الدولة في الحديث النبوي

بقلم
الهادي بريك
الحلقة العاشرة : الدولة الإسلامية دولة الوحدة الوطنية متنوعة الالوان
 من المهمّ لنا اليوم تعميق الحوار حول طبيعة الدّولة الإسلاميّة أن تختطف جماعات ضالّة هذه القيمة العظمى، أو أن تظلّ تلك القيمة بلا لون ولا طعم. فهي بالإسم إسلاميّة، وهي في الحقيقة كلّ شيء، ولا شيء. معلوم أنّ نسبة الإسلام إلى الدّولة لا وجود لها في مصادر الإسلام، لماذا؟ لأنّ قيمة الدّولة نفسها ليست مذكورة بالإسم. ولكن جاء الأمر بإقامة هذا الكيان (سمّه ما شئت إن شئت، إذ لا عبرة بالإسم) على معنى قاعدة منطقيّة (ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب)، فإذا كان مقصود الإسلام الأعظم هو العدل، فإنّ قيمة العدل لا يمكن تحقّقها بدون كيان جامع قويّ يحلّ محلّ القبيلة سابقا.
الدّولة مطلب غريزيّ (الإنسان مدنيّ بالطّبع)، وهو مطلب حاجيّ ضروريّ تهتدي إليه العقول حتّى دون ورود وحي إليهم. المشكلة التي عالجها الوحي هي على وجه التّحديد رسالة الدّولة، وليس أصل وجودها. وإذا كان الإسلام لم يأمر بشكل مباشر بإقامة الدّولة - ولكن أمر قطعا وحتما بما لا يقوم إلاّ بها وتحت سقفها -  فإنّه لا معنى لنسبة صفة لموصوف غير موجود. ولكنّه شدّد على رسالة الدّولة كلّ تشديد، إذ حرص على قيم العدل والعلم والقوّة والوحدة وحقّ التنوّع والتّراضي وغير ذلك. ولذلك لم يتردّد بعض الباحثين البارزين في فقه الدّولة أن يصفوا دولة الإسلام بأنّها دولة العقل المهتدي بالوحي. لا مناص فيها من الوحي ومن العقل معا. ومن ذا يغدو قولك اليوم وبلغة اليوم أنّه على المسلمين السّعي إلى إنشاء دولة إسلامية بأيّ صورة من صىور الإنشاء (ترقيعا و إنتقاء أو إنشاء جديدا) قولا صحيحا.
حديث الإفتراق ومعالجات فاسدة
حديث إفتراق الأمّة (على ضعفه سندا) يرطن به اليوم كلّ جاهل غير عابيء بظلاله المخيفة عندما يؤوّل تأويلا فاسدا ولتزداد مباضع التفرّق في هذه الأمّة عملا. ممّا يجهله حتّى كثير من المنسوبين إلى حقول العلم أنّ كتمان علم يغلب على الظنّ أنّ إشاعته في النّاس يؤول إلى مفاسد هو كتمان محمود. بل واجب. تأصيل ذلك ما قام به هو نفسه (ﷺ) عندما أخبره الفاروق عمر أنّ الحديث بالحديث الذي مع أبي هريرة (من مات لا يشرك باللّه دخل الجنّة) يؤول بالنّاس إلى ترك العمل. إذ وافقه على رأيه السّديد ومنع أبا هريرة عن مواصلة الحديث بالحديث. وما يزيد الطّين بلّة في هذا الحديث أنّ زيادات ليست منه ألحقها به الوضّاعون الكذّابون إنتصارا لطوائفهم. إذ تزيد فيه كلّ فرقة ما يناسبها لتكون هي الفرقة النّاجية وهي في الجنّة وماعداها من المسلمين فئات ضالّة وهي في النّار. لو قلت أنّه لم يتعرّض حديث لسوء التّأويل والتّوظيف الطّائفيّ مثل هذا ما جانبت صوابا. ومازال الحديث يمزّق الأمّة كلّ ممزّق بسبب داء الطّائفيّة الذي لم ينج منه لا (أهل سنّة) ولا (أهل شيعة)، كلاهما هنا طائفيّ حتّى النّخاع. وحتّى لو صحّ هذا الحديث صحّة سنديّة لا خلاف عليها (وهو غير متاح)، فإنّه لا يؤوّل إلاّ أنّ أمّة المسلمين كلّهم فرقة ناجية على ما فيهم من إختلافات وفروق كبيرة. ولكنّ هذا الحديث ممّا يصحّ فيه أن يحجب التّحديث به عندما يغلب على الظنّ أنّ سوء تأويله غالب على حسن تأويله، وهو زماننا بإمتياز شديد. 
حديث الإفتراق معارض للإسلام
ما جاء الإسلام بقيمة ظلّ يحفل بها كلّ حفل مثل قيمة التنوّع والتعدّد والإختلاف. حتّى الإختلاف الدينيّ العقديّ لم يضق به الإسلام ذرعا. وعده إرادة إلهيّة ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ﴾(التغابن:2). أمّا التعدّد تحت سقف الدّولة الواحدة فهو مرحّب به كلّ ترحيب. قيمة حواها أوّل دستور سياسيّ موثّق في الإسلام - بل في تاريخ البشريّة جمعاء قاطبة - (دستور المدينة الذي قال بالحرف « بنو عوف - وهم قبيلة يهوديّة - أمّة مع المؤمنين). وجرى التّاريخ الإسلاميّ على ذلك المنوال التعدّديّ حتّى اليوم. ما ضاق المسلمون يوما بيهود ولا بنصارى ولا بأيّ ملّة، بل استوعب الإسلام كلّ ذلك وحرّر قالته العظمى (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وهو بالتّعبير المعاصر (المواطنة المدنيّة متساوية الحقوق والواجبات). ألا ترى معابد غير المسلمين في الشّام إلى اليوم وهي تناطح السّحاب؟ ومن ذا فإنّ حديث الإفتراق المزعوم لا يتناسب مع الإسلام في قيمه العظمى، وخاصّة عندما يخضع إلى التّأويلات الطّائفيّة التي تلغي كلّ تعدّد، لا سلفيّة مع الصّوفيّة، ولا صوفيّة مع السّلفيّة، ولا أشاعرة مع الحنابلة المزيّفين، ولا سلفيّة مع الأشاعرة. وفي المستوى السّياسيّ كذاك، إذ لا حزب مع الحزب الحاكم، ولا قول مع قول (أمير المؤمنين) ولا سنّة مع شيعة، ولا شيعة مع سنّة. وبذلك انتظمت مجتمعاتنا على أنّ (أهل السنّة والجماعة) فرقة واحدة هي الفرقة النّاجية الوحيدة. من هي؟ كلّ يدّعي وصلا بليلى - كما قال الشّاعر -  ولكنّ ليلى لا تقرّ لهم بذاكا. 
كيف تكون الدّولة قويّة بمثل هذا التّلاغي المتبادل؟
إذا كان ذلك هو واقعنا (كلاميّا وفكريّا ومذهبيّا وسياسيّا) وهو كذلك قطعا، فأنّى لدولة اليوم وهي تتدثّر بالإسلام (بل تزعم أنّها تقوم على شريعته) أن تظلّ موحّدة الأركان قويّة متماسكة اجتماعيّة؟ إنّما هي دولة طائفية. كلّما سطت على الدولة طائفة حكمتها بما ترى هي، ولبقية المكوّنات السّجن أو النّفي أو القتل. 
الحقّ أنّ دولة الإسلام - بمثل ما هي دولة اجتماعيّة تقوم على حقوق المحتاجين، ودولة ديمقراطيّة تقوم على قيم العدل، ودولة مقاومة تقوم على تحرير الأرض المحتلّة، ودولة سياديّة تقوم على إستقلال قرارها الأعلى - هي دولة الوحدة الوطنيّة القائمة على الإعتراف بقيم الإختلاف والتعدّد والتنوّع مادام تحت سقف واحد وفي كنف السّلام والأمن. 
المتعبّئون لقيم الإلغاء والنّفي لكلّ مختلف هم في الحقّ (أورتودوكس) جديد. يستدعون دون شعور منهم ولفرط جهلهم قيمة الدّولة (الدّينيّة/التيوقراطيّة) التي قام المصلحون في أوروبا على الثّورة ضدّها. هؤلاء يحكون (دولة العدوّ المحتلّ) إذ أصرّ منذ عقود على تأسيس «دولته» على قيمة دينيّة (دولة يهوديّة) لا مجال فيها لتعدّد. أرأيت إختلاف الإسلام عن غيره في تأسيس الدّولة؟ لا قوّة لدولة إسلاميّة إلاّ بقدر إستيعابها كلّ تعدّد (حتّى الدينيّ العقديّ منه) مادام ذلك تحت سقف واحد لا سقوف متعدّدة وفوق أديم السّلام والتّعاون. كان هذا حتّى في سالف الأيام التي يمكن لبعض النّاس أن يعيشوا منفردين، فكيف بنا نحن اليوم والأرض كلّها أضحت بيتا واحدا صغيرا ومن زجاج جدرانه؟ 
خلاصة : 
الدّولة الإسلاميّة في العصر الحديث لم تعد شيئا بعيد المنال. إرهاصات كثيرة توحي بذلك، ولو ترقيعا وإنتقاء وليس تأسيسًا جديدا. من أكبر تلك الإرهاصات (ثورات الرّبيع العربيّ التي لم تجهض فكرتها ولكن تمّ تعويقها فحسب - طوفان الأقصى - وغير ذلك). ولكن يبدو أنّ الوعي بكثير ممّا هو من صميم قيم الدّولة الإسلاميّة مازال غائبا. تراثنا على قيمته لا يوفّر كثيرا ممّا نحتاجه. وليس من مهمّات التّراث أن يجتهد لكلّ جيل، هو محصور في عصره ومصره. وقد فعل ذلك. وفي الوحي المعصوم وفي تجربة الخلافة الرّاشدة ما يكفل الأصول. وعلينا تعصير ذلك وتحيينه والوعي بأنّ المتغيّرات في قضية الدّولة كبيرة وكثيرة وخطيرة.