الادب الهادف

بقلم
بن هشّوم الغالي
الحقول الدلالية في قصيدة "المهرولون" لنزار قباني

 يمكن أن ننظر إلى تجربة نــــزار قبانــــــي من خــــلال منظورين وكل منظور يختزل تجربة وطابعا معينين؛ الأول  يتميّز بشعر الغزل أو المرأة والثاني بالأعمال السياسية. وإذا كان الشعر يرسم صورة الشاعر في شتى مجالات واقعه، فإن نزار موجود في شعره بشكل إلزامي  وجبري. فهو محتجز داخل كلماته وحروف قصائده، وما شعره هذا إلا مرآة تعكس الرواسب العالقة بنفسيته إثر اصطدامه بالواقع، هذا الأخير  الذي يعتبر بمثابة الخليّة  الحيّة التي تغذّي بقية الخلايا  الأخرى، بمعنى أن الشاعر يستمدّ صوره الشعريـــــة ولوحاتــــه الفنيــــة من الواقع ثم يعمل على صهرها في فرنه الداخلي قبل أن تخرج في حلّة جديدة.

 
الحقل الطبيعي 
 
يصرّح نــــزار بغياب الطبيعة كموضوع قائم بذاتــــه في شعره إذ يقول " إن الطبيعة كعالم منفصل لم تلعب في شعري دورا هاما كان الإنسان أهم منها وأقوى حضورا، صحيح أنني كتبت عن النجوم والغيوم ...لكنني كنت دائما أربطها بعلاقات إنسانية ما..."(1).  إلا أن ذلك لم يمنعه من توظيف معجم  طبيعي في قصيدته، ولا غرو إذا ألفنا نزوع شاعرنا  نحو الطبيعة، فقد اصطدم بالجمال  منذ صغره، حيث شبّ في بيت ينعم بفتنة الطبيعة الخلاب وفيه من مناظر ما يبعث على ارتياح النفس وهدوئها، وقد تركت  الطبيعة بصماتها الواضحة على شعره، حيث أحبّ الجمــــــال الطبيعــــي وافتتن به حتى أصبح يضفي على مظاهر الطبيعة الجامدة صوره الفنية  الشعرية، فأصبحت متجسدة في كائنات حية تفيض حياة وحركة وحيويـــــة. وقد حضرت الطبيعــــــة فـــــي قصيــــدة "المهرولون" متخذة أشكــــالا وصــــورا مختلفـــة. فقد وظف نزار بعض مظاهــــر الطبيعــــــة الجميلــــة في معاني مأسوية وذلك في أكثر من موضع ( الليمون-المشمش- النعناع). هذه المعطيات الجميلة  التي استحالت إلى رموز  التصقت بالهوية الفلسطينية، وظفها نزار في وضعية مستلبة مغتصبة،  وباغتصابها تم اغتصاب جانب مهم من التراث  الفلسطيني لأنها تعايشـــت مع الإنسان الفلسطيني حتى صارت جزءا من ماضيه وحاضره وملامحه.
أثناء توظيفه لمعطيات مثل (سلام أخضر- هلال أبيض –بحر أزرق-قلوع مرسلة –مزبلة)، يرسم لنا نزار صورة جميلة يبتدئها بالسلام الأخضر الذي اكتسب خضرته من طبيعة الأرض الفتية، والهلال الأبيض الذي ينير الأرض ويكسوها بهاء وأملا ، وبحرا أزرقا صافيا هادئا لا موج فيه ولا عواصف لأن البحر الغاضب  يفقــــد جماله ليستحيل إلى مبعــــث للرعب، أما بحر نزار الأزرق فهو متمم للصورة الآمنة التي يحاول الشاعر رسمها ويدعنا نسترسل معه في حلمه الجميل خطوة خطوة ليوقفنا في النهاية على مشهد نقيض  لما وصفه (المزبلة)، وهو في هذه المرّة أيضا يستدعي صورا من الطبيعة الجميلة ليوصلنا إلى أخرى مأساوية. وكان حضور الطبيعة في القصيدة متداخلا مع مشاهد إنسانية ( أمواج المحيط- الطائر المذبوح) وقد اتخذت شكلا مؤثرا  في هذا المعنى لأن الشاعر  لم يستطع التعبير  عن حجم  المصيبة  في نفسه إلا في شكل  طائر يذبح  وفي هذا المشهد الأليم تخدش مشاعر شاعرنا  الرقيقة التي عشقت العصافير بجنون. وبتتبعنا للمعجم الطبيعي في القصيدة نجده مكثف الحضور إلا أنه مأساوي وحزين (أغنام –بصلة –حبة قمح –كلاب-سراب –خردلة -ضفادع –أزهار).فكل هذه المعطيات سلبية، فالأغنام استسلام وعجز، والبصلة دونية، وحبة القمح ضياع الحقوق المستحقة، وكل ما يليها من كلمات توحي بدلالات تبين حجم الضياع الذي يعيشه العرب عامة والإنسان الفلسطيني بشكل خاص.
إن اصطدام الشاعر بواقعه لم يتح له الفرصة لتلمس مواطن الجمال؛ وذلك لأن شاعر العصافير والأزهار وعناقيد النجوم والأقمار القرمزية والزعتر والغابات البرية فتــــح عينيــــه فجأة على المزبلة إلى جانب القمر الأبيض، واستمر في بحثه داخل الطبيعة عن مظاهر الضعف والحقارة ليشحن بها ضعف الموقف العربي وهزالته. 
 
الحقل الإنساني:
 
إن قيمة الشعر تكمن في قدرته على إحداث ارتجاج في قشرة الكرة الأرضية وإحداث تغييرات في خريطة الدنيا وخريطة الإنسان، والشعر النزاري لا يخلو من محاولة إحداث خلخلة في نظام الأشياء، حيث كرس نزار النصف الثاني من حياته الشعرية لخدمة الإنسان، لهذا  نجد شعره حافلا بالإرهاصات لثورة اجتماعية عامة تتخللها مواقف إنسانية يقول :( إنني في شعري أحمل جنسيات العالم كلها وأنتمي لدولة واحدة هي دولة الإنسان ، هذا هو انتمائي الأساسي والوحيد)(2)
والاتجاه الإنسانــــي في قصيــــدة نزار جلي المعالم لأنه أراد عبره أن يوصل الصـــــراخ الإنسانــــي المبحوح وينفذ الصيحة الضائعة في كهوف نفسه إلى من يأبى الإنصات .
فالقصيـــــدة من هـــــذا المنطلق تتشكـــــل مفاصلهـــــا الأساسية من كل ما هو إنساني بالدرجة الأولى، وهكذا نجد الحضور القوي لهذا الحقل ســــــواء على المعجم أو على مستوى الدلالـــة، هذا المعجم الذي تعدى الإشارات والتلميحات إلى تصريح صارخ ذلك أن الشاعر عزز حضور الشاعر المعنوي بحضوره المادي،  فقد وظف الإنسان روحا وجسدا وصفات، كل ذلك لخدمة قضيته الأساسية، فهذا الإنسان(عروق-دماء –يد- جسد- عظام – أصبع- مدامع) الذي فقد حياءه  وكبرياءه وعذريته لم يعد يصلح إلا للاستسلام أمام القتلة، وحضور الإنسان في القصيدة يتفرع إلى ثلاثة اتجاهات : هناك الإنسان العربي المهزوم من جهة والإنســـــان العــــربي الذي يحاول أن يغير وضعيته دون جــــدوى، وهم القــــادة أوليـــــاء أمور العرب وعلى الطرف النقيض يقف الإنسان /العدو وهم إسرائيل وأمريكا، ويضــــاف إلى كـــــل شخصيـــات القصيدة الذين يعيشون داخلها ويتصارعون الإنسان/الشاعر، فالأول يعيش فترة انتظار منذ خمسين سنة منذ دخول اليهود إلى فلسطين بمقتضى معاهدة  "كمب ديفد" يعيش القهر والتمرد والحرمان في انتظار حل لإنقاذه ، والثاني يعجز عن إيجاد الحل رغم أنه يتحمل مسؤولية البحث عنــــــه وتحقيقـــــه ، الأمر الذي يجعله عاجزا عن فرض آرائه مكتفيا بالوعود الكاذبة وبالركض وراء السراب التاوي داخل معاهدات الســـــــلام ، أما الثالث  فهو المستفيد الوحيد من هذه العلاقة الثلاثية  باستمراره في ممارسة عملية الاستبداد والظلم والاستهـــــــزاء، كل هذا الوضع يهزّ الشاعر، يغضبه إلى درجة الثورة، فينفث دخان صدره المحترق في وجه الكل ، يصور حالة الانهزام التي يعيشها الشعب العربي ، تصويرا مخجلا . 
 
الحقل التاريخي:
 
كان للأحداث التاريخية أثر بالغ الأهمية على الصورة النزارية حيث تأثر بكل الأحداث التاريخية التي أشعلت المنطقة العربية فولد لديه هذا التأثر انفجارا شعريا. يقول نزار" إنني أشعر أحيانا أن البشرية كلها والتاريخ بكــــل امتــــداده الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي، وكذلك الأحياء والأموات يشتركون في كتابة قصائدي"(3).    
الأمر الذي يبدو جليا في استدعائه للهزائم التي لحقت الأمة العربية منذ بدئ المد الإسلامي يتراجع من أوروبا:
 
سقطت غرناطة
للمرة الخمسين .. من أيدى العرب
سقط التاريخ من أيدى العرب
سقطت أعمدة الروح وأفخاذ القبيلة
سقطت كل مواويل البطولة
سقطت أشبيليا.
سقطت انطاكية
سقطت حطين من غير قتال
سقطت عمورية.
 
وهو بتأكيد فعل السقوط الذي اعترى طريق العرب، وتجذّر بسقوط المدينة تلو الأخرى يؤكد على التراجع  الذي عرفته الأمة العربيــــــة، ولم تستطع الخــــروج من دائرته منذ ذلك الحين، فمازالت أراضيها تتهاوى يوما بعد يوم وتتهاوى معها الديانة الإسلامية والشيم النبيلة .
 
 
 
الحقل السياسي
 
تأثر نزار بأحداث فلسطيـــن إثر هزيمة حزيــــران 1967 (جوان)تأثرا أشعل في كيانه نيرانا أحرقته وأحرقت شعره فانطلق من قلب الرماد ثائرا على الأدباء والأدب يقول " أين المفكرون الشهــــداء في العالم العــــــــربي ، أين هـــم المشنوقون على حبال كلماتهــــم أين اللابسون أكفانهم بانتظار سيف الذابـــــح؟ من منا استشهـــــد على بياض ورقة؟.....سقط على بياض ورقة ....على طريقة الحلاج أو سقراط أو لوركا؟."(4)  
وفي غمرة ثورته هذه،  أدان التقسيمات التي تعرضت لها الأراضي الفلسطينية ورفضها بقوة واعتبرها مهزلة بواسطة التشبيهـــات التي شبهها بها ، فقد أطلق على غزة " علبة سردين" لضيق مساحتها، وعلى أريحا" عظمة يابســــة"، ثم استمر في طعنـــــه في معاهدة أوسلو ونتائجهـــــا والمشاركيــــــــن فيها والواثقيـــــن في وعودها...
 
بعد هذا الغزل السري في أوسلو
خرجنا عاقرين
وهبونا وطنا أصغر من حبة قمح
وطنا نبلعه من غير ماء
كحبوب الأسبرين !!...
 
وفي طعنه هذا يرفض ذلك الصلح المفروض شكلا ومضمونا ويرفض حتى المشاركة فيه لأنه لا يجدي شيئــــا .ويطرح بديـــلا عن الصلح ثورة شعبية شاملة ومدمرة تغير كل المفاهيـــــم وكأنه كان يتوقع ثورة الياسمين قادمة:
 
ما تفيد الهرولة؟
ما تفيد الهرولة؟
عندما يبقى ضمير الشعب حيا
كفتيل قنبلة
 
إلى جانب هذه الحقول التي طغت في القصيدة التي اعتمدهـــا نزار في بناء شاعريته (الطبيعي والإنساني والتاريخي والسياسي) تحضر مفاهيم أخرى تؤثث  فضاء القصيدة وتظهر كاللمحات الخاطفة ، ومنها حضور الرمز الديني في مقاطع متباعدة (مريم –الرمز السماوي-عيسى بن مريم-قناديل الجوامع)، وما توظيفه للرمز الديني إلا لأنه فقد الثقة في العنصر العربي والأمل معقـــود على عودة المسيح ليخلص الأمة؛ بل إن الأمل عاد مع صرخة البوعزيزي.
 
الهوامش
 
(1) قصتي مع الشعر  نزار قباني ، منشورات نزار قباني ، ط1، بيروت 1981،ص220.
(2) المرجع نفسه ص 98-99.
(3) المرجع نفسه ص 189.
(4) المرجع نفسه ص 231 .