مقلات في التنمية

بقلم
محمد الطرابلسي
إشكالية التنمية المتوازنة في تونس
 إن إشكالية التنمية المتوازنة في تونس، إشكالية طرحت منذ العشرية الأولى للاستقلال، واتخذت أبعاد متعدّدة (إقتصادية وإجتماعية وسياسية)، وتلتقي هذه الأبعاد الثلاثة في البعد المجالي لتعطي مقاربة شاملة لمستويات اللاتوازن في المجال التونسي.
وتعتبر التهيئة الترابية الوسيلة الوحيدة لدراسة التوازن ومعالجته، فهي مشروع إرادي تقوم به الدّولة يهدف إلى تنظيم المجال وضمان توزيع أمثل للسكان والأنشطة الإقتصادية والتجهيزات الأساسية والخدمات. وللتهيئة مستويات مجالية محدّدة للتدخل ( المستوى الوطني والمستوى الإقليمي  والمحلي) ، وهي لا تنفصل عن الأهداف التنموية للبلاد وموجهة بالأساس لتحقيق تنمية متوازنة وعادلة وشاملة. ويختلف العمل التهيوي باختلاف إستراتيجيات الأطراف الفاعلة.
فماهي مظاهر إختلال التوازن في المجال التونسي؟
وهل حققت التهيئة الترابية الأهداف المطلوبة؟
وهل يمكن تحقيق التنمية المتوازنة في تونس؟
I- مظاهر إختلال التوازن في المجال التونسي :
يتخذ إختلال التوازن في مستويات التنمية أبعاد مجالية مختلفــة: في مرحلة أولى كان الإختلال واضحا بين الشمال والجنوب خاصة خلال الحقبة الإستعمارية، وبعد الإستقلال إتخذ إختلال التــوازن شكلا آخر يتمثل في إتساع الهوة في مستويات التنمية بين ساحــل البلاد وداخلها. أما الشكـــل الثالث يظهـــر في المستوى المحلـــي بين المدينة والريف.
(1)– إختلال التوازن بين الشمال و الوسط و الجنوب:
يمكن تفسير هذا الشكل من الإختلال بعوامل طبيعية وأخرى تاريخية :
العامل الطبيعي : إختلال بين شمال يحظى بكميات هامة من الأمطار تتجاوز 400 مم في السنة وتربة خصبة تتركز خاصة بسهول وأحواض مجردة إضافة إلى كون طوبوغرافية الأرض تتميّز بإنبساطها في مجالات شاسعة سهلت عملية التنقل والإستقرار، هذا العامل ساعد على نشأة إقليم متجانس رغم تعدد الوحدات التضاريسية (التل الأعلى ، جبال خمير ومقعد، سهول مجردة والوطن القبلي…) . في حين إن إقليم الوسط يحظى بكميات متواضعة من الأمطار تتراوح بين 400 و200 مم في السنة إضافة إلى امتداد تضاريس مرتفعة (جبال الظهرية) تعيق تنقل السكان والإستغلال الزراعي، وتمتدّ السّهول بالوسط الشّرقي أين تتركّز أهمّ المدن بالإقليم (صفاقس) والأنشطة الإقتصادية. 
أما الجنوب التونسي الذي يمثل أكثر من 40 % من مساحة البلاد يهيمن عليه المناخ الجـــــاف، إذ لا تتجاوز كميات الأمطار 200 مم في السنة وتكاد تكون منعدمة بأقصى الجنوب. وتسيطر الصحراء على المشهد الطبيعي للجنوب التونسي، وهي مجال غير صالح للزراعة ولممارسة الأنشطة الإقتصادية وواقع تحت تأثير عاملي الإنجراف والجفاف.
وهكذا تفسر الطبيعة إختلال التوازن بين الشمال والوسط والجنوب وفي هذه الحالة يمكن التمييز بين أقاليم محظوظة طبيعيّا تمتدّ على مناطق منخفضة وتنزل بها كميات هامّة من الأمطار تجعل منها مجالا مناسبا لإستقرار السكان وبعث المشاريع الاقتصاديّة وأقاليم غير محظوظة طبيعيّا تمثّل مجالا لإمتداد الجبال أو الصّحراء لا تساعد على الإستقرار وممارسة الأنشطة الإقتصاديّة .
العامل التاريخي: لقد لعب الإستعمار دورا هامّا في توسيع الهوّة بين شمال البلاد وجنوبــــه، إذ إستغــــل السّهول الشّماليـــة وأنشأ فيها المدن وجهّز المناطق الشّماليّـــة بالبنيــــة الأساسيــــة الضرورية للإستغلال الإستعمـــاري ، أما في الوسط والجنوب فقد بقـــي التّدخل الإستعماري محــــدودا ومنحصـــرا في بعض الضيعـــــات والمناطق المنجمية (عمر بالهادي 1996 ).
(2) إختلال التوازن بين تونس الساحلية و تونس الداخلية:
منذ الثمانينات من القرن الماضي تراجعت مظاهر الاختلال بين الشمال والوسط والجنوب تحت تأثير عدة عوامل من بينها : دور التجربة التنمويّة اللبيراليّة التي أدّت إلى إنفتاح البلاد وربط إقتصادها بالخارج، ممّا دعّم مكانة السّواحل التونسيّة مقارنة بالمجالات الداخليّة.
استأثرت السواحل الشرقية التونسية بنصيب الأسد من التجهيزات الأساسية، كتجهيزات النقل مثل الموانىء والمطارات والطرقات السيارة والسكك الحديدية. واحتكرت هذه السواحل أكثر من 90 % من التجهيزات السياحية والإستثمارات، ويتركز بها أكثر من ثلثي السكان. ونظرا لتراجع دور الدولة وظاهرة العولمة التي أدّت إلى الانفتاح الإقتصادي المطلق وتشجيع الإستثمار الأجنبي وإتفاقيات الشّراكة مع الإتحاد الأوروبي أصبحت السّواحل مجالا مركزيّا تدعّمت مكانته الاقتصاديّة والقياديّة وتحوّلت العاصمة إلى مجال يستقطب كامل التّراب الوطني.
(3)  إختلال التوازن بين المدينة و الريف :
تبدو الهوة التنموية شاسعـة بين المدينة والريــف، والأمر يدعو إلى الإستغراب عندما نقول أن هنالك أرياف تونسية تفتقد لأبسط المرافق الأساسية في القرن الواحد والعشرين .
والأزمة في الأرياف التونسية تتخذ أبعاد متعددة إجتماعية وإقتصادية وعلى مستوى التجهيز العمومي :
إجتماعيا: إنتشار الأمية، ضعف نسبة التمدرس والتأطير الطبي، الإنقطاع المبكر عن الدراسة بسبب الظروف المادية الصعبة لبعض العائلات إضافة إلى مشكل السكن الإجتماعي والفقر والبطالة.
إقتصاديا: ضعف مردودية الفلاحة وتوسع الأراضي البور وتدنّي الدخل الفردي لسكان الأرياف إلى جانب استفحال مشكل الإنجراف والتصحر...
على مستوى التجهيزات العمومية : ضعف شبكة الماء الصالح للشراب وشبكة الكهرباء أو انعدامها في بعض الأرياف. إلى جانب عزلة العديد من الأرياف بسبب صعوبة ربطها بشبكات النقل العمومي. وللتأكد من مدى صحّــة هذه المعطيــــات المطلوب العـــودة إلى نتائج التعداد العام للسكان والسكنى لسنة 2004 والمسوحات التي تلته والتي يقوم بها المعهد الوطني للإحصاء.
II – التهيئة الترابية: هل حققت الأهداف؟ 
(1)  مفهوم التهيئة الترابية :
لقد ورد القانون 122 المؤرخ في 28 نوفمبر 1994 في مجلة التهيئة الترابية والتعمير لسنة 2006 ليعرف التهيئة الترابية بكونها أحد أشكال ممارسة المجال ( التنقل في المجال والتردد على أماكنه ويعني كذلك التصرف فيه وإستعماله وتنظيمه لأهداف محددة)، وهي عملية إرادية تنبني على جملة من الإختيارات والتوجهات التي يتم ضبطها على المستوى الوطني أو الجهوي أو المحلي لتنظيم إستعمال المجال الترابي والتي من شأنها أن تضمن خاصة التناسق في تركيز المشاريع الكبرى للبنى الأساسية والتجهيزات العمومية والتجمعات السكانية بغية تكييف إطار العيش وضمان الإستغلال المحكم للموارد وحماية المواقع الطبيعية والثقافية بما فيها الأثرية والحفاظ على السّلامة والصّحة العامّة. وضمان توزيع محكم بين المناطق العمرانيّة والريفيّة وذلك في إطار الملائمة بين التنمية الاقتصاديّة والتنمية الاجتماعيّة والتوازنات البيئية ضمانا لتنمية مستديمة ولحق المواطن في محيط سليم.
(2)  توجهات و أهداف التهيئة : 
يمكن في هذا الإطار الإعتمــــاد علــى وثيقتيــــن رئيسيتيـن: الأولى تتمثل في المثال الوطني للتهيئة الترابيــــة لسنـــة 1985 Schéma National d’aménagement du territoire والثانية تتمثـــل في المثـال المديري لتهيئـــة التراب الوطني لسنة 1996 Schéma Directeur d’aménagement du territoire national 
- توجهات المثال الوطني للتهيئة الترابية لسنة 1985 :
إشتملت هذه الوثيقة على سيناريوهين للتهيئة : سيناريو التّوازن وسيناريو التركّز، وكان الهدف الظاهري من هذه السيناريوهات إقامة نماذج تنمويّة قادرة على الحدّ من الإختلالات القائمة بين البلاد وداخلها من ناحية وبين العاصمة وبقية التراب الوطني من ناحية أخرى. 
إن هذا المثال الوطني يهدف إلى ضمان تنمية مجاليّة متوازنة توفّر نفس الحظوظ لكافّة المناطق للمساهمة في التنمية. ولكن بقيت هذه الأهداف حبر على ورق بفعل تدخّلات أصحاب القرار في العمل التهيوي وفي البرامج المسطرة في المثال الوطني وأعطوا الأولويّة للسّاحل على حساب الدّاخل وأصبح سيناريو التركّز المجالي هو السيناريو الرّئيسي لدى الأطراف الفاعلة. وكانت التدخّلات التهيوية محتشمة تقتصر على إحداث بعض الوحدات الصناعية كمصنع السكر بباجة ومصنع تحويل عجين الحلفاء بالقصرين ومعمل الصوف بحاجب العيون بالقيروان. كما أن هذا المثال ينصّ على سياسة أقلمة تقوم على تقسيم البلاد التونسية إلى 6 أقاليم  ( الشمال الشرقي، الشمال الغربي، الوسط الشرقي، الوسط الغربي، الجنوب الشرقي والجنوب  الغربي) وكل إقليم يتكون إداريّا من مجموعة من الولايات كما تبيّن ذلك الخريطة المقابلة. هذه التقسيمات تبدو في ظاهرها تهدف إلى حسن التصرف في المجال وتنظيمه ولكن في باطنها نظر وتحقيق. فهي تهدف أساسا إلى حسن سير مراقبة المجال الوطني ومعاقبة المواطن.
كما كان المثال الوطني للتهيئة الترابية لسنة 1985 يهدف إلى تحقيق التوازن الإقليمي من خلال إحداث الأقطاب التنموية بالمناطق الداخلية لكن هذا التوازن المنشود لم يتحقق واستفحلت الفوارق بين المجالات الساحلية والداخلية خاصة بعد توجهات سياسة الإنفتاح على الخارج والإندماج في مسار العولمة وإمضاء إتفاقيات شراكة مع الإتحاد الأوروبي، هذا الإنفتاح المطلق على الخارج مثل عملية إقصاء شبه كلية للمجالات الداخلية في البرامج التنموية.
- توجهات المثال الوطني لتهيئة التراب لسنة 1996 :
في سنة 1996 أنجزت الإدارة العامة للتهيئة الترابيّة المثال الوطني للتهيئة الترابية الذي أكد على حدة التناقضات بين الشّمال والجنوب والقائمة على المعطيات الطبيعيّة وبين السّاحل والدّاخل والمتمثلة في التنمية غير المتوازنة . 
وكان هذا المثال الوطني للتهيئة يهدف أساسا إلى:
- تكوين أقاليم متجانسة بهدف حصر خصوصيّات مشاكل كل إقليم.
- أن تكون مساحة الإقليم كافية لتنويع الأنشطة الإقتصادية .
- أن يضمّ الإقليم مدينة هامة قادرة على القيام بدور الحاضرة الإقليمية.
- أن يحترم الإقليم الحدود الإداريّة للولاية.
هذه الأهداف التي وضعها المثال الوطني للتهيئة الترابية لسنة 1996 كرّست ظاهرة « السوحلة»  وساهمت في بروز المدن الموانىء وخاصة تونس العاصمة وصفاقس وسوسة والتي ٱستأثرت بنصيب الأسد من الإستثمارات العمومية والخاصّة في مختلف القطاعات. ويعتبر ذلك حسب رأيي إقصاءا ضمنيا للأقاليم الداخلية بحكم تكريس سياسة الانفتاح في إطار ما يسمى « بالعولمة» التي أعطت الأولويّة للمدن الساحليّة.
III- هل يمكن تحقيق التنمية المتوازنة في تونس؟
التنمية المتوازنة حلم يصعب تحقيقه ولكن ليس بالمستحيل، ولتحقيقه لا بد من إعتماد الخطوات التالية:
(1)  الخطوة الأولى: 
- تشخيص الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والسياسية للمجالات الداخلية والساحلية للبلاد التونسية لتحديد إحتياجات كل إقليم وولاية وجهة وقرية. 
- إعادة النظر في سياسة الأقلمة بالبلاد تونسية، وإعداد تقسيم إقليمي جديد يمكن من إعطاء نفس الحظوظ ونفس الفرص لمختلف أجزاء التراب الوطني .
- إعداد مثال جديد لتهيئة التراب الوطني ومراجعة الأمثلة الإقليمية بكيفية تتماشى مع طبيعة المرحلة الثورية وتستجيب لمطالب الثورة، وتتضمن مختلف التوجهات والبرامج على المدى القريب والمتوسط والبعيد. وتعتبر مبدأ التوازن بين مختلف أجزاء التراب الوطني مبدأ أساسيا لتنمية القدرات التنافسية للمجال التونسي على أساس اللامركزية في مختلف القطاعات.
(2)  الخطوة الثانية:
- ضمان الديمقراطية المحليّة، وذلك بمحاولة خلق هياكل سياسيّة جديدة جهويّة ومحليّة ( على مستوى الولاية والبلديات والقرى الريفية) تكون منتخبة  وتشرك المواطن في إبداء رأيه وتقديم مقترحاته المتعلقة بصياغة برامج التنمية الترابية.
- نشر ثقافة الحكم الرّشيد وتفعيلها بكيفية تضمن المشاركة الفعليّة لمختلف الفاعلين في الشأن الجهوي والمحلّي.
- المراهنة على الإمكانيّات المحليّة لكل إقليم لتنمية ذاته. 
- إحداث بنك متخصص في مجال التنمية الريفية لتمويل المشاريع في الأرياف ذات القيمة المضافة العالية.
- تكوين لجان منتخبة محليّة لمتابعة إنجاز المشاريع بهدف ضمان الشفافية والقضاء على المحسوبية في البرمجة والتخطيط .
- بعث هياكل جهويّة تابعة للإدارة العامّة للتهيئة الترابيّة للقضاء على مركزيّة القرار.
- النظر في مسألة طول آجال إعداد دراسات التهيئة الترابية لأن الوسط الحضري والريفي يشهد تحولات متسارعة ومتواصلة تؤدي في بعض الأحيان إلى صعوبة تنفيذ التوجهات المرسومة بدراسات التهيئة.
خاتمة
وهكذا عند دراستنا لخصوصيات المجال التونسي وبعد تقييم سياسات التهيئة الترابيّة، فإننا نجد أن الأهداف المطلوبة لم تتحقّق، وازدادت مشكلة التباين بين الساحل والداخل تعقيدا، وأصبحنا نميّز بين تونس السّاحلية الجاذبة للسكّان والتي تحتكر أغلب الأنشطة الإقتصادية ( الصناعة والفلاحة والسياحة والخدمات) وأهم التجهيزات في ميدان النقل من موانئ ومطارات وطرقات سريعة وسكك حديدية. وتونس الداخلية التي تتميز بهيمنة النشاط الزراعي والجبال الوعرة والسباسب شبه الجافة والمعرضة للجفاف والفيضانات المدمرة والصحاري المنفرة والخالية من السكان وإنعدام شبه كلّي للأنشطة الصناعيّة إذا إستثنينا الأنشطة الإستخراجيّة.
هذه محاولة بسيطة لقراءة إشكالية إنعدام التوازن في مستويات التنمية بين السّاحل والدّاخل، نؤكّد من خلالها على ضرورة الترابط بين مشاريع التهيئة الترابيّة وبرامج التنمية الإقليمية والجهوية، باعتبار إن المقاربات التنموية الناجحة تنبني على مبادئ التكامل والتلازم الفعلي بين الأبعاد السياسية والإقتصادية والإجتماعية وتؤسس في إطار رؤية تأخذ في الإعتبار مقتضيات المرحلة وعمق التحولات الإجتماعية وتسارع التغيرات العالمية.
المراجع
(1) ستهم حافظ (1999) : شخصية الأقاليم الجغرافية التونسية ، مركز النشر الجامعي، تونس ،333 ص ̣
(2) Belhedi Amor 1998: Quelques aspects du développement régional et local en Tunisie‚ CERES, Tunis, 245p.
(3) Belhedi Amor 1996: Développement Régional, Rural, Local, CERES, Tunis ,351p.
(4) Direction de l’aménagement du territoire2010: Etude d’élaboration du Schéma Directeur d’aménagement de la région économique du Centre-Est‚ rapport de synthèse, Tunis‚286p.