّة المتمثلّة في العبارة المشهورة « ظلّ اللّه في الأرض» أو بعبارة أخرى الحقّ الالهي، أي تحرير من الوصاية بين الحاكم والمحكوم، والانتقال من الإمام والرّعية إلى مفهوم المواطنة والرّئيس الخادم، هو عين المسؤوليّة التي أسندها الرّسول في قوله «كُلكُمْ رَاعٍ وَكُلّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيتِّهِ»، وبذلك يمكن القول إنّ الإيمان مفهوم واسع تدخل تحت سقفه كلّ أعمال الخير التي ترتقي بالإنسان من منزلة الحيوان النّاطق إلى منزلة المستعمر في الأرض بقيم الاستخلاف، صاحب المشيئة والقدرة والإرادة  المحاطة بمشيئة اللّه. وهذا هو أساس مفهوم مبدأ الكرامة الوجوديّة الذي يمثّل أحد أهمّ المبادئ التي تحدّث عنها القرآن الكريم (1)
تتميز الكرامة الوجوديّة بالكونيّة والشّموليّة والديمومة، ممّا يجعلها هبة إلهيّة لا يمكن المساس بها أو انتزاعها من الإنسان. فهي تمثّل قيمة مقدّسة تعكس وجود الإنسان ككيان متكامل وموجود حقيقي في هذا الكون. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الكرامة الوجوديّة تتجسّد في تطبيقها على جميع البشر بغضّ النّظر عن العوامل الجغرافيّة أو الدّينيّة أو الثّقافيّة التي قد تميّزهم، ممّا يجعلها شاملة وعادلة للجميع.
وتتجلّى شموليّة الكرامة الوجوديّة في احتضانها لجميع جوانب حياة الإنسان، سواء الجسديّة أو النّفسيّة أو الاجتماعيّة، حيث تسعى لتحقيق التّوازن والعدالة في كلّ جانب من جوانب الحياة الإنسانيّة. ومن الملحوظ أيضًا أنّ الكرامة الوجوديّة تبقى موجودة وفعالة مع الإنسان طوال حياته، مهما كانت المراحل التي يمرّ بها، منذ لحظة ميلاده وحتّى لحظة وفاته، ممّا يعكس استمراريّة هذه القيمة الأساسيّة وأهمّيتها في كلّ مرحلة من مراحل الحياة.
باختصار، فإنّ الكرامة الوجوديّة تمثّل هبة إلهيّة لا تقتصر على فترة زمنيّة محدّدة أو على شريحة معيّنة من البشر، بل تعتبر شاملة وشموليّة ودائمة، ممّا يجعلها المبدأ الأساسي الذي يجب الحفاظ عليه واحترامه في جميع الظّروف والأوقات.
العنصر الثاني: مبرّرات المبدأ
تتجلّى مبرّرات الكرامة الوجوديّة في مجموعة متنوّعة من الجوانب التي تشكّل أساساً لحياة الإنسان وتقدّم مساهمات عميقة في بناء مجتمعات عادلة ومستقرّة. أولاً وقبل كلّ شيء، تُعتبر الكرامة الوجوديّة أساسًا لحقوق الإنسان الأساسيّة، بما في ذلك الحقّ في الحياة والحرّية والكرامة. فهي تضمن للإنسان وجوداً لائقاً ومشاركة متساوية في المجتمع.
بالإضافة إلى ذلك، تساهم الكرامة الوجوديّة في تعزيز الشّعور بالمسؤوليّة، حيث يدرك الفرد دوره ومسؤوليّته تجاه نفسه وتجاه المجتمع. يعتبر هذا الشّعور بالمسؤوليّة أساساً لتفعيل العمل الاجتماعي والتّعاون في بناء مجتمع يحترم حقوق الجميع.
علاوة على ذلك، تشجّع الكرامة الوجوديّة على احترام التّنوّع والاختلاف بين البشر، ممّا يعزّز التّعايش السّلمي والتّفاهم بين الثّقافات والمجتمعات المختلفة. فهي تسهم في تعزيز الحوار البنّاء وتقبّل الآخر بمختلف جوانبه.
أخيراً، تساهم الكرامة الوجوديّة في بناء مجتمعات عادلة من خلال تأسيس نظام تحترم فيه حقوق جميع أفرادها دون تمييز. فهي تعمل على تعزيز المساواة والعدالة الاجتماعيّة، وتشجّع على إقامة بنى تحتيّة تخدم الجميع دون استثناء.
باختصار، تعتبر الكرامة الوجوديّة الرّكيزة الأساسيّة لحياة إنسانيّة مستقرّة ومجتمعات عادلة، بتعزيزها للحقوق الأساسيّة والمسؤولية الفردّية والاحترام المتبادل والعدالة الاجتماعيّة.
 الجزء الثاني: مبدأ الكرامة الوجودية في موضوعه  
يمكن تقسيم الجزء الثاني إلى عنصرين؛ الأول نتحدّث فيه عن نتائج المبدأ (العنصر الأول) أمّا الثّاني فنتحدث فيه عن حدود المبدأ (العنصر الثّاني) 
العنصر الأول: نتائج المبدأ  
ينتج تكريس مبدأ الكرامة الوجوديّة أثارا إيجابيّة متعدّدة على مستوى الفرد والمجتمع، حيث تؤثّر على الذّات وعلى الكيان بشكل عميق ومتجانس. فعلى مستوى الذّات، تعزّز الكرامة الوجوديّة الشّعور بالقيمة والكرامة، ممّا يجعل الفرد يحترم نفسه ويقدّرها، فيزيد من ثقته بنفسه وقدرته على تحقيق أهدافه وطموحاته. فينعكس ذلك في شعوره بالرّضا عن النّفس وقبولها كما هي، ممّا يقلّل من مشاعر القلق والاكتئاب.بالإضافة إلى ذلك، تعزّز الكرامة الوجوديّة الانتماء إلى الإنسانيّة، ممّا يقوّي شعور الفرد بالمسؤوليّة تجاه نفسه وتجاه الآخرين. 
أمّا على مستوى الكيان، فإنّ الكرامة الوجوديّة تسهم في بناء مجتمعات عادلة وفي تكريس التّسامح والاحترام بين أفرادها، فتقلّ الصّراعات والنّزاعات وتتعزّز فرص السّلام والأمان. بالإضافة إلى ذلك، تسهم في تعزيز التّنمية البشريّة في جميع المجالات، بدءًا من التّعليم وصولاً إلى الصّحّة والاقتصاد، مما يؤدي إلى بيئة أكثر استقرارًا وازدهارًا للمجتمع بأسره.
باختصار، تلعب الكرامة الوجوديّة دورًا حاسمًا في تحقيق التّوازن بين الفرد والمجتمع، حيث تعزّز الشّعور بالقيمة الذّاتية وتساهم في بناء مجتمعات عادلة وسالمة ومزدهرة.
العنصر الثاني: حدود المبدأ
ينتج عن المساس بالكرامة الوجوديّة تحدّيات كبيرة تهدّد استقرار الذّات والكيان في آن وتؤثّر سلبا على الفرد والمجتمع. أحد أبرز هذه التّحديات هو الانتهاكات التي تتعرّض لها من خلال الحروب والعنف والظّلم والتّمييز، ممّا يؤثّر بشكل كبير على حياة الأفراد ويقلّل من قيمتهم الإنسانيّة.
بالإضافة إلى ذلك، تمثّل اللاّمبالاة تحدّيًا آخر يواجه الكرامة الوجوديّة، حيث يمكن لبعض الأشخاص أن يتجاهلوا أهمّية حقوق الإنسان والكرامة الوجوديّة، ممّا يؤدّي إلى انتهاكها دون أدنى قصد. هذا الإهمال قد ينبع من عدم فهم الفرد لأهمّية الكرامة الوجوديّة أو من غياب الوعي بحقوقه الأساسيّة.
ومن بين التّحديات الكبرى أيضًا يأتي الجهل، حيث قد لا يدرك بعض الأشخاص معنى الكرامة الوجوديّة وما تشمله من حقوق أساسيّة للإنسان، ممّا يؤدي إلى انتهاك الكرامة الوجوديّة دون وعي، لذا يصبح التّثقيف والتّوعية بأهمّية الكرامة الوجوديّة ومعناها ضرورة ملحّة لضمان احترام حقوق الإنسان وتعزيز مشاركته الفعّالة في المجتمع.
باختصار، تتراوح التّحديات التي تواجه الكرامة الوجوديّة بين الانتهاكات المباشرة واللاّمبالاة والجهل، ولضمان استمراريّة الكرامة الوجوديّة واحترامها،لا بدّ من تعزيز التّوعية وتعميق الفهم حول حقوق الإنسان وضرورة احترامها في جميع الأوقات والظّروف.
الهوامش
(1) تحدث عنها صلب حديثه عن سجود الخلق من جنّ وملائكة لآدم، فمن سجدت له الخلائق يحقّ له أن يحظى بالكرامة في بعدها الوجودي.