بهدوء

بقلم
د.جميل حمداوي
هل يمكن قراءة الكتب المقدسة في ضوء المقاربة التفكيكية؟

 يمكن لنا قراءة القرآن نصا وخطابا وكتابا في ضوء المقاربات العلميــــة والموضوعيــــة كالبنيويــــة اللسانيــــة و«السيميوطيقـــا» و«الهيرمونيطيقا» القائمة على التأويل. لكن هــل يمكن قراءة القرآن اعتمادا على التفكيكية بالمفهوم الدريـــدي؟. في اعتقادنا، لايمكن إطلاقا دراسة القـــرآن انطلاقا من المنهجية التفكيكية تشريحـــا واختلافـــا. لأن القـــرآن يحوي حقائق وبنيات عقائدية وتشريعية ثابتة، من الصعــب الطعن فيها لقدسيتها الربّانيـــة، كما أن ما ورد في القـــرآن الكريم يقينـــي وثابت ومحكم، لايمكن التشكيك فيه بأي حال من الأحوال. 

فعلا، يمكن تفكيك القرآن بنيويا وسيميائيا من أجل معرفة البنيات السردية أو المنطقية التي تتحكم في توليد الآيات القرآنية أو دراسة قصص القرآن الكريــــم قراءة سيميائية لمعرفة الثوابت التكوينيـــة في تلك القصص السرديـــة. لكن يستحيل تطبيق التفكيك بمفهوم  «جاك ديريدا»؛ لأن منهجية «ديريدا» التفكيكيـــة قائمة على الهدم والتقويض والتشكيك ، وتعرية السائد، وفضح الإيديولوجيا، والثورة على الانسجـــام. فــي حين، نجد القـــرآن الكريـــم خطابا متجانســــا في آياته وأحكامه التشريعيـــة، ولاعلاقة له بالإيديولوجيا لامن قريب ولا من بعيد. علاوة على ذلك، فالتفكيكية تعمد إلى الهدم والثورة والرفض، ونقد المقولات المركزية في الفكر الغربي بصفة خاصة، والفكر العالمي بصفة عامة كاللغة، والعقل، والتاريخ، والعرق، والصوت...وغيرهـــا من المقولات التي تمثلهــــا الفكر الإنسانـــي. أما القرآن، فيتّسم بالانسجـــــام والاتســـاق والإعجاز، والدعـــوة إلى استخدام العقل لمعرفة الله، وتعمير الدنيـــا. كما أن القـــرآن ليس فكرا بشريا لتعريته، وليس إيديولوجيا بشرية أو سياسية للإطاحة بها، ونقدها تفكيكا وتشريحا. علاوة على ذلك، ترفض فلسفة «ديريدا» التفكيكية بشكل مطلق كل التعارضات والثنائيات الزوجية: الروح والجسد ، والعقل والمادة، والحياة والموت... في حين، ينبني القرآن الكريم على مجموعة من الثنائيات المتقابلة ، كالليل والنهار، والحياة والموت، والمذكر والمؤنث، والعلم والجهل، والسعادة والشقاء، والجنة والجحيم...
أضيف إلى ذلك أن فلسفة «ديريدا» هي فلسفة التقويض، والفوضى، والهدم، وإشاعة السلبية، وإثارة نزعات الصراع والاختلاف. ومن ثم، فالقرآن الكريم بعيد كـــــل البعد عن هذا، فهو كتاب ديني مقدس، يهدف إلى ترقية الإنسان ماديا وروحيــــا، والسموّ به بشريا وأخلاقيّا ونفسيّا، وهدايته إلى السبيل الصحيح للفـــــوز بالدنيـــا والآخــــرة. أي: إنه كتاب عقــــدي إيجابي في خدمة الإنسان، والحفاظ على الفرد والجماعة، ضمن نظام مجتمعي ثابت قوامه الاحتكام إلى الشريعة الربانية. وبالتالي،فالقرآن ضد الاختلاف من أجل الاختلاف، أو إثارة الفتنة والغواية والشقاق بين طبقات المجتمع.
علاوة على ذلك، لايقبل القرآن الفلسفة السلبية القائمة على العدمية، والنسبية المطلقة، والرّفض لما هو ثابت ويقيني.
وما يمكن قولــــه عن القرآن، يمكن قوله عن الكتب المقدسة الأخرى كالتوراة والإنجيـــل، فحينما تحارب التفكيكية المنطوق الصوتي، والوحدة والانسجام والنظام والثبات والمركــــز، فهي في الحقيقة تحارب عقيدة التوحيـــد، ولا تعلم أن هذا الكون المنظـــم له رب خبير عليـــم. وفي هــــذا الصــدد، يقــــول ديفيـــد كارتـــر (David Carter): «ظهرت البوادر الأولى لهذه الثورة التفكيكية في مقالة قدمها ديريدا في جامعة جونز هوبكنز في أمريكا في عام 1966م بعنوان (البنية والعلامة واللّهو في خطاب العلوم الإنسانيــــة). وللتعبير عما كان ثوريا فيها باختصار، فقد برهن ديريدا بأنه حتى البنيوية تفترض وجود مركز للمعنى من نوع ما، كما يفترض الأفراد مركزية ضمير « أنا» في وعيهم، ويضمن هذا المركــــز الشعور بوحدة الوجود. ولكن بالنسبة لديريدا أدت التطــــورات في الفكر الغربي حتما إلى عملية التهميـــش. تقليديّـــا كانت هناك دائما عمليات تمركـــــز أو تمحــــور: الوجود، والنفس، والجوهـــر، والله، إلـخ. وهذه الحاجة الإنسانية سماها «ديريدا» مركزية المعنى. وهذا مستمد من استخدام العهد الجديــــد لمصطلح علامــــة (التي تعني في اليونانية كلمة) للتعبير عن اعتقاد المسيحيـــة بأن السبب الرئيــــس لجميع الأمور هو كلمة الله: «في البداية كانت الكلمة». وبالتالي، في مركزية المعنى تكون الكلمة المنطوقة أقرب إلى الفكر من الكلمة المكتوبة. يسمي «ديريدا» ذلك مركزية الصوت التي تفترض دائما وجود النفس. عندما نسمع الكلام، فإننا نفترض وجود المتحدث. ولانفعل الشيء نفسه في الوجود الكتابي عندما نقرأ الكتابة. وبهذه الطريقة، تتيح الكتابة لنفسها مجالا للتفسير، وإعادة التفسير؛ لأننا نستطيع أن نعيد القراءة والتحليل بسهولة أكبر.
وهكذا، يتبادر إلى أذهاننا أن التفكيكية ، باعتبارها مقاربة فلسفية تقويضية، تتعارض مع الكتــــب المقدسة جميعهـــا، تلك الكتب التي أعطت أهميـــــة كبرى للدال الصوتـــــي بيانــــا وفصاحة وبلاغة، تلك الكتب التي تؤمن بالنظام الرباني المنسجـــم، وتؤكد تناسق هذا الكون بإرجاعه إلى عظمة الله وقدرته الخارقة. والهدف من خلق الإنسان، واستخلافه في الأرض،هو تعمير الكون، والجمع بين العبادة والعمل. ومن ثم، فالبناء هو الأساس في سنة الحياة، أما التقويـــض فهو النشاز والشذوذ والغرابة. 
الهوامش
(1) ديفيد كارتر: البنية والعلامة واللهو في خطاب العلوم الإنسانية، ص:118