التجديد الحضاري

بقلم
د. محمد المجذوب
تأويل القرآن الكريم ومسألة التوحيد
 تاريخيّاً نجد الدّراسات القرآنيّة، في فترتها المبكّرة ولعوامل خارجيّة، قد انصرفت في تأويلها للوحي القرآني إلى مواجهة حملات التّشكيك والنّقد الموجهة إلى اتساق الوحي القرآني مع نفسه من قبل اليهود والنّصارى، وهي حملات كانت تستهدف في المقام الأول النّيل من مصداقية القرآن، بالاستناد إلى ورود المتشابه والمشترك في آيات القرآن، ولذلك كانت الدّوافع التي شكّلت التّوجهات التّأويليّة المبكّرة للوحي القرآني في تاريخ الثّقافة الإسلاميّة هي محاولتها الردّ على حملات الطّعن والتّشكيك في صحّة الوحي القرآني، وهو التّشكيك الذي لم يقف عن حدّ الخلاف المتعلّق بالخطاب من جهة معانيه ودلالاته، ولكنّه تعدّي ذلك إلى الطّعن في مصداقيّته وصلاحيّته من جهة دلالته بوصفه معجزة، وبالتّالي النّيل من حقيقة التّحدّي الواقع به.
بمعني آخر أنّ تلك المطاعن التي وجّهت إلى الوحي القرآني، والمتمثّلة في وجود التّفاوت بين آياته والاختلاف فيها، فرضت على الدّارسين المسلمين الأوائل مناهج «تأويليّة» هدفها التّصدّي للمشكّكين، والتّأكيد على إعجاز القرآن بالمقارنة بالفصاحة العربيّة للعرب الذين أنزل عليهم القرآن أوّل مرّة، أي إنّ الإجراء التّأويلي الذي طُرح عندئذ قام على الاحتجاج على سلامة الوحي القرآني من التّناقض والاشتباه بمقارنته بطرائق العرب الأوائل في التّعبير، وذلك من خلال ردّ ما أشكل من وحي القرآن إلى كلام العرب وأشعارهم، باعتباره الإجراء الذي يعيد الانسجام إلى ما يبدو من اختلافات لغويّة أو معنويّة ظاهرة تعلو ظاهر الخطاب.
هذه الملابسات التّاريخيّة جعلت من الدّراسات التّأويليّة للقرآن في ذلك الوقت المبكر من عمر الثّقافة الإسلاميّة، دراسات لغويّة صرفة، فالعلماء المسلمون حاولوا الرّد على تلك «الشّبه» بالقول بالإعجاز اللّغوي والبياني، وهو الحلّ الذي أدخل الفكر الإسلامي لاحقاً في إشكالات لغويّة وعقائديّة عديدة، بمعنى أنّ تلك المحاولات لردّ «الشّبهة» نجم عنها إشكالات عديدة على مستويات مختلفة: عقائديّة ولغويّة وفقهيّة وأصوليّة، لا يزال الفكر الإسلامي يعاني منها إلى اليوم، فكثرت الإجابات الخاطئة على إشكالات حقيقيّة.
أمّا لماذا كان ذلك التّلازم بين دراسات الإعجاز والدّراسات اللّغويّة، فلأنّ التّأسيس لمعني في الإعجاز كان لا بدّ وأن يتساوق مع الالتزام بفقه اللّغة، فاعتبار اللّسان العربي الأول ما قبل نزول القرآن مرجعيّةً نهائيّة لفقه دلالة الخطاب الإلهي، وبالتّالي تبيان أوجه الإعجاز فيه بالمقارنة مع فصاحة العرب، بحجّة أنّ القرآن إنّما نزل بلغة العرب، وقد جرى مجرى أساليبهم في التّعبير والبيان، فيكون اللّسان العربي والحال على هذا هو العمدة في فقه الخطاب والكشف عن دلالته.
ولذلك كان موضوع الإعجاز وثيق الصّلة بموضوعات اللّغة، كما نقلت عن العرب الأوائل ما قبل نزول القرآن، بتأويل خاطئ لقوله تعالى:﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(الرعد:4)، وبذلك أصبح الإطار المرجعي الذي تمّ اعتماده في فقه المعاني القرآنيّة في الدّراسات المبكّرة، هو الإطار اللّغوي للعرب الأوائل وهو لا يزال كذلك عند غالب الباحثين، وعلى هذا الأساس اعتبر لسان العرب وعاداتهم وسننها في الخطاب، هي أكثر القضايا التي تحظى بالاهتمام عند العلماء في بحثهم عن إعجاز القرآن.
ومصداق هذا الافتراض ممّا يظهر جليّاً عند الرّجوع إلى المناقشات التي جرت بين علماء الإسلام الأوائل لاسيما المعتزلة والأشاعرة، حيث كانت مناقشاتهم ومجادلاتهم الكلاميّة هي مجادلات لغويّة في المقام الأول، فدارت المناقشات الحامية بينهم حول ماهية مسألة اللّغة من جهة طبيعتها وحقيقتها، والبحث في أصل نشأتها، وقد كان السّؤال المطروح عندئذ هو هل اللّغة هي تواضع واصطلاح، أم هي توقيف والهام من اللّه؟. تبع ذلك التّساؤل إشكالات لغويّة وعقائديّة، مثل إشكاليّة اللّفظ والمعنى والقول بالمجاز في لغة القرآن، وطبيعة الكلام الإلهي ومسألة خلق القران. 
إنّ الإطار العقدي الذي تمّت فيه تلك المناقشات اللّغوية، هو الإطار الكلامي للفرق الإسلاميّة بالأساس، من خلال المناقشات التي دارت في الأساس على الخلاف حول مسألة التّوحيد. 
والمعني أنّه وعلى المستوى الدّلالي فإنّ الاهتمام الكلامي بمسألة «التّوحيد» كان يحتاج بالضّرورة العمليّة إلى الدّلالة اللّغويّة، كإطار مرجعي، لارتباط هذه الأخيرة كلّ الارتباط بتحديد طبيعة ومقاصد الكلام، من حيث هو خطاب الهي، وكذا ارتباطه بنوع القياسات العقليّة المستخدمة في الاحتجاج الكلامي على صحّة العقائد، فضلاً عن ارتباطه بدور «المتكلّم» في محاولته الكشف عن العقيدة «الصّحيحة» والتّنظير لها، ومن هنا الاهتمام بضرورة التّفرقة بين الحقيقة اللّغوية البيانيّة والحقيقة الشّرعيّة الوجوبيّة، ونحو ذلك من القضايا المتفرّعة عن هذه الأمّهات، وفي صدارتها تأتي قضيّة معرفة الذّات والصّفات والمجاز وطبيعة اللّغة ... الخ.
 وعلى هذا فإنّ معرفة مسألة الإعجاز، كما تشكّلت لا يتمّ فقهها إلاّ بالرّجوع إلى الأصول الفكريّة والمذهبيّة للفرق الإسلاميّة لاسيما فرقتي المعتزلة والأشاعرة، فضلاً عن آراء الظّاهريّة والمتصوّفة ... الخ، بوصفها الأصول التي تتناول تعرّجات الخلاف الذي دار بين المعتزلة والأشاعرة والظاهرية والمتصوفة ومداخلاته حول قضيّة التّوحيد والصّفات الإلهيّة، هل هي عين الذّات، أم إنّها زائدة على الذّات؟. وما تفرّع عنها من خلاف حول قدم الكلام الإلهي أو حدوثه، وما ترك ذلك من أثر على دراسات إعجاز القرآن، وما يتعلّق بهما من قضايا لغويّة وبيانيّة. 
إذ الملاحظ أنّ صاحب كلّ مذهب كان يلتزم بما في مذهبه من أصول التّوحيد في دراسته لتلك القضايا اللّغوية، وانطلاقاً من هذه المداخلات بين الآراء والمواقف الكلاميّة، وبين الآراء اللّغوية البيانيّة، نحاول التّحدّث عن أثر فكرة التّوحيد ومرجعيّة لغة العرب الأوائل على تحديد المواقف والاتجاهات المتباينة وأثرها في مسألة «الإعجاز» لدى التّيارات الرّئيسة في الثّقافة الإسلاميّة، لاسيما عند كلّ من المعتزلة والأشاعرة والظّاهرية والمتصوفة، ووجه التّحدّي الذي واجه هؤلاء المنتقدين والطّاعنين في مصداقيّة القرآن. 
ولقد كانت أهم مداخلة لغويّة كلاميّة ذات صلة بمسألة الإعجاز، هي قضيّة أصل اللّغة ونشأتها، بسبب ما تثيره هذه النّشأة من تساؤلات جوهريّة، وما سيترتب على ذلك من وجهات نظر حول ماهية الإعجاز القرآني، فقد حاولت كلّ فرقة من الفرق الكلاميّة أن تعالج هذه القضيّة انطلاقاً من أصول مذهبها الكلامي.