في العمق

بقلم
الهادي بريك
هل تعجلت الشعوب ثورتها أم هل تنضجت شروط الحكم الديمقراطي؟

 ذلك هو السؤال الذي هو حقيق بالطرح سيما من بعد الضربة المؤلمة التي تلقتها الثورة المصرية ( ثورة 25 يناير ). صحيح أن الحالة المصرية حالة متفردة في العالمين العربي والإسلامي فرادة كبيرة وهي فرادة تتميز عن فرادات عربية وإسلامية أخرى مهمة من مثل الحالات السعودية والتركية والإيرانية. ولكن الأصح من ذلك هو أن الحادث المروري الشنيع الذي تعرضت له الثورة المصرية لن تقف تداعياته العكسية على الحدود المتاخمة للعدو الإسرائيلي الغاصب. بكلمة واحدة نختم بها إستطرادا يكاد يلتهم الموضوع فإنه لا بد من إفراد  الحالة المصرية بكلمات في هذه العجالة. 

منشأ السؤال أمور كثيرة منها أن الحالة الثورية العربية تراوح مكانها من بعد تقحمات بالغة في البداية فكان حالها حال ملاكم بنى إستراتيجيته الهجومية على أساس مباغتة خصمه فوق الحلبة بلكمات قوية سريعة ومتتالية لعله يظفر منه بالضربة القاضية أو بما ييسر له الفوز بالنقاط عليه إحتسابا في آخر الجولات المفروضة. ما سقط الخصم ـ خصم الثورة ـ لا بالضربة القاضية ولا حتى هو مرشح للسقوط بالنقاط في آخر الجولات المفترضة في هذه المرحلة التاريخية الجديدة التي تعيشها الأمة. ما سقط الخصم ـ خصم الثورة ـ ولكنه أبدى قوة وهي قوة متعددة الجوانب ولا يضيرني البتة أن أقول أن من جوانب تلك القوة أنها قوة شعبية سيما في الحالة المصرية وليست تلك القوة منعدمة بالتمام والكمال في بقية الحالات الثورية بما فيها الحالة التونسية. القول هنا بأنها ذمم معروضة للبيع على قارعة الإفلاس القيمي ـ أي أنها أموال الخليج العربي وغيره تضخّ ـ هو قول مردود ولا يُردّ بسبب عدم صدقيته ولكن يُردّ بسبب عدم تغييره لإتجاه التحليل. بل إن إدخال هذا العنصر في التحليل يربك المشهد إرباكا مؤلما إذ هو يطرح السؤال الأخطر الذي يتجنبه الساسة : هل هي ثورة حقا أم هل ثارت العرب بالفعل أم هي توازنات شعبية لها جذورها التاريخية المعروفة ولكن حالت الثورة دون رؤية بقية مركبات الغابة لما حجبتها الأدخنة الثورية.؟
دعنا نتواضع على هذه وهو خير من التمادي في بناء آمال ترابية فوق بؤر مائية سرابية. دعنا نتواضع على أن القوة الخصيمة للثورة في أكثر مواطن الثورة ـ مصر أولا ثم اليمن وسوريا وليبيا وتونس ولا حديث عن الإرهاصة البحرينية  بسبب التلبّس الطائفي ـ نجحت في إستعادة جزء مهم من المشهد إذ تخلصت من الإقصاء يوما من بعد يوم وهي اليوم في حالة هجوم كاسح بل في حالة تهديد مباشر والحالة المصرية حالة صادقة. وبمثل ذلك مما أنف فإن إدخال عنصر التآمر الغربي هنا لا يزيد المشكلة إلا تعقيدا إذ أن التحليل عندها يذهب في إتجاه معاكس ومفاده أن ثورة ـ بمثل الحالة المصرية وفي الإتجاهين ـ تستجيب للتآمر الغربي فإن هي إلا ثورة تصدق عليها القالة الذهبية لمالك بن نبي : «القابلية لنفاذ التآمر. والقابلية داء ذاتي لا تنفع معه عقاقير ولا أمصال». 
دعنا كذلك نتواضع على أن ما يطلب منا في الساحات العامة شيء إذ بذلك تتغذى الحالة النفسية وهو شرط النصر الأول ولكن ما يطلب منا عند مباشرة التحليل العقلي الصارم هو شيء آخر فإذا إتحدت الخطابات هنا وهناك ـ بمثل ما يفعل كثير منا ـ فليس لك إلا أن تقول : تغوّلت العاطفة على العقل فإفترسته وهو أمر ينشأ في لحظات الإنفعال الضرورية للشحن النفسي والتأهيل الروحي ولكن الحصفاء يعدلون ذلك عند إقدامهم على نخل تجاربهم ومراجعة مواقفهم ومحاسبة أنفسهم. أما إلقاء التهم على الخصوم بجهوزية كبيرة فهو أمر يحسنه كل أحد.
فهل تعجلت الشعوب ثورتها؟
لا. قطعا. ما تعجلت الشعوب ثورتها والجواب نابع من حقيقة سننية سببية لا تقاوم وقوامها أن الجماعة لا تتجه وهي مجتمعة ولو بأغلبية لا إجماع فيها إلا إلى الخير السديد. تلك حقيقة من حقائق فقه الحياة لا يجادل فيها إلا سفيه أو رويبضة. ولكن السؤال الأخطر هو: هل ثارت الشعوب فعلا أم لا؟. هنا لا بد من تفصيل، أما سياسة البيع بالجملة فلا تصلح إلا في أسواق الجملة وأسواق التحليل السياسي ـ ومثلها أسواق الإستنباط العلمي ـ فلا تتحمل سياسات الجملة. أما في البلدان التي حسم فيها الأمر بالتدخل العسكري الخارجي ـ من مثل الحالة الليبية و قريبا منها الحالة السورية ـ فإن الثورة هناك ستظل مطاردة من لدن ذلك الغول حتى آخر رمق في حياتها. التذرّع هنا كذلك بأن التدخل العسكري الأجنبي كان ضرورة لا مجال له هنا في التحليل لأنه يخرج به عن إطاره. مهمة المحلل هي جمع المعطيات ورصدها وإعادة تركيبها والنظر في إتجاهها وليس مهمته تبرير أي شيء مما وقع أما مما لم يقع. وأما في البلدان الأخرى ـ سيما تونس ومصر واليمن ( وهل اليمن حالة ثورية أصلا بالنتيجة ) ـ فإن الثورة لم تكن خالصة بالتمام والكمال من التحولات الدولية وهذا يحسب لها ولا يحسب عليها ولكنها لم تكن كذلك خالصة بالتمام والكمال من قوى الردّة المستعصية منذ البداية وهي قوى ليست بالهينة لا عددا ولا عدة فإذا أضفنا إلى ذينك الأمرين أن الثورة لم يشارك فيها بالفعل سوى ما لا يزيد عن جزء من عشرين جزء وفي أحسن الأحوال من الثقل الشعبي بما فيه الثقل المؤيد لها من قبل أو من بعد .. إذا أعدنا تركيب ذلك المشهد الثوري فإنه آن لنا أن نتواضع سيما عند كتابة التحاليل وبناء الخطط. أما ما لا بدّ منه إعلاميا وشعبيا لشدّ أزر الثورة بالألسنة والأقلام والأعمال والتحركات فلا ينسحب عليه ذاك إذ الكلمة اليوم هي السلاح الأقوى فوق الأرض وهل الثورة إلا كلمة أطلقتها حناجر. المقصود الأسنى مما ذكر هنا هو أن الثورة ـ سيما في تونس ومصر أي عند تخلصها من سرطان التدخل العسكري الأجنبي ـ عوقت منذ البداية من جيش لجب وكثيف من الجموع المتربصة فوق الربى ولا يحسب للثورة إلتحاق تلك الجموع بها من بعد إنتصارها. وليس هناك ثوري ما بعد الثورة فالثوري هو ثوري ما قبل الثورة.
ولكن هل تنضجت شروط الحكم الديمقراطي؟
ذلك هو السؤال الأخطر حقا. ما تعجلت الشعوب ثورتها حتى لو كانت المشاركة الثورية دون المستوى المطلوب بكثير وكثير ولكن نضج شروط التحول في إتجاه الحكم الديمقراطي الرشيد إدارة وعدلا هو أمر محل ريبة كبيرة. السؤال الأخطر هنا يحيل على سؤال أخطر منه وقوامه : هل أن الإسلاميين الذين صعدوا فجأة بالثورة إلى أعلى مراكز التوجيه والقرار ـ ومن قبل ذلك لم يكونوا سوى محل مطاردات شنيعة ومحاصرات أضنك ـ أحسنوا إستثمار الثورة في إتجاه أهداف الثورة وأكبرها على الإطلاق ودون منازع هو لم الشمل الشعبي ولعق الجراحات الإجتماعية الغائرة وتوحيد الصف الوطني أم تنكبوا ذلك. دعنا نغامر بأنهم فعلوا ذلك وزيادة. فهل يكفي ذلك لذلك. طبعا لا. هناك أمر آخر لا بد منه قطعا لتأمين الصف الداخلي وقوامه هذا السؤال الكبير : هل أدرك الإسلاميون أن التوازنات الدولية القائمة قبل الثورة وبعد الثورة لم تطرأ عليها تحولات معتبرة في إتجاه أطروحتهم الإسلامية ـ ولا حتى الوطنية ـ وذلك بما يجعلهم يتصرفون في بلدانهم بمنطق الفوز الإنتخابي الديمقراطي فحسب؟. لعل الرّاصد الثّاقب هنا لا يعدمه أن يجتبي ملاحظتين : أولهما أن الخطاب الإسلامي كان في أشد ذروات الإعتدال في الجملة إلا مما لا بد منه لتنزيه الإنسان عن العصمة المكذوبة ولكن الملاحظة الثانية هي أن تجسير ذلك الخطاب المعتدل في إتجاه كسب أو تحييد الشاهد الدولي المتوثّب والمندهش لم يكن في مستوى اللحظة الثورية. ذلك الإنشداد الأزلي إلى تلك المعادلة التي لا يبدو أنها مقنعة هو الذي يحول دوما دون ترتيب البيت الداخلي في ضوء التوازنات الخارجية الدولية سيما أن إمتداداتها الداخلية هي إمتدادات قوية ومكينة. تلك المعادلة التي ظلت قوة جذب نحو الخلف ليست هي سوى أن الإسلام ليس مبدأ عقديا فحسب بل هو أصلا حالة من التوافق مع المحيط على نحو لا يكون فيه الإسلام دبابة تدك الذي أمامها ولكن قافلة خير تحضن المحيط حتى لو كان المحيط نفسه يخاصمها. عندما يظل الإسلام مبدأ فكريا عقديا لا يفكر أهله إلا في تطبيقه فإن السنن المودعة في كون الله الفسيح هي التي تقاوم ذلك واقفة إلى جانب مقاومي الإسلام أنفسهم. أما عندما يكون الإسلام مبدأ عقديا من جهة وتجربة تاريخية من جهة أخرى وواقعا ملموسا متعدد الأبعاد ومختلف التضاريس ومشتت التوازنات فإن أهله يكونون جديرين به. ألسنا بحاجة إلى هذه القاعدة في فقه الحياة : «قل هو من عند أنفسكم»؟. أم أنها قاعدة ودعناها مع وداعنا لحقبات الإبتلاء بالعسر. ألسنا جديرين بطلب فقه إسمه فقه الإمتحان باليسر؟ أم أن اليسر جنّة لا إختبار فيها.
مقاربتي للسؤال الخطير المطروح هي أن شروط التحوّل الديمقراطي لم تنضج بعد في بلداننا بما فيها الثورية. وليس معنى ذلك الكفر بالديمقراطية على أنها مادة كفرية ولا هي غير مؤهلة لإدارة الحكم بطريقة أدنى إلى مقاصد الإسلام ولكن معنى ذلك هو أن الإستئثار بالحكم والإدارة لا صلة له بالتحول الديمقراطي حتى لو قال الشعب كلمته بنسبة مائة بالمائة لفائدة تيار إسلامي محدّد. التوازنات الجديدة لا تلغي القديمة بجرة قلم. تلك هي قاعدة فقه الحياة الذهبية. الإسلام شيء ونحن شيء آخر. تلك هي قاعدة فقه الحياة الفضية. الشاهد الدولي له دوره فينا سنة مسنونة تلك هي قاعدة فقه الحياة البرنزية.
مقاربتي للسؤال الخطير المطروح هي أن الإسلاميين ـ حتى في الحالة التونسية التي هي الأرشد فيما أظن ـ ظنوا خطأ أن الثورة كانت ثورة شعبية خالصة وبريئة من رواسب عقود كالحة من الحكم الفردي الغاشم. تلك الرواسب النفسية جديرة بالقراءة حتى في نفوس الثوريين أنفسهم. ظن الإسلاميون خطأ أن قوى الردة ضد الثورة حفنة صغيرة أو شرذمة قليلة وإذا كانوا كذلك بالحجم الكمي فإن الخطأ الأكبر هو الغفلة عن إرتباطاتهم الغربية ومعنى ذلك هو الغفلة عن الشاهد الدولي وتأثيراته. ظن الإسلاميون خطأ أن الشرعية الثورة كافية أو أن الشرعية الإنتخابية كافية أو أن الشرعية الدينية كافية. تلك شرعيات دون ريب ولكن تكافلها هو الكافي بل تكافلها هو أيضا ليس بكاف. هناك شرعية أخرى مهمة لم تأخذ طريقها إلى الحياة السياسية وهي الشرعية الوطنية أي شرعية التراب وشرعية الحياة وشرعية المشاركة بل دعني أقول : شرعية الآدمية.
لماذا إنفجرت الحالة المصرية فحسب؟
ذلك هو كذلك سؤال مهم جدا وخطير جدا. دعني أقول الذي يدور بخاطري وليرض الذي يرضى وليسخط الذي يسخط. لو كان فينا ذرة من عقل حصيف ما كان ينبغي للإسلاميين ـ سيما الإخوان بالتحديد ـ أن يقفزوا إلى السلطة بل إلى رأس السلطة مباشرة في ظل أمرين خطيرين جدا : أولهما أن مصر ليست تونس ولا أي بلد عربي أو إسلامي وذلك لسبب بسيط واضح جلي وهو أنها بوابة العدو الإسرائيلي الغاصب ومخبر المؤامرات الصهيونية الأمريكية الصليبية ومنذ عقود طويلات وهي منشأ الردة القومية الكبرى أي إسطبل داوود عام 1978. سقوط مصر في أيدي المشروع الإسلامي وخاصة على أيدي الإخوان بالتحديد هو بمثابة أن تعمد إلى إفتكاك جراء كلبة من أمها وهي في عرينها. هل تعرف ما يحدث لك؟. تمزق إربا إربا. ليست مصر سوى عرينا للقوى المعادية للإسلام وهي قوى مكينة ومسيطرة. ثاني الأمرين هو صعود رئيس إخواني غير مسنود بدستور يبين صلاحياته وهو في الأغلب خطأ مقصود من أعداء الثورة في مصر. وأخطاء أخرى جانبية صغيرة. لست في حاجة إلى القول بأن مساندة الشرعية في مصر فريضة إسلامية وواجب وطني وهدف ثوري لا ينجى منه حر فوق الأرض حتى يؤديه قدر المستطاع. ذلك شيء ولكن تحليل الأمور شيء آخر. 
من كان يظن أن الضربة القاضية المؤلمة الموجعة والمفاجئة التي سددها الرئيس مرسي لحاكم مصر بالوكالة عن القوى المعادية للإسلام أي الجنرال طنطاوي .. من كان يظن أن تلك الضربة كانت ستبتلعها تلك القوى المعادية وهي قوية ومكينة وبروح رياضية دون أن تتحين الفرصة لثأرها .. من كان يظن ذلك فالأقمن له أن يترك السياسة ويشتغل في حقول أخرى كثيرة.
بعض خلاصات التحليل.
الخلاصة الأولى هي أن ما جرى ليس ثورة ولكنها إرهاصات لثورة إسلامية قادمة في العقود القابلة إن شاء الله تعالى. أجل. القادم هو ثورة إسلامية خالصة قحّة وليست ثورة يشارك فيها أعداء الإسلام من أجل الإجهاز عليها في أول فرصة. ولا بد لتلك الثورة المنشودة أن يرهص لها بما يجري اليوم. وصف الثورة هنا ليس وصفا طائفيا ولكنه وصف منهاجي مقاصدي قوامه أن الثورة الإسلامية هي ثورة وطنية أو لا تكون ومن شروط الوطنية تأبيها عن أي دعم عسكري خارجي مهما كان الثمن فادحا.
الخلاصة الثانية هي أن الإسلاميين بحاجة إلى تطوير أجهزتهم الفقهية والأصولية فيما يتعلق بالحكم والدولة والمشاركة والإدارة والعلاقات الخارجية سيما عند عدم تجانس التوازنات الدولية. التطوير المقصود نظري من جهة ولكنه عملي من جهة أخرى ولعل جوانبه العملية لها اليوم مساحة واسعة بسبب نجاحاتهم الإنتخابية. ما دامت تلك الأجهزة تقليدية لا تتجاوز تطبيق الشريعة والخلافة وإعلانات أخرى ظاهرها الحق وباطنها الجهل والغرور معا فإن السنن تأبى ـ والله واضعها ـ قبول ناشز عليها. 
الخلاصة الثالثة هي أن الزمن لم ينضج بعد لإعلان المشروع الإسلامي تطبيقا وتنفيذا بل لم يحن الوقت حتى لإعلان المشروع الديمقراطي تطبيقا  وتنفيذا فما بالك بالمشروع الإسلامي. ذلك يعني أن التدرج هو المخلص من ورطات مثل الورطة المصرية وأن البديل هو إعلان المشروع الوطني لا الإسلامي وهو إعلان المشروع التوافقي لا الديقمراطي.بل إن إعلان المشروع الوحدوي مهما يكن محدودا لم يحن زمانه بعد والبديل هو إعلان المشروع الوحدوي المحلي الوطني. 
كلمة أخيرة : عقارب الساعة لا تدور إلى الوراء كما يقولون بحق ولكن عندما تتعطل الساعة عن التقدم لا بأس من إقتطاع زمن كاف لإعادة إصلاحها. الزمن لا يتوقف ولكن الساعة تتوقف فهلا أوقفنا ساعتنا لإعادة تعديلها بحسب ما تبين لي من خلاصات وحصائل؟ وعندما تتعرض الثورة إلى حادث خطير مثل الحادث المصري فإن على بقية العربات المجرورة أن تتريث لئلا تصطدم بالتي تتصل بها قبالة أو من خلف.