الكلمة الحرّة

بقلم
محمد الحاج سالم
أيّها الضّارعون المعذّبون في الأرض !

 الوقف لغة هو التحبيس أو التسبيل أي جعل الشيء أو منفعته في سبيل الله، فهو من جنس الصدقة الجارية، ومنه ويا للغرابة «السبّالة»! نعم السبّالة بمعنى الحنفيّة أو «الشّيش ماء» بمعنى قناة الماء باللّغة التركيّة كما تُعرف في بعض مناطق بلادنا، فهي في الأصل مَعِينُ ماءٍ يوُضع على ذمّة السّابلــة أي المارّين فـــي الطريق ليستقـــوا منه «على رحمة الوالدين» كما نقول في تونس! 

تذكّرتُ هذا وأنا أقرأ بذهول مقدار الأموال الموقوفة في الغرب على الأعمال الخيريّة. وهاكُم بعض أمثلة قد تُصيبكم مثلي بالدُّوار: خصّص «بيل غيتس» ما قيمته 4,2 مليار دولار من ثروته للتّعليم والصحّة والمكتبات العامّة في مدينة سياتل... وحبّست مؤسّسة فورد 10,8 مليار دولار للمنح الجامعيّة وعلاج الفقراء، وقُل نفس الشّيء عن  مطاعم القلب (les resto du coeur) في فرنسا وبلجيكا حيث تُقدّم الوجبات مجانّاً للفُقــراء، وهذه أنشأها الفنّان «كوليش» (Coluche ) سنة 1985 بمساعدة من أهل الفنّ والأدب والجمعيّات الخيريّة... يتمّ هذا في بلاد غير المسلمين، فيما تُعاني «أمّة الإسلام» ما تُعاني من جوع وفقر وحرمان مُقابل حفنة من باذخي النفط الذين لا همّ لهم إلاّ التبجّح بأنّ الله أكرمهم بالإسلام!
وبما أنّ الشّيء بالشّيء يُذكر كما يقول ابن نَبَاتَه المصريّ:
تَذَكَّرْتُ لَمَّا أَنْ رَأَيْتُ جَبِينَهَا ... هِلَالَ الدُّجَى وَالشَّيْءُ بِالشَّيْءِ يُذْكَرُ
فقد تذكّرتُ رأياً للعلاّمة عبد الله العلايلي في كتابه الجريء «أين الخطأ؟»، يقول فيه حرفيّاً: «ليس لأهل النّفط مُقَدَّرَاتُه»، وذلك بناءً على الحديث الشريف: «النّاسُ شُركاءُ في ثلاثٍ: الماءِ والكلأِ والنّارِ»، وهو يعتبر الوقود الخام بكلّ مصادره من نفط وغاز وفحم وأورانيوم داخلٌ في عُموم لفظ النّار، ويعلو صوته بالتّالي: «فيا أيّها الضّارعون المعذّبون في الأرض، طالبوا بالفم الصّارخ بحقّكم، فأنتم شُركاء فيه شرعاً»!
لكن لنعدْ إلى موضوعنا خشية أن يُضحي الحديث عن وقف النفط على مستحقّيه داخلاً في السياسة... مُخْرِجاً من الدّين! قلتُ: دُهشت من المبالغ الخياليّة التي يُوظّفها بعض الغربيّين في خدمة أغراض إنسانيّة، ودُهشت أكثر لنُبل نُفوسهم ويقظة ضمائرهم وعلوّ إنسانيّتهم بما ذكّرني بمآثر الأجداد. وبما أنّني من المغرمين بالنّبش في التّراث، فقد استوقفتني بعض الإشارات المنبئة بمدى تخلّفنا عن أجدادنا، والحال أنّنا «سلفيّون» في كلّ شيء تقريباً... عدا فعل الخير والحضّ عليه!
وتتعدّد الأمثلة الدالّة على عُلوّ همّة من سبقونا في تحبيسهم الأموال والعقارات على المدارس والمستشفيات ودُور الرعاية والمكتبات وسائر أوجه النفع الإنساني، ومن ذلك ما ذكره ابن بطّوطة في رحلته حول «وقف الزَّبَادِي» في دمشق، وهو مكان فيه أواني موقوفة، بحيث إذا كسر خادمٌ أو طفل آنية وخاف العقوبة، قصد إلى ذلك المكان وسلّم الآنية المكسورة وتسلّم بدلها صحيحة... وقد علمتُ أنّ في فاس وقفاً مثل هذا الوقف، وكذلك في تونس! ويُضيف ابن بطّوطة: «وفي تونس وقفٌ لتزويج الشابّات الفقيرات، وآخر لختان الأولاد الفُقراء وإعطائهم كُسوة ودراهم، وثالثٌ لتوزيع الحلوى على المُحتاجين في شهر رمضان»!
ومن طرائف الوقف تحبيس الأموال على إيواء الحيوانات الشاردة ورعايتها على غرار «بيت القطط»، وقد كان إلى عهد قريب في سوق «ساروجة» بدمشق، وكان فيه ما يزيد على أربع مائة قطّة من الفارهات السِّمان! ووقفٌ في مدينة فاس على طير نادرٍ يأتي في موسم معيَّن، حبّس له بعض الخيِّرين ما يُعينه على البقاء ويُسهِّل عيشه في تلك المدَّة من الزّمن ! 
أمّا أغرب الأوقاف، فهي وقف «مُؤنس المرضى» الذي يُنفق منه على مُغنّين من كلّ رخيم الصّوت حَسَن الأداء، فيُنشدون القصائد طوال اللّيل تخفيفاً عن المريض الذي ليس له من يخفّف عنه... ولا يفوقه غرابة إلاّ وقف «خداع المريض»! نعم، وقفٌ للكذب، ولكنّه كذبٌ أبيضُ كوجه مُنشئه، وفيه وظيفة تكليف شخصين ذوا هيئة ولباس حسن يقفان قريبًا من المريض بحيث يسمعهما ولا يراهما، فيقول أحدهما لصاحبه: ماذا قال الطّبيب عن هذا المريض؟ فيردّ الآخر: سمعته يقول إنّه لا بأس، إنّه مرجوّ البُرء، ولا يُوجد في علّته ما يشغل البال، وربّما ينهض من فراش مرضه بعد يومين أو ثلاثة! 
كان هذا في مستشفى الأميرة المراديّة عزيزة عُثمانة، وقد حبّست جميع ثروتها على «المارستان» أي المستشفى الذي لا يزال يحمل اسمها إلى اليوم وإن تحوّل مكانه من نهج العزّافين إلى القصبة!
لا أطمع أن يكون لنا اليوم مثل «عزيزة عُثمانة»، فهذا يبدو كبيضة الدّيك مع تقلّب الأزمان وتحجّر القلوب وتكلّس الأذهان عند مُترفينا، ولكن ليكن عندنا على الأقلّ شجاعة الشيخ العلايلي في صرخته: فيا أيّها الضّارعون المعذّبون في الأرض، طالبوا بالفم الصّارخ بحقّكم، فأنتم شُركاء فيه!