الادب الهادف

بقلم
بن هشّوم الغالي
"المهرولون" قراءة في التشاكل العجمي

 المهرولون " القصيدة القنبلة التي فجرها نزار قباني في وجه القادة العرب موقّعي معاهدة الذل والعار ”أوسلو“ مع إسرائيل بإشراف الولايات المتحدة الأمريكية،  مازالت إلى يومنا هذا تثير نقاشا وجدالا كبيرين في الساحة السياسية والفكرية.

وبعيدا عن الخوض في الظروف السياسية والتاريخية التي أفرزت هذه القصيدة، أودّ في هذه الدراسة التركيز على تفكيكها في أحد الجوانب المهمة منها وأقصد هنا المستوى المعجمي الزاخر بالمعاني والرموز، دون الوقوف على مستويات أخرى لأن المقام لا يسمح بذلك.  
حوت  القصيدة ثلاثة مقاطع كبرى تصب جميعها في معاني موحدة  خفية وتتضمن كل من هذه الوحدات الثلاث مجموعة الدلالات الجزئيّة الخفيّة الحاضرة في المقاطع الصغرى التي تتضمنها كل وحدة . 
المقطع الأول:
سقطت آخر جدران الحياء
وفرحنا..
ورقصنا..
وتباركنا بتوقيع سلام الجبناء
لم يعد يرعبنا شىء
ولا يخجلنا شىء
فقد يبست فينا عروق الكبرياء..
سقطت..
للمرة الخمسين .. عذريتنا
دون أن نهتز.. أو نصرخ
أو يرعبنا مرأى الدماء
ودخلنا فى زمان الهرولة
ووقفنا بالطوابير كأغنام أمام المقصلة
وركضنا .. ولهثنا..
وتسابقنا لتقبيل حذاء .. القتلة
جوعوا أطفالنا خمسين عاما
ورموا فى آخر الصوم الينا
بصلة...
سقطت غرناطة
للمرة الخمسين .. من أيدى العرب
سقط التاريخ من أيدى العرب
سقطت أعمدة الروح وأفخاذ القبيلة
سقطت كل مواويل البطولة
سقطت أشبيليا..
سقطت انطاكية
سقطت حطين من غير قتال
سقطت عمورية
سقطت مريم فى أيدى الميليشيات
فما من رجل ينقذ الرمز السماوى
ولا ثم رجولة....
سقطت آخر محظياتنا
فى يد الروم، فعن ماذا ندافع؟
لم يعد فى قصرنا جارية واحدة
تصنع القهوة .. والجنس
فعن ماذا ندافع ؟؟
لم يعد فى يدنا..
أندلس واحدة نملكها
سرقوا الأبواب
والحيطان
الوجات .. والأولاد..
والزيتون والزيت
وأحجار الشوارع
سرقوا عيسى بن مريم
وهو مازال رضيعا
سرقوا ذاكرة الليمون
والمشمش.. والنعناع منا
وقناديل الجوامع..
بعد إحصائنا للأصوات الغالبة في هذا المقطع وتجميعها ، استخلصنا جملة يصب مدلولها في نفس المعنى العام للقصيدة . والجملة المحورية تختصر دلالات جزئية كثيرة ، سنحاول التطرق إليها خلال تحليلنا .
 إن جملة (بيعة سلام الورق) تختزن دلالات وإيحاءات تتوالد وتتنامى  أكثر كلما فككنا كل كلمة على حدة  فالبيعة ولاء و في الولاء طاعة وموافقة  وفي الطاعة استسلام وخضوع وعدم إبداء رأي ، وفي (سلام الورق) معاهدة سلم ظلت حبرا على ورق ، أي مشروع سلام غير مطبق وغير قابل للتنفيد ، قد لا يتعدى وعدا مكتوبا  لا غير، وعندما نقوم بتجميع كل هذه الدلالات تتضح لنا الرؤية أكثر خاصة حين نكشف عن أطراف هذه البيعة وهذا السلام ، فأطراف المعاهدة هم العرب من جهة، و أعداؤهم من جهة أخرى (إسرائيل وأمريكا)، والطرف السلبي في هذه العلاقة هم العرب أي هم الذين  يقدمون البيعة والولاء هم المستسلمون لا لشيء غير سلم لا يتتعدى قيمة الحبر الذي كتب به، الشيىء الذي يبرز بوضوح الاهتزاز الذي يعتري  آراء العرب  ويكشف عن قراراتهم الهشة وغير الحاسمة التي تظل مجرد مخططات مخزونة في أدراج المكاتب دون أن تحقق للإنسان العربي أدنى فائدة ، ودون أن تغير من واقعهم الذي يتأزم يوما بعد يوم ، هذه الوضعية التي تجعل العرب يرزحون تحت ثقل الهزيمة والاستسلام ، أمام قلة حيلتهم  للمواجهة ، الأمر الذي يفسر موت   كبرياءهم وهم أهل الشجاعة وأرباب الأنفة في تاريخهم الطويل ، وهم هنا في هذا الموقف أي حين تفرغ ملامحهم من مدلولاتها على اعتبار أن الشجاعة والكبرياء والأنفة تكاد تكون جزءا من ملامحهم كسمرة بشرتهم و)لون عيونهم –يصير العرب بمثابة الأحياء /الأموات الذين لم يعد يؤثر فيهم شيىء بفقدانهم القدرة على الإحساس بالألم من كثرة ما تألموا وبموتهم هذا ماتت فيهم الرغبة في المقاومة ، ماتت فيهم العزيمة والضمير والحمية ، وصارت كلماتهم أصداء فارغة، أقوالا بدون أفعال،  هذا الموقف الانهزامي الاستسلامي أفقدهم أعز ما يملكون ، أوطانهم وشرفهم وجعلهم يعيشون حالة من الجمود هي أشبه بالنوم ، والنوم والموت سيان، أمران يتقاطعان  في كونهما يجعلان المصاب بهما يتوقف عن كل نشاط في الحياة، الأمر الذي ينسحب على الإنسان العربي، إلا أن هذا الأخير أقرب إلى النوم منه إلى الموت لسبب واحد هو قدرته على الحلم ، فالإنسان العربي يعيش فترة السلم أو الاستسلام والعجز، قانعا بالأحلام البعيدة التي لن تتحقق،  ونومه هذا جعله يتخلف عن ركبه الحضارة الإنسانية الحديثة ويتقوقع داخل مشاكله اليومية دون أخد المبادرة نحو خطوات أكثر جرأة ، هذا الموقف السكوني الذي يعيشه العرب يتضمن استسلاما ضمنيا لأعدائهم، يكبر شيئا فشيئا حتى يصل إلى درجة فقدان الإرادة وعدم القدرة على العصيان، فالعرب خضعوا الخضوع التام للقتلة –لإسرائيل وأمريكا- واستسلموا لأرائهم وخافوا بطشهم فظلوا راكعين أمامهم منذ أن سقطت الدول العربية تحت وطأة الاستعمار الغاشم.
وفي غمرة التخلص من دلالة إلى أخرى، نصل إلى مفهوم حاضر بقوة في النص وهو مفهوم اليتم الذي يرتبط دائما بضياع الأب أو الأم  والأب الضائع هنا هو الماضي ، والتراث بل التاريخ العربي ككل، والأم الضائعة هي الأرض المسلوبة ، الأماكن المقدسة التي تراق فيها دماء أبنائها كل لحظة،  أمام هذا اليتم المزدوج تشتعل نار في داخل كل إنسان عربي؛ نار الحزن ، والحسرة  على واقع يتأزم يوما بعد يوم وهوية تنحدر نحو الأسفل بشكل تدريجي ، فبعد سقوط الحضارة والماضي والكبرياء يسقط أخيرا الحق في التعبير عن الرأي  وتسقط القدرة على الرفض ، وبسقوط الرأي  تضيع كل معاني الحرية ويصبح الإنسان العربي مسلوب الحق في الوطن مطالب بالنزوح عن أرضه، الأمر الذي يجر خلفه أذيال التشرد والضياع لفقدان الأرض وفقدان الحق في الحياة تبعا لذلك ، الأمر الذي يعادل الموت الحقيقي، لمرارته وصوت الناعي الذي ينقل أصداءه دون أن يستطيع تقديم العزاء، في الموقف العربي الرسمي.
المقطع الثاني
تركوا علبة سردين بأيدينا
تسمى (غزة)...
عظمة يابسة تدعى (أريحا)..
فندقا يدعى فلسطين
بلا سقف ولا أعمدة
تركونا جسدا دون عظام
ويدا دون أصابع
لم يعد ثمة أطلال لكى نبكى عليها
كيف .. تبكى أمة
أخذوا منها المدامع ؟؟
بعد هذا الغزل السرى فى أوسلو
خرجنا عاقرين
وهبونا وطنا أصغر من حبة قمح
وطنا نبلعه من غير ماء
كحبوب الأسبرين !!...
بعد خمسين سنة
نجلس الآن على الأرض الخراب
ما لنا مأوى .. كآلاف الكلاب !!
بعد خمسين سنة ..
ما وجدنا وطنا نسكنه
الا السراب.
ليس صلحا..
ذلك الصلح الذى أدخل كالخنجر فينا..
انه فعل اغتصاب !!...
ما تفيد الهرولة؟
ما تفيد الهرولة؟
عندما يبقى ضمير الشعب حيا
كفتيل قنبلة
كم حلمنا بسلام أخضر
وهلال أبيض
وبحر أزرق
وقلوع مرسلة
ووجدنا فجأة أنفسنا فى مزبلة!!
من ترى يسألهم
عن سلام الجبناء ؟؟
لا سلام الأقويا القادرين
من ترى يسألهم ؟
عن سلام البيع بالتقسيط
والتأجير بالتقسيط
والصفقات...
والتجار.. والمستثمرين؟
من ترى يسألهم؟
عن سلام الميتين..
أسكتوا الشارع
واغتالوا جميع الأسئلة..
وجميع السائلين..
الجملة المستخلصة من المقطع الثاني هي (وأد سلام العرب)، وهي تتكون من ثلاث كلمات : وفي كل كلمة مجموعة من الدلالات وإن كانت تلتقي مع الجملة السابقة في أغلب المعاني إلا أن الدلالات الجزئية  المهيمنة في المقاطع الصغرى تجعلنا نتجول في آفاق دلالية مغايرة.
الكلمة الأولى هي : الوأد وهي عبارة تختزن طريقة من طرق القتل المتعسف الظالم  والمغتصب للحق في الحياة، وهي أيضا نوع من التدمير الذي يعيشه العرب روحيا بتشريدهم من هويتهم وخلق قطيعة بينهم وبين تاريخهم وحضارتهم ، وماديا بتشريدهم من وطنهم واغتصاب حريتهم الأمر الذي يعد أكثر خطورة.
أما الكلمة الثانية فهي (سلام ) وهي تحمل عددا من الإيحاءات ففي السلام هدنة  وحقن للدماء ووعد بإيجاد الحل، وفيه نوع من الأمل و فيه كثير من الصلح ، إلا أن الصلح الذي تقدمه المعاهدة هو صلح شكلي لم يرق إلى مستوى تحقيق الأمل ، الذي ظل الإنسان العربي يناشده، فقد حلم دائما بنهاية  وبأمل سيشرق على أيامه السوداء فيجلي ظلامها، إلا أن حلمه لم يتحقق ، فبدل إعطائه الحق في الوطن وضعته معاهدة الصلح في المزبلة ، وجعلته يعيش الخراب في جميع أشكاله ، خرابا ماديا بتشريده من وطنه وخرابا معنويا يفجره الإحساس باللاجدوى ، والحزن وعدم الرضى عن هذا الواقع المر الذي لا يملك حياله سوى الدموع في غياب القدرة على التغيير ، إلا أنه رغم ذلك يملك الحق في السؤال، عن حقيقة الوعود ،  وهو السؤال البديهي الذي لم يطرح أبدا في كل عمليات السلام المشروطة.
-أين الحق العربي؟
وهو سؤال في حد ذاته يتحدى كل المخططات التي تتوقع باسم الأمة العربية دون إذن منها، وهو الأساس لأنه يعبر عن استنكار والاستنكار نوع من الرفض والرفض هو بداية الثورة التي هي أول درجة من درجات الحرية.
  والكلمة الثالثة هي (العرب) وتحيلنا إلى أمة متفككة أغلب أجزائها مستعمرة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا ، أمة عاجزة عن إيجاد الحل المناسب لقضاياها هي أمة عمياء فقدت القدرة على إبصار الأفق ، تعيش ظلاما يخيم على رؤيتها المستقبلية، وعلى الآراء والحلول التي تحتم عليها اتخاذها للخروج من النفق الذي تعيش فيه  وفي محاولتها للبحث عن المنقذ تتيه في سرداب الوعود الذي لا ينتهي فهي تعيش في حالة انتظار ليوم البرء المرتبط بالضرورة بحصول المرض في الحاضر  مدام الشفاء منتظرا في المستقبل فما هو مرض الأمة العربية وماهو شفاؤها.؟
إن مرض العرب المستعصي هو الحاجة إلى الوطن ، إلى الاستقرار، إلى الاستقلال ، وهم في غمرة بحثهم عن العلاج يجدون أمامهم من يقدم لهم الوصفة  دون أن يمدهم بالدواء، يعدهم  بوطن أصغر من حبة قمح ، وطن يبلعونه من غير ماء كحبوب الأسبرين.
المقطع الثالث 
وتزوجنا بلا حب
من الأنثى التى ذات يوم أكلت أولادنا
مضغت أكبادنا..
وأخذناها الى شهر العسل..
وسكرنا ... ورقصنا..
واستعدنا كل ما نحفظ من شعر الغزل
ثم أنجبنا - لسوء الحظ - أولادا معاقين
لهم شكل الضفادع
وتشردنا على أرصفة الحزن
فلا من بلد نحضنه
أو من ولد !!
لم يكن فى العرس رقص عربى
أو طعام عربى
أو غناء عربى
أو حياء عربى
فلقد غاب عن الزفة أولاد البلد.
لن تساوى كل توقيعات أوسلوا خردلة!!..
كان نصف المهر بالدولار
كان الخاتم الماسى بالدولار
كانت أجرة المأذون بالدولار
والكعكة كانت هبة من أمريكا..
وغطاء العرس والأزهار والشمع
وموسيقى المارينز...
كلها قد صنعت فى أمريكا ...
وانتهى العرس... ولم تحضر فلسطين الفرح
بل رأت صورتها مبثوثة عبر كل الأقنية
ورأت دمعتها تعبر أمواج المحيط..
نحو شيكاغو .. وجيرسى .. وميامى..
وهى مثل الطائر المذبوح تصرخ:
ليس هذا العرس عرسى..
ليس هذا الثوب ثوبى..
ليس هذا العار عارى..
أبدا... يا أمريكا...
أبدا ... يا أمريكا ...
 
تتكرر الجملة وتتغير بدايتها (نهاية سلام العرب) "النهاية"، هذه الكلمة التي تضع نقطة أمام كل ماهو مستقبلي وتقطع عليه الطريق إلا أنها رغم ذلك تقود إلى نية فعل سلبي هو الموت أو بصيغة أخرى الانتحار، فحين يقر العرب بنهايتهم يكونون قد وضعوا حدا لحياتهم وهم عندما  مدوا أيديهم لمصافحة الدول المتحالفة ضدهم وتجاوزوا ذلك  إلى تبني كل آرائها وقبول كل شروطها وحلولها التي تهدد مصالحم وتقضي على مستقبل حريتهم ومن تمة على حياتهم ،كانوا قد اختاروا الموت  أو الوأد بشكل أدق، مادام  الاختيار نابع من أنفسهم، وهنا يصير الحل في نظر الإنسان العربي ضرورة مرة ، فرضها على نفسه في غياب قدرته على الرفض وعلى الاحتجاج. 
ونهاية سلام العرب ، الجملة ككل تحصيل حاصل ل(نفي العرب) هذا النفي الذي تم الاحتفال به في عرس حضر الطرف المستفيد فيه وغاب العرب، لغياب طقوسهم ورقصهم وطعامهم  وغنائهم وحيائهم  و أهليهم وهويتهم وماضيهم، في حين  حضر مكانهم أناس بملامح عربية ضاع منها الانتماء والهوية. وعلى الطرف النقيض تحضر أمريكا بأدوارها المتعددة ، فهي المهيمنة اقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا وثقافيا وسياسيا على العرب بعد أن عملت على استنزاف كل نقط قوتهم وتركتهم  مسلوبي الإرادة يفعلون ما تأمرهم به دون اعتراض . لتحقق بذلك التبعية العربية للدول العظمى في كل مظاهر الحياة.
ونعود إلى النهاية التي اعتبرها العرب بداية الحل –معاهدة اوسلو- والتي كان مصيرها كسابقتها العجز عن رد الحق المسلوب ، وبنهايتها انتهى سلم الجبناء  مادام المهرولون مستمرون في ركضهم المتعثر من عملية سلام فاشلة إلى أخرى ، ومادامت اليد العربية السخية ممدودة للأعداء مستجدية  لحل أمريكي أو إسرائيلي  رغم أن وعودهم المزيفة لم تغير من وضعية العرب شيئا-منذ خمسين سنة- بل زادتهم تقهقرا وضياعا واقتصرت في كل مرة على دفعهم نحو هرولة جديدة.
إن علاج هذه الأمة وشفاؤها من مرضها العضال قد ولى وإن زمن الهرولة واليد الممدودة للاستسلام قد ولى بميلاد الثورة التي فجرها بطل التحرير محمد البوعزيزي ووراءه الشعب التونسي الأبي الذي تغنى بأحلى القصائد وأجملها " إذا الشعب يوما أراد الحياة  فلا بد أن يستجيب القدر..."، والشعب العربي يريد الحياة بكرامة وعز وكبرياء،