تجلّيات

بقلم
عادل دمّق
على بصيرة (تنمية الوعي)
 التعرف على الذات والوعي بها مهمة من اليسير العسير، وذلك يعود أساساً إلى هشاشة المعايير والمقاييس التي نتعرف على أنفسنا من خلالها والصدّ النفسي؛إذ أن كل واحد منا يظل قادراً على القول بأنه أدرى بنفسه، وأعلم بعلله ونقاط ضعفه، وهذا صحيح إلى حد ما، لكن حين نعرف أن الواحد منا لا يعيش في جزيرة معزولة، وأن إنجازاته وعلاقاته تتعرض للتقييم والنقد من قبل الآخرين، ونعرف أن هناك معايير دقيقة للتّعرف على كفاءة الشخصية، وتلك المعايير قد لا تكون معروفة لدينا على نحو جيد، حين نعرف كل ذلك يبدأ اكتشافنا لتعقيدات الوعي الذاتي والتبصر الشخصي. وفي هذا يمكن أن نطرح السؤال التالي : «أين بداية رحلة التعرف على الذات، وما الأدوات التي يمكن أن نستخدمها في ذلك؟»
ونقول في الإجابة عن الشّق الأول من السؤال ما يلي:
(1) من المهم أن ندرك أن الحصول على أكبر قدر من الوعي الذاتي يشكل شيئاً مهماً على طريق القيام بأمر الله تعالى وعلى طريق إصلاح النفس، ومن الواضح أن من يغلب عليه الجهل والطيش، يعاني من فقر مدقع في القدرة على نقد الذات وبيان محاسنها وعيوبها، وحين تطلب من أحد الأميين أن يحدّثك عن نفسه، فإنه يطلب منك أن تتحدث عما تراه فيه، أو يتحدث بحديث لا يخلو من السطحيّة والتّحيّز والتّفاهة.
إذاً هل نستطيع القول أن ما لدى المرء من مستوى معرفي ومن تحصيل علمي هو الذي يتحكم بقدرته على رؤية ذاته؟ هذا هو الظاهر، والقرآن الكريم يؤنّب في غير موضع أولئك الذين فقدوا الإحساس والشعور بأوضاعهم وبما يدور حولهم، وفي هذا يقول سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ). [سورة البقرة:11-12].
ويقول سبحانه:(يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [سورة البقرة:19]، وقال: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [سورة النحل:20-21].
نحن نتوقع أن يتحسّن وعي النّاس بأنفسهم بسبب الحوارات والنقاشات الكثيرة التي نراها في الفضائيات وبسبب تراجع نسبة الأميّة في كثير من البلدان.
(2) إنّ السّعي إلى المزيد من الوعي الذاتي كثيراً ما يتطلب منا الاعتراف بأن ما نجهله عن أنفسنا أكثر مما نعرفه، والغرور والعجب هو الذي يصرفنا عن هذا الاعتراف، وحتى نتأكد أننا لا نعرف عن أنفسنا إلاّ القليل، فليحاول كل واحد منا أن يتساءل عن نقاط القوة في شخصيته وعن نقاط الضعف، وليحاول العثور على خمس نقاط في كل جانب، وسيجد أن ما سيقوله غير واضح وغير قطعي، ويقبل الكثير من الجدل والأخذ والرد.
(3) بناء على هذا فإننا في حاجة إلى اعتماد أسلوب التدرج في اكتشاف أنفسنا، وعلينا الاستمرار في ذلك، وهذا يحتاج إلى أن ننمّي في داخل أنفسنا درجة عالية من النفور من الغموض والعماء، وأن نكافح بعناد من أجل رؤية أنفسنا ورؤية الأشياء من حولنا على النحو الصحيح. ونقول في الإجابة عن التساؤل حول الأدوات التي يمكن استخدامها في الوعي الذاتي ما يلي:
(1) على المرء أن يصوغ ما لديه من أفكار ومشاعر وانطباعات وملاحظات ومشاعر في تعبيرات وجمل واضحة ومنظمة ومسلسلة، وذلك بغية الرجوع إليها عند إرادة التفكير في الشأن الشخصي تماماً، كما تفعل مؤسسة تجارية حين تعد تقريراً عن أوضاعها العامة من أجل مناقشته في اجتماع من الاجتماعات المهمة. وقد كان كثير من الشباب يسجلون ذكرياتهم في دفاتر صغيرة ليستمتعوا بقراءتها في يوم من الأيام، ونحن نريد أكثر من ذلك وأنفع، نريد بياناً واضحاً عن انطباعاتنا وطموحاتنا وعن مشاعرنا تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين، لنجعل من ذلك البيان دليلاً للعمل الشخصي، وهذا ليس بالعسير، ولكن علينا أن نعتقد أن البيان الذي سنصوغه هو بيان اجتهادي تمّ الوصول إليه باستخدام أدوات قاصرة، ولهذا فهو قابل للتعديل والمراجعة والتطوير.
(2) نوع اللّوم الذي يتلقاه المرء من نفسه على أعماله يؤشر بوضوح إلى أحواله وأوضاعه، فهناك مسلم تلومه نفسه لأنه لا يصلّي، وهو يشعر بالتقصير الشديد، وهناك مسلم تلومه نفسه على قلة ذهابه إلى المسجد، وهناك من تلومه نفسه لأنه لم يدرك تكبيرة الإحرام.. أيضاً هناك طالب يعنّف نفسه لأنه رسب، وطالب يعنف نفسه لأنه لم ينجح بتقدير ممتاز، وطالب يعنف نفسه لأنه لم ينل شهادة تقدير في آخر العام وهكذا.. وفي إمكان المرء أن يتعرف على مدى ما يحرزه من تقدم على صعيده الشخصي من خلال فحص حركة لوم نفسه له، فإن وجد أنها تتجه نحو التوبيخ على أشياء صغيرة ودقيقة فليحمد الله تعالى، وإن وجد أنها تتجه نحو التوبيخ على التقصير في فرائض وواجبات ونحو الوقوع في كبائر وموبقات فليتوقف فوراً وليعمل على إنقاذ نفسه من غضب الله ومقته.
(3) تشكّل المقارنة وسيلة أساسية في فهم الوجود عامة وفهم الذات خاصة؛ إذ أن في إمكان المرء أن يقارن أوضاعه وإنجازاته بأوضاع وإنجازات أشخاص آخرين يعيشون في ظروف مشابهة لظروفه، ولديهم معطيات قريبة من المعطيات التي في حوزته: طالب من أسرة فقيرة يقارن نتائج اختباراته بطالب من أسرة فقيرة – مثلاً- مع ملاحظة مستوى الذكاء والخلفية الثقافية، وموظف في مؤسسة يقارن إنجازاته ووضعه الوظيفي ومدى نجاحه ورضا رؤسائه عنه.. بما لدى زميل له في ظروف مشابهة وهكذا..
إن زيادة الوعي الذاتي تتطلب أن نطور حساسيتنا تجاه سلوكنا اليومي لنعرف ما فيه من عمل يدعو إلى الحمد والاعتزاز، وما فيه من عمل يتطلب المراجعة والتوبة والإصلاح. الاهتمام والملاحظة واليقظة الذهنية والشعورية أدوات مهمة في فهم أنفسنا وفهم العالم، وعلينا أن ننمي هذه الأدوات، ونستخدمها من أجل الحصول على أعلى درجة من الاستبصار الذاتي، والله ولي التوفيق.
-------
-  باحث في التحليل النفسي النظري
aklnakll@gmail.com