بهدوء

بقلم
محمد القوماني
المسائل الخلافية في دستور الجمهورية

 تُرجّح التوقّعات أن تكون المسودّة الأولى للدستور التي تعكف لجان المجلس الوطني التأسيســي على صياغتـــه على مكتــب رئيس المجلس نهايــــة شهــــر جويليــــة الجـــاري، لتبـــدأ لاحقا الجلسات العامة للحوار حول الموادّ واحدة واحـــدة، قبل الصياغة العامة مجدّدا. ويبدو أن عمل اللجـــــان علــــى أهميتـــه، لم يتقدم في تحقيــــق توافقـــات حــــول أهـــم المسائـــل الخلافية، المعروفة والمتوقعــــة حتى قبل انتخاب المجلس أصلا. فما هي أهم القضايا الشائكة في كتابــــة الدستــــور الجديـــــد؟ ومــــا هي أهم الاسئلة التي تطرحها؟

بعد انقضاء ثلثي المدة الممنوحة مبدئيا للمجلس الوطني التأسيسي للفراغ من مهمته الأساسية المتمثلة في كتابة دستور جديد للجمهورية، يبدو من الغريب غياب أي حــــوار وطنــــي، في الساحة السياسيـــــة وحتى في وسائل الإعلام حول القضايا المصيرية والشائكة المتعلقة بالدستور المرتقب. وبقدر ما نسمع من مطالب في دسترة بعــــض الحقــــوق والتطلعات الخصوصية، حتى نكاد نخال الدستور كتابا جامعــــا لكل الأمنيات، لا نسمع بالتوازي ملتقيات ولا حوارات ولا وقفـــــات احتجاجيــــة ولا تحالفات سياسيــــة حول القضايا المفصليـــة فـــي الدستـــور. ولا ندري إلى متى يُؤجل الحوار لتبيّن اتجاهــــات التونسيين حول تلك القضايا؟ وما السبيل إلى حسم الخلافات حولها؟ ناهيك حين نقول ان كتابة الدستور لا تهم أعضاء المجلس الوطني التأسيسي بل سيشارك فيها الجميع، وأن المواطن لا بد أن يتملّك الدستور قبل المصادقة عليه، حلى حدّ قول السيد رئيس الجمهورية. وكم تزداد حيرتنا حين نستحضــــر المـــــدّة المتبقية عن الموعد المعلــــن للانتخابــــات القادمة في مقابل هذا التمشي في كتابة الدستور وهذا الكم من الأسئلة حـــــول القضايـــــا الشائكــــة التــــي نحاول إيجـــــاز أهمها فيما يلي:
 
1 ـ اعتماد المواطنة أساسا للانتماء إلى الدولة
 
لا خلاف على ما يبـــدو بيــــن الفرقـــــاء السياسييــــن وسائر الفاعلين، إذا استثنينا النشاز لدى حزب التحرير على سبيـــــل المثـــــال، حـــول مبدأ المواطنة والصبغــــة المواطنيــــة للدستـــور المطلــــوب. لكن إذا استحضرنا ما تقتضيـــه المواطنــــة مــــن عضويـــــة فــي دولــــة تعاقديــــة وما تمليه من مساواة في الحقـــــوق والواجبــــات ومن تقييد لسلطة الحاكم بالقانون وخضوعــــه لإرادة الأغلبيـــــة، نتساءل علــــى سبيـــل المثــــال عــــن مــــدى انسجــــام مبدأ المواطنــة مع اشتراط صفة المسلم أو الذكر  في الترشّح لرئاسة الجمهورية؟ وما هي الآلية الدستوريــة التـــي تفـــرض تقييد كبار المسؤولين فـي الدولـــة بالقانــــون، وهــــي الوظيفــــة الأساسيـــة للدستـــور، مـــن خــــلال إتاحــــة إمكانيــــة اتهــــام رئيـــس الجمهوريــــة على سبيل المثال بخرق الدستور وإحالته للمحاكمة؟
 
2 ـ مرجعية حقوق الإنسان 
 
تتفق جميع الخطابات السياسية تقريبا على أهمية حماية الدستور لحقوق الإنســـان المضمّنـــة فـــي المواثيـــق الدولية ذات الصلة. لكن الخــــلاف يظــــل قائمــــا حـــول مدى عُلويــة تلك المواثيق عـــن التشريعـــات الوطنيــــة؟ وإذا قبلنا بالسيادة الوطنية في جعل الدستور أعلى منزلة من المواثيق الدولية، فهل يمكن أن ينص الدستـــور علـــى ضــرورة تقيّد التشريعـــات الوطنيـــة بمقتضيات التعهّـــدات الدوليــــة، بقطــــع النظـــر عن التدرّج الممكن مراعاته في بلوغ التطبيق الكامل لتلك التعهدات؟ وهل يمكن على سبيل المثال النص في الدستور الجديد على أن ضمان حق الحياة يقتضي عدم العمل بعقوبة الإعدام؟
 
3 ـ النظام السياسي والعلاقة بين السلطات
 
مع الاتفاق على الصبغة المدنية للدولة وعلى النظام الجمهوري الديمقراطـــي، يظــل الخـــلاف حــــول شكـــل النظام السياســــي. هل يكون برلمانيـــا؟ أو رئاسيـــا؟ أو معـــدّلا فـــي هـــذا الاختيـــار أو ذاك؟ فالتونسيـــون الذيــــن اكتــــــووا بالنظــام الرئاســـــوي الذي انقلب إلى حكم فردي مطلق، قد يرون في النظام البرلماني الذي يضع الحكم بيد المجموعة بدل الفرد، قطعا نهائيا مع منظومة الاستبداد والحكم الفردي. وقد يتعزز هذا الاختيار مع مخاطر الطموحــــات الفردية للحكـــــم لـــدى بعض الشخصيــات المعروفة في الساحة. لكن هل يقبل النظام البرلماني المعدل بانتخاب رئيس الجمهوريـــة مـــن الشعـــب مباشــــرة وليــــس مــــن البرلمـــان كما هو في الأصل؟ وفي المقابل قد تحنّ الأغلبية إلى النظام الرئاسي الذي ألفوه مع ضمانات للتوازن بين السلطات والحدّ من تغوّل سلطات الرئيس. وقد يرون في تجربة المرحلة المجلسية والحكم برئاسات ثلاث وعدم التوازن والتفاهم بينها مثالا غير محبّذ للنظام البرلماني؟ وهل سيُحسم الاختيار على هذا الصعيد لاعتبارات مبدئية في محاســـن كــلا النظاميــــن المعروفين من خلال تجارب عريقة في الديمقراطية؟ أم سيحسم لاعتبارات سياسية واقعية مرحلية تتعلق بالتوازنات داخل المجلس التأسيسي وبالتحالفات والرهانات الانتخابية القادمة؟ وفي نفس السياق يأتي التساؤل عن الاعتبارات التي ستُحكم الخلافات حول السن القصوى للترشح لرئاسة الجمهورية؟
 
هذا إضافة إلى الاختلاف حول نظام تشريعي بغرفة أو غرفتين؟ وعلاقة ذلك بنظام اللامركزية والجماعات المحلية وما تمليه أهداف الثورة من ديمقراطية محلية، وفي نفس الوقت إشراك لجميع الجهات في السلطة لضمان تكافؤ فرصها في التنمية. ومن هنا يأتي اقتراحنا على سبيل المثال بالحاجة إلى غرفة ثانية تكون بمثابة المجلس الوطني للتنمية الذي تُمثّل فيه الجهات بالتساوي، خلافا للغرفة التشريعية، وتكون مهمته مراقبة السياسة التنموية للحكومة وضمان تنمية الجهات والعدل بينها.
 
ومهما يكن شكل النظام السياسي فإن المهم هو علاقة التوازن بين السلطات في الدولة، وخاصة استقلال السلطة القضائية ودورها الحيوي في ضمان العدل وممارسة الرقابة في التزام الجميع بالقانون. ونخص بالذكر هنا تركيبة المجلس الأعلى للقضاء ورئاسته ومهامــــه؟ وكذلــــك ما يمكــــن تسميته بقضاء الدولة من محكمة دستورية  تضمن عُلوية الدستور والقانون ومحكمة إدارية  ومحكمة ماليـــــة لضمان الشفافيــــة في التصرف في الأموال العمومية؟ 
 
4 ـ الرقابة الديمقراطية الدستورية
 
يشمل هذا المجال مؤسسات عديدة لم تكن موجـــودة من قبل ويبدو الاتفاق قائما حول الحاجــــة إليهــــــا، ولكن الخلاف حـــادّ حول آليــــة تشكيلهـــا وتركيبتها، منعا للهيمنــــة أو التوظيـــف. ومــــن هذه المؤسسات التي يؤشر تأخر الحسم في شأنها على طبيعة الاختلاف في هذا المجال، الهيئة الوطنية المستقلة لمراقبة الانتخابات.وعليها نقيس هيئة الإعلام وهيئة مراقبة الفساد وضمان الشفافية وغيرها من مؤسسات الرقابة الدستورية.
 
5 ـ علاقة الدين بالدولة
 
يبدو أن الاتفــاق المتوقع على الفصل الأول من دستور 1959 الذي ينص علــى أن تونــس دينهـــا الإســـلام، لــن يحســم الخلاف في موضوع علاقة الدين بالدولة وما يتصل به من مواضيع فرعيـــة. ففي ظل وجود هذا الفصل في الدستور السابق كـــان الجــدال قائما بيـــــن القانونييـــن والحقوقييـــن والسياسييـــن وفي المجتمع، حول أن الإسلام دين الدولة أم دين التونسيين؟ وكيف سيكون التعامل مع المؤسسات الدينية مثل المساجد إذا كانت الدولة لا شأن لها بالدين كما يقـــــول البعــــض؟ وماذا ينجــــر عن ترك المساجد في المقابل خارج إدارة الدولة؟ وكيف ستتم الملاءمة في التشريعات بين القوانين التي يصدرها البرلمان وقد يرى فيها تونسيون مخالفة لتعاليـــم الإســلام؟ وإلـــى من تعود سلطة القرار في هذه المسائل إذا تشبث البعض بأن المسائل الدينية يبتّ فيها أهل الاختصاص الديني؟ ومن يا ترى هؤلاء المختصين؟ وما موقع مؤسسة المفتي في نظام ديمقاطي يعود فيه التشريع إلى البرلمان؟ وكيف سيتم الفصل في عدم السمـــاح لأي طـــرف سياســي باحتكـــار الإســـلام أو توظيفه سياسيا وحزبيا؟ وهل يشترط في جميع الاحزاب والجمعيات وسائر الانشطة العامة التقيّد بالإسلام أرضية مشتركة جامعة؟ وكيف تُحمى المقدسات الدينية ونُحافظ على هوية تونس العربية الإسلامية؟ وماذا يترتب عن ذلك في سياسات الدولة الداخلية والخارجية؟
 
6 ـ الموادّ التي لن تقبل التعديل في الدستور
 
اعتبارا لما عاناه التونسيون من تجارب التلاعب بالدستور وتعديله على المقاس، وبناء علــى الحاجـــة إلــى تعزيــز الثقة بين النخب في توضيح المشتركات والمكاسب الأساسية التي لا تقبل التراجع، نحتاج في الدستور الجديد إلى مادة تنص على المسائل التي لا تقبل التعديل أو تحتاج إلى شروط غير يسيرة لإحداث التعديل. ومن تلك المسائل على سبيل الذكر لا الحصر، ما يتعلق بسلطة الشعب وبالنظام الجمهوري وبعدد ولايات الرئيس وبضمان الحقوق والحريات الأساسية...
 
نكتفي بهذه المحاور الخمسة الأساسية فيمــا نراه قضايــا شائكــة في كتابة  الدستور، دون التعريج على المسائل المتصلة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعيــــة والبيئيـــة والثقافيــة التي قــد تُضمــن في الدستور الجديد خلافا للدستور السابق، وذلك شحذا للأذهان وإسهاما في تنظيم الحوار في هذه المرحلة الدقيقة من كتابة الدستور. ويبقى الأهم من تجلية تلك المسائل الخلافية والتحاور فيها، هو البحث في آليات التوافق حولها، حتى يكون الدستور بحق دستور كل التونسيين ولفترة تضمن الاستقرار وتكرّس الوحدة الوطنية.