بحوث

بقلم
د.علي رابحي
صورة النبي ﷺ في رسائل النور
 بذل الأدباء والمفكرون من الشّرق والغرب منذ عصر النّبوة إلى يومنا هذا جهودا جبارة في سبيل الإبانة عن معاني صورة سيّدنا النّبي محمد ﷺ، ذات الأبعاد الرّوحيّة والتّربويّة والتّعليميّة والعلميّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والإداريّة والسّياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة وغيرها، بوصفه خاتما للأنبياء والرّسل، وحاملا لرسالة عالميّة، ومنقذا للبشريّة؛ وأيضا استجلاء كونه ﷺ أنموذجا إنسانيّا كاملا تجسّدت فيه تصوّرات الرّحمة المهداة، والحبيب المصطفى، والصّادق الأمين، والسّراج المنير.
ومن الأعلام المعاصرين الذين كتبوا عن سيدنا النّبي ﷺ، وتمثّلوا صورته في أجناسهم الأدبيّة، باعتباره رسولا قائدا، ونبيّا مصلحا، تُمثل سيرته وتراثه مصدرا للتّساؤل والدّهشة والإعجاب، الإمام الجليل بديع الزّمان سعيد النّورسي رحمه اللّه، الذي لم يقف عند حدّ المدح الإيماني لسيدنا النّبي ﷺ، وإظهار حالات الشّوق له ولمبادئه فحسب، بل تجاوزهما إلى آفاق رمزيّة أرحب، وتخطّاها إلى استقصاء مسائل أوسع، حيث برع في الحديث عن الرّسول الكريم ﷺ الدّاعي إلى الصّراط المستقيم.
يقول الإمام سعيد النّورسي: «كما لا يمكن للشّمس إلاّ أن تشعّ ضياءً، كذلك لا يمكن للألوهيّة إلاّ أن تظهر نفسها بإرسال الرّسل الكرام عليهم السّلام». وإذا كانت «الرّسالة المحمديّة شعور لشعور الكون ونور له»، فإنّ: «حياة محمد ﷺ - المادّية والمعنويّة- بشهادة آثارها، حياة لحياة الكون».ويشير أيضا إلى أنّ سيدنا محمد ﷺ استقبل مظاهر ربوبيّة ربّ العالمين، وسرمديّة ألوهيّته، وآلائه العميمة التي لا تعدّ ولا تحصى؛ استقبلها بعبوديّة كليّة لربه الجليل وتعريف له. ويضيف أنّ هذا النّبي الكريم ضروري كضرورة الشّمس لهذا الكون؛ إذ هو أستاذ البشريّة الأكبر، ونبيّها الأعظم، وفخر العالم، القمين  بخطاب «لولاك لولاك، لما خُلقت الأفلاك».
ويذكر الإمام سعيد النّورسي أنّه دائم التّأمل في فقرة -هي في الأصل من أوراده- تشير إلى أكثر من عشرين شهادة على رسالة سيدنا محمد ﷺ، يقول فيها: «محمّدٌ رسولُ اللّه، صادقُ الوعدِ الأمينُ، بشهادة ظهوُره دفعَة مع اُمّيّتِه بأكمل دينٍ وإسلاميّةٍ وشرَيعة، وبأقوى إيمان واِعتقادٍ وعبادَةٍ، وبأعلى دعوةٍ ومناجاةٍ ودعواتٍ، وبأعم تبليغ،ٍ واتمّ متانةٍ خارقاتٍ مثمراتٍ لا مَثلَ لها». 
ويُجْمل الإمام سعيد النورسي مكتوباته عن صورة سيدنا النّبي ﷺ ويُجَمِّلها بكلمة حسنة، وجِدّ  معبرة، جاء فيها: «وما مدحتُ محمداً بمقالتي، ولكن مدحتُ مقالتي بمحمد ﷺ». 
لنتجرد من قيود الزّمان، ولنذهب مع الإمام الجليل بديع الزّمان سعيد النّورسي، بأفكاره إلى عصر النّبوّة، وبخياله إلى الجزيرة العربيّة، كي نحظى بزيارة الحبيب المصطفى ﷺ، وهو يزاول وظيفته النّبويّة. وننظر كيف سَبَّب ﷺ السّعادة بما أتى به من رسالة وهداية، من خلال تجلية صورة سيدنا النّبي ﷺ في كليّات رسائل النّور، وتأكيد تأثير سيّدنا النّبي ﷺ بصفته (الإنسان الكامل) في الثّقافة النّوريّة. 
المبحث الأول. سيدنا محمد ﷺ الإنسان: 
الإنسان الكامل متحقّق في شخصيّة سيّدنا النّبي ﷺ. هذا النّبي المبارك الذي هو أنبل نتائج الكائنات وأكمل ثمراتها -بتعبير الإمام النورسي- لا تبلغ أحوالُه وأطوارهُ البشرية التي ذكرَتْها كتب السيرة والتاريخ الإحاطة بماهيته الكاملة، ولا تصل إلى حقيقة كمالاته. يقول الإمام النورسي رحمه الله: «أحوال الرّسول ﷺ وأوصافه قد بُيّنت على شكل سيرة وتاريخ، إلا أن أغلب تلك الأحوال والأوصاف تعكس بشريته فحسب، إذ أن الشخصية المعنوية لتلك الذات النبوية المباركة رفيعة جداً، وماهيته المقدسة نورانية إلى حدّ لا يرقى ما ذُكر في التاريخ والسيرة من أوصاف وأحوال إلى ذلك المقام السامي والدرجة الرفيعة العالية». وحتى لا يقع أحد في الخطأ في حقّه ﷺ، يرى الإمام النورسي أنه: «يلزم من يسمع أوصافه البشرية الاعتيادية أن يرفع بصره دوماً عالياً لينظر إلى ماهيته الحقيقية، وإلى شخصيته المعنوية النورانية الشامخة في قمة مرتبة الرسالة، وإلاّ أساء الأدب، ووقع في الشبهة والوهم».
أولا. كمال الذات النبوية المباركة
يؤكد الإمام سعيد النورسي أن الله سبحانه وتعالى الذي خلق هذا الكون، وخلق من كل نوع فرداً ممتازاً كاملاً جامعاً، وجعله مناط فخر وكمال ذلك النوع: «فلا شك أنه يخلق فرداً ممتازاً وكاملاً بالنسبة للكائنات قاطبة، وذلك بتجلي الاسم الأعظم من أسمائه الحسنى. وسيكون في مصنوعاته فرداً أكمل كالاسم الأعظم في أسمائه. فيجمع كمالاته المنتشرة في الكائنات في ذلك الفرد الأكمل، ويجعله محط نظره»، ويضيف بأنه: «لا ريب أن ذلك الفرد الكامل الصفات الخَلقية:
- سيكون من ذوي الحياة، لأن أكمل أنواع الكائنات هم ذوو الحياة، 
- ويكون من ذوي الشعور، لأن أكمل أنواع ذوي الحياة هم ذوو الشعور، 
-وسيكون ذلك الفرد الفريد من الإنسان، لأنّ الإنسان هو المؤهّل لما لا يُحدّ من الرّقي. 
-وسيكون ذلك الفرد حتماً سيدنا محمداً ﷺ، لأنّه لم يظهر أحد في التّاريخ كلّه مثله منذ زمن آدم عليه السّلام وإلى الآن، ولن يظهر».
ويضرب الإمام النّورسي مثلا اليد النّبويّة المباركة من الذّات النّبويّة الشّريفة، ومدى بركة تلك اليد الكريمة، ومدى كونها معجزة قدرة إلهيّة عظيمة، و يبيّن ذلك بجلاء:
- تسبيح الحصى وخشوعه في كفّه ﷺ،
- وتحوّل التّراب والحصيات فيها كقذائف في وجوه الأعداء حتّى ولّوا مدبرين بقوله تعالى:﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ﴾(الأنفال: 17)،
- وانفلاق القمر فلقتين بأصبع من الكفّ النّبويّة الشّريفة نفسها كما هو نصّ القرآن الكريم: ﴿وانشقّ القَمَر﴾(القمر: 1)،
- وفوران الماء كعينٍ جارية من بين الأصابع العشرة الشّريفة وارتواء الجيش منه،
- وكون تلك اليد المباركة بلسماً للجرحى وشفاء للمرضى.
ثانيا. عظمة شخصيته المعنوية الكريمة ﷺ 
إن آثار سيدنا محمد ﷺ وسيره وتاريخ حياته تشهد -مع تسليم أعدائه- بأنه لعلى خلق عظيم. وأيضاً، إن ذاته ﷺ كالشمس دليل لنفسه، يقول الإمام سعيد النورسي: «إذا تأمّلت في حاله عليه السّلام من الأربع إلى أربعين -مع أنّ من شأن الشّبابيّة وتوقد الحرارة الغريزيّة أن تظهر ما يخفى، وتلقي إلى الظّاهر ما استتر في الطّبيعة من الحيل- تراه عليه السّلام قد تدرّج في سنينه وعاشر بكمال استقامة ونهاية متانة وغاية عفّة واطراد وانتظام؛ ما أومأ حالٌ من أحواله إلى حيلة، لاسيما في مقابلة المعاندين الأذكياء؛ وبينما تراه عليه السّلام كذلك إذ تنظر إليه وهو على رأس أربعين سنة- الذي من شأنه جعل الحالات مَلَكة والعادات طبيعة ثابتة لا تخالف- قد تكشّف عليه السّلام عن شخص خارق قد أوقع في العالم انقلاباً عظيماً عجيبا».
ثالثا: مرقاة السنة النبوية الشريفة
إنّ أقوال سيدنا النّبي ﷺ وأفعاله وأحواله وأطواره وحركاته وسكناته، هي منبع الدّين ومصدر الأحكام والشّريعة عند الإمام النّورسي. ومن هذا المنطلق فكلّ من يتمسّك بالسّنة النّبويّة الشّريفة ويتّخذها أساساً له، هو أهل لمقام المحبوبيّة في ظلّ حبيب اللّه ﷺ، وكلّ من يعمل لأجلها عند استيلاء البدع وتغلب الضّلالة فله أجر مئة شهيد .
إنّ ﻣﺤﺒّﺔ اﻟﻠّﻪ سبحانه وتعالى ﺗﺴﺘﻠﺰم إتباع اﻟﺴّﻨﺔ اﻟﻄّﺎﻫﺮة ﻟسيدنا محمد ﷺ، ويقرن الإمام سعيد النّورسي ﺣﺐَّ اﻟﻠّﻪ تعالى باﻟﻌﻤﻞ ﺑﻤﺮﺿﺎﺗﻪ، ويرى أنّ ﻣﺮﺿﺎﺗﻪ سبحانه ﺗﺘﺠﻠّﻰ ﺑﺄﻓﻀﻞ ﺻﻮرﻫﺎ ﻓﻲ ذات سيدنا ﻣﺤﻤﺪ ﷺ، وأنّ اﻟﺘّﺸﺒّﻪ ﺑﺬاﺗﻪ اﻟﻤﺒﺎرﻛﺔ ﻓﻲ اﻟﺤﺮﻛﺎت واﻷﻓﻌﺎل ﻳﺄﺗﻲ ﻣﻦ ﺟﻬﺘﻴﻦ:
إﺣﺪاﻫﻤﺎ: ﺟﻬﺔ ﺣﺐّ اﻟﻠّﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ وﻃﺎﻋﺔ أواﻣﺮﻩ، واﻟﺤﺮﻛﺔ ﺿﻤﻦ داﺋﺮة ﻣﺮﺿﺎﺗﻪ، ﻫﺬﻩ اﻟﺠﻬﺔ ﺗﻘﺘﻀﻲ ذﻟﻚ اﻻﺗﺒﺎع، ﺣﻴﺚ إنّ أﻛﻤﻞَ إﻣﺎم وأﻣﺜﻞ ﻗﺪوة ﻓﻲ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﻫﻮ سيّدنا ﻣﺤﻤﺪ ﷺ.
وﺛﺎﻧﻴﻬﻤﺎ: ﺟﻬﺔ ذاﺗﻪ اﻟﻤﺒﺎرﻛﺔ ﷺ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ أﺳﻤﻰ وﺳﻴﻠﺔ ﻟﻺﺣﺴﺎن اﻹﻟﻬﻲ ﻏﻴﺮ اﻟﻤﺤﺪود ﻟﻠﺒﺸﺮﻳّﺔ، ﻓﻬﻲ إذن أﻫﻞٌ ﻟﻤﺤﺒّﺔ ﻏﻴﺮ ﻣﺤﺪودة ﻷﺟﻞ اﻟﻠّﻪ تعالى وﻓﻲ ﺳﺒﻴﻠﻪ. 
وبما أنّ الإنسان ﻳﺮﻏﺐ ﻓﻄﺮة ﻓﻲ اﻟﺘّﺸﺒّﻪ ﺑﺎﻟﻤﺤﺒﻮب ﻣﺎ أﻣﻜﻦ، يدعو الإمام النّورسي اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺴﻌَﻮن ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺣﺐّ ﺣﺒﻴﺐ اﻟﻠّﻪ ﷺ أن ﻳﺒﺬﻟﻮا ﺟﻬﺪﻫﻢ ﻟﻠﺘّﺸﺒّﻪ ﺑﻪ بإتباع ﺳُﻨّﺘﻪ اﻟﺸّﺮﻳﻔﺔ.
يتساءل الإمام سعيد النّورسي عن كيفيّة اﻟﻮﺻﻮل اﻟﻰ سيّدنا اﻟﺮّﺳﻮل ﷺ، فيجيب جازما بأنّها: اﻟﺼّﻼة ﻋﻠﻴﻪ ﷺ. يقول: «أﻳّﻬﺎ الإنسان اﺟﻌﻞ الصّلاة ﻋﻠﻴﻪ وﺳﻴﻠﺔَ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻪ، ﺛﻢّ اﺳﺘﻤﺴﻚ ﺑﻪ ﻟﻴﺒﻠّﻐﻚ رﺣﻤﺔ اﻟﺮّﺣﻤاﻦ اﻟﺮّﺣﻴﻢ. ﻓﺈنّ الأمّة ﺟﻤﻴﻌَﻬﺎ ﺑﺪﻋﺎﺋﻬﺎ وﺻﻠﻮاﺗﻬﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﺮّﺳﻮل اﻟﻜﺮﻳﻢ ﷺ إﻧّﻤﺎ ﺗﺜﺒﺖ ﺑﻮﺿﻮح ﻣﺪى ﻗﻴﻤﺔ ﻫﺬﻩ اﻟﺮّﺣﻤﺔ وﻣﺪى أﻫﻤّﻴﺔ ﻫﺬﻩ اﻟﻬَﺪِﻳّﺔ اﻹﻟﻬﻴّﺔ، وﻣﺪى ﺳﻌﺘﻬﺎ وﻋﻈﻤﺘﻬﺎ».
ويبشّر الإمام سعيد النّورسي أحباب حبيب اللّه ﷺ ومتّبعي سنّته بالشّفاعة المحمّديّة يوم الحشر قائلا: «بشراك أيّها المسلم! إنّ لك شفيعاً كريماً في يوم الحشر الأعظم، هو هذا الرّسول الحبيب ﷺ... فاسع لنيل شفاعته بإتباع سنّته المطهّرة».
المبحث الثاني. سيدنا محمد ﷺ الرّسول 
يبني الإمام النّورسي حديثه عن سيدنا محمد ﷺ الرّسول باعتباره المبعوث ذو الصّفتين: 
-صفة العبوديّة الكلّية، فهو ممثّل طبقات المخلوقات عند الحضرة الرّبانيّة. 
-وصفة الرّسالة والقرب إليه، فهو مرسل من لدنه سبحانه إلى العالمين كافّة، المعرِّف الحادق والمعلن الوصاف، وهو المرشد المعلّم الرّائد.
وتتجلّى الشّخصيّة المعنويّة العظيمة للنّبي ﷺ وماهيته عند الإمام النّورسي في كونه ﷺ:
-هو الذي لعظمته المعنويّة، صار سطحُ الأرض مسجده، ومكةُ محرابه، والمدينة منبره. 
-هو إمام جميع المؤمنين، يأتمون به صافّين خَلْفَه. 
-هو خطيب جميع البشر، يبيّن لهم دساتير سعاداتهم. 
-هو رئيس جميع الأنبياء، يزكّيهم ويصدّقهم بجامعيّة دينه لأساسات أديانهم.
-وسيد جميع الأولياء، يرشدهم ويربّيهم بشمس رسالته.
-هو قطبٌ في مركز دائرة حلقة ذكر، تركّبَت من الأنبياء والأخيار والصّديقين والأبرار المتّفقين على كلمته النّاطقين بها. 
-هو شجرةٌ نورانيّة، عروقُها الحيويّة المتينة هي الأنبياء بأساساتهم السّماويّة، وأغصانها الخضرة الطريّة وثمراتها اللّطيفة النيّرة هي الأولياء بمعارفهم الإلهاميّة.
أوّلا. شجرة طوبى النّبوة والنّبي ﷺ
إنّ تاريخ البشريّة، منذ زمن سيدنا آدم عليه السّلام إلى الوقت الحاضر يشهد شجرة طوبى العبوديّة للّه، وسلسلة النّبوّة والدّين. وفي تقدير الإمام سعيد النورسي، النّبوة منحة إلهيّة وجزء من نظام الكون، ذلك أنّ «القدرة الإلهيّة التي لا تترك النّمل من دون أمير، والنّحل من دون يعسوب، ولا تترك البشر من دون نبي، ومن دون شريعة».
ويجعل الإمام النورسي النّبوة مرتبتين: مطلقة وخاتمة. وينبّه إلى أنّ حاجة البشريّة لموكب النّبوة المطلقة ما هي إلاّ مقدمة لضرورة البشريّة للنّبوة المحمديّة الخاتمة. ذلك أنّ الرّحيم جلّ جلاله «أنبت شجرة طوبى العبوديّة، فأثمرت أغصانها المباركة في حديقة الكائنات، دانية قطوفها، متدليّة ثمرات الأنبياء والمرسلين والأولياء والصّديقين المتلألئين كالنّجوم في الظّلمات». فكانت بمثابة النّواة التي أنبتت الشّجرة الإسلاميّة، وكان: «أضوأ ثمراتها وأنورها وأولاها وأجلاها وأحسنها وأزينها وأعظمها وأكرمها وأشرفها وألطفها وأجمعها وأنفعها، هو: سيدنا محمد ﷺ سيد المرسلين وإمام المتّقين وحبيب ربّ العالمين».
ثانيا. سؤال الحاجة إلى النّبوة المطلقة وضرورة نبوّة سيدنا محمد ﷺ
أ. سؤال الحاجة إلى النّبوة المطلقة
يتساءل الإمام سعيد النّورسي: «هل يمكن للخالق ذي الجلال الذي عرف نفسه إلى ذوي الشّعور ...أن لا يبيّن لهم بوساطة رسول ما يريد منهم وما يرضيه...؟». فيجيب بأنّ الأنبياء عليهم السّلام قد بعثوا إلى مجتمعات إنسانيّة ليكونوا لهم أئمّة الهدى يقتدى بهم في رقيهم المعنوي والمادّي عن طريق معجزاتهم، يقول: «النّبوّة التي هي قطب المصالح الكليّة ومحورها ومعدن حياتها ضروريّة لنوع البشر، فلو لم تكن النّبوّة لهلك النّوع البشري؛ إذ كأنه ألقى من عالم مختل إلى عالم منظّم، فيخل بالقوانين الجارية العامّة». 
ب. ضرورة نبوّة سيدنا محمد ﷺ
يشير الإمام سعيد النّورسي إلى أنّ عدم كفاية القانون البشري -الحاصل نتيجة تلاحق الأفكار والتّجارب التّدريجيّة- لإنماء بذور ثمرة استعدادات الإنسان «احتاج إلى شريعة إلهيّة حيّة خالدة تحقّق له سعادة الدّارين معًا مادّة ومعنى»، وأنّ المعلم الخبير والنّبي المرشد هو سيدنا محمد ﷺ:
-لأنّ أسس مدار النّبوة تبدو بأكمل وجه وأظهره فيه ﷺ، 
-ولأنّه ﷺ أعظم أهليّة لمنصب الرّسالة ومهمّة التّبليغ، 
-ولأنّه ﷺ قد جمع من الدّلائل والمزايا والأوصاف ما اتصف به جميع الرّسل السّابقين.
ثالثا. دلائل نبوّة سيدنا محمد ﷺ
يبادر الإمام سعيد النّورسي إلى القطع بأنّ «اسم اللّه الحكم والحكيم يقتضيان بداهة نبوّة سيدنا محمد ﷺ ورسالته»، وأنّ حسن الصّنعة دليل على نبوّة سيدنا محمد ﷺ، فيتساءل في هذا الصّدد: «هل يقبل عقلٌ ألاّ يبالي ولا يهتم صانع هذه المصنوعات المزينة بأنواع المحاسن...، هل يعقل ألاّ يبالي بمثل هذا المصنوع الأجمل الأكمل...، وألاّ يهتم بمثل هذا المخلوق الذي...اهتزّ البرّ والبحرّ انتشاءً من نغمات حمده وشكره وتكبيراته لنعم ذلك الفاطر الجليل؟  وهل يمكن ألاّ يجعله رسولاً؟ وألاّ يريد أن يَسري خُلُقه الحسن وحالاته الجميلة إلى الخلق أجمعين؟ كلا! بل لا يمكن ألاّ يمنحه كلامه، وألاّ يجعله رسولاً للنّاس كافّة».
لقد صنّف الإمام النورسي في بيان دلائل النّبوّة الأحمديّة وأشار إلى شعاعاتٍ من تلك الشّمس في رسالة تركية مسّماة بـ «شعاعات من معرفة النّبي ﷺ» وفي «المكتوب التّاسع عشر». 
إنّ ما يُعرف لنا ربّنا عند الإمام النّورسي لا يعدّ ولا يحدّ، ولكنّ البراهين الكبيرة والحجج الكليّة التي يعتمدها، ثلاثة:إحداها: كتاب الكون والكائنات المنظور. وثانيها: الآية الكبرى لهذا الكتاب العظيم، وهو خاتم ديوان النّبوّة ﷺ، وثالثها: مفسّر كتاب العالم، أي القرآن الحكيم».
وأكّد الإمام النّورسي أنّ الكليّة الثّانية تستند على ثلاثة أدلّة عقليّة ونقليّة تشهد بعظمة الشّخصيّة المعنويّة للنّبيّ الخاتم ﷺ، وتدلّ على علوّ منزلته الرّفيعة، وتبيّن أنّه السّراج المنير لهذه الكائنات وشمسها السّاطعة.
لقد حشد الإمام النّورسي دلائل نبوّة الرّسول ﷺ، وجعلها قسمين:
القسم الأول: الإرهاصات، وهي الحوادث الخارقة التي وقعت قبل النّبوّة، ووقت ولادته ﷺ. وتتفرّع إلى ثلاثة فروع:
الفرع الأول: ما أخبرت به التّوراة والإنجيل والزّبور وصحف الأنبياء عليهم السّلام عن نبوته ﷺ.
الحجّة الأولى: تحدّي القرآن الكريم، والثّانية :اعتراف علماء أهل الكتاب، والثّالثة: البشارات.
الفرع الثّاني: إخبار الكهّان والأولياء العارفين باللّه قبل البعثة النّبويّة عن مجيئه ﷺ. 
الفرع الثّالث: الآيات والحوادث التي ظهرت عند مولده ﷺ.
القسم الثّاني: دلائل النبوة الأخرى و وتتفرع إلى فرعين:
الفرع الأول: الخوارق التي ظهرت بعده ﷺ تصديقاً لنبوّته.
الفرع الثّاني: الخوارق التي ظهرت في فترة حياته المباركة ﷺ. وهي أيضا نوعان:
النّوع الأول: ما ظهر من دلائل النبوّة في شخصه ﷺ وسيرته وصورته وأخلاقه وكمال عقله.
النّوع الثّاني: ما ظهر منها في أمور خارجة عن ذاته الشّريفة ﷺ، أي في الآفاق والكون. وهي أيضاً صنفان:
-صنف معنوي وقرآني. 
-وصنف مادي وكوني. وهذا الأخير ضربان أيضاً:
أحدهما: المعجزات التي ظهرت خلال فترة الدّعوة النّبويّة، 
وثانيهما: الحوادث التي أخبر عنها ﷺ قبل وقوعها - بما علّمه اللّه سبحانه - وظهرت تلك الحوادث وتحقّقت كما أخبر.
إنّ الشّمس المعنويّة التي تضيء هذا الكون، والبرهان النيّر على وجود خالقنا سبحانه ووحدانيّته، إنّما هو هذا النّبي الكريم الملّقب بـ «حبيب اللّه»، فهو ﷺ بتعبير الإمام النّورسي: «فخر العالم، وشرف نوع بني آدم، بعظمةِ سلطنة قرآنِهِ، وحشمَةِ وسعَة دينه، وكثرة كمالاتِه، وعُلويّةِ أخلاقه، حتّى بتصديق أعدائِهِ، وكذا شهد وبرهن بقوّةِ مئات المعجزات الظّاهرات الباهرات المُصدِّقةِ، وبقوّة آلاف حقائق دينه السّاطعة القاطعة، بإجماع آله ذوي الأنوار، وباتفاق أصحابه ذوي الأبصار، وبتوافق محُقّقِي أمّتهِ ذوي البراهين والبصائِرِ النوّارة». فأنّى لواهمٍ أن يَمدَّ يده للرّسالة المحمديّة التي تأيّدتْ بشهادات ما لا يُحَدّ من الشّاهدين.
الخاتمة
إنّ ما يُعرّف لنا ربَّنا هو ثلاثة معرّفين مبرزين، أوّلهما هو الفضاء الكوني، كتاب اللّه المنظور، وثانيهما هو القرآن العظيم، كتاب اللّه المسطور، وثالثهما هو سيدنا النّبي، رسول اللّه المنصور ﷺ.
وقد صنّف الإمام الجليل بديع الزّمان سعيد الإمام النّورسي رحمه اللّه في بيان صورة خاتم ديوان النّبوّة، سيد المرسلين ﷺ، فأجاد وأفاد في تجلية نور رسول النّور والسّلام عليه أزكى الصّلاة والسّلام.
وهذا المقال مساهمة من أجل تأسيس مقاربة تجليات الصّورة البانية للرّحمة المهداة سيدنا محمد ﷺ  وتمثّلاتها في مجتمع طلاّب النّور المتحقّق بالصّحبة النّبويّة وبالأخلاق المحمديّة، لامست فيها جوانب من تأثير النّبي ﷺ بصفته الإنسان الرّسول في الفكر والثّقافة النّوريّة، وبيّنت أنّ قدوة الإمام بديع الزّمان سعيد النّورسي وتلامذته من طلاب مدرسة النّور وأُسوتهم في كلّ شيء هو فخر العالمين سيّدنا الرّسول الكريم ﷺ، وأنّ مسلكهم مجاهدة كلّ شخص نفسه؛ أي التّخلّق بأخلاق سيّدنا النّبي ﷺ وإحياء السّنة النّبويّة الشّريفة، وفقا للمنهج الذي اختط الإمام بديع الزّمان سعيد النّورسي لنفسه ولأتباعه، حيث يقول: «أمّا مسلكنا: فهو التّخلّق بالأخلاق المحمديّة وإحياء السّنّة النّبويّة. ومرشدنا في الحياة: الشّريعة الغراء. وإنّ كلّ مؤمن هو منتسب -معنىً- لجماعتنا، وصورة هذا الانتساب هو العزم القاطع على إحياء السّنة النّبويّة في عالمه الخاصّ».
هذا مقام رسول اللّه سيدنا النّبي محمد ﷺ وصورته في الفكر النّوري وتجليّاته عند النّوريين، ونختم بما ختم به رائد هذه المدرسة الإمام المربّي بديع الزّمان سعيد النّورسي رحمه الّله، حين تأسف قائلا: «يا حسرة على الغافلين! ويا خسارة على الضّالين! ويا عجبا من بلاهة أكثر النّاس! كيف تعامَوا عن هذا الحقّ، وتصامّوا عن هذه الحقيقة؟ لا يهتمّون بكلام هذا النّبيّ الكريم ﷺ، مع أنّ من شأن مِثله أن تُفدى له الأرواحُ، ويُسرع إليه بترك الدّنيا وما فيها؟». وقوله أيضا رحمه اللّه: «الصّحبة النّبويّة إكسير عظيم، لها من التّأثير الخارق ما يجعل الذين يتشرّفون بها لدقيقة واحدة ينالون من أنوار الحقيقة ما لا يناله من يصرف سنين من عمره في السّير والسّلوك، ذلك لأنّ الصّحبة انصباغ بصبغة الحقيقة، وانعكاس لأنوارها». وصدق اللّه سبحانه وتعالى إذ قال ويقول في حقّ سيدنا النّبي ﷺ الصّادق الأمين: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾(الأحزاب: 21).