في العمق

بقلم
أ.د.عماد الدين خليل
مدخل إلى بناء العالم في المنظور القرآني (الحلقة الرابعة)
 ونجِيءُ من ثمّ إلى دنيا النّبات التي تمثل واحدةً من أهمّ صفحات خلق العالم وتكوينه وقدرته على الاستمرار، ولولاها لما قامت للحياة على اطلاقها قيامة، ولانطوت صفحاتها في أيامٍ قلائل ولربّما في ساعاتٍ معدوداتٍ، فهو الذي يموّن الحياة بالخزين الغذائي الدّائم الذي يقوم قوامها عليه إنساناً وضرعاً وزرعاً ... هذا الخزين المتجدّد بإرادة اللّه وحده والذي يمنح الحياة الدّنيا قدرتها على مواصلة البقاء ...
يحدّثنا كتاب اللّه في عدد كبير من آياته البينات كيف يتشكّل، وكيف يتنوّع، وكيف يتوزّع بالعدل والقسطاس فلا يتخم الواجدون ولا يتضوّر المحرومون جوعاً... وكيف يقدم المنفعة والجمال معاً للحياة الدّنيا فيزيدها بهجةً وألقاً، وكيف يضرب به الأمثال على التّنامي والذّبول، وكيف تصير مجالاً للعطاء الذي يقود صاحبه إلى الفلاح، والشّح الذي يقوده إلى التّهلكة ... وبسبب من هذا كلّه، من الدّور الكبير الذي تمارسه دنيا النّبات في هذه الحياة الدّنيا، يَجِيءُ التّحدّي الإلهي لكلّ الأدعياء الذين يبررّون فكّ الارتباط بين هذا الخلق المعجز في تكوين العالم، وبين مبدعه : ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ؟﴾(لقمان:11).
فلنتابع عبر رحلتنا هذه في خلق العالم، جانباً ممّا حدّثنا عنه القرآن الكريم بخصوص دنيا النّبات:﴿... وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ...﴾(الرعد:3). ﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(الرعد:4). ﴿... وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ ...﴾(إبراهيم: 32). 
﴿ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ*وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ*وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾(الحجر: 19-21 ). ﴿... وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى*كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى﴾(طه:53-54). ﴿... وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾(الحج:5). ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾(الحج:63). ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ*إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِين﴾(الشعراء: 7-8). ﴿... وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾(النمل:60). ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾(العنكبوت:63). ﴿... وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ*هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ...﴾(لقمان:10-11). ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾(يس:36). ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾(السجدة:27). ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا ...  إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾(فاطر:27-28). ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ﴾( يس:80). ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفـاً أَلْوَانُـهُ ...﴾(الزمر:21).
﴿... وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَـى وَلَا تَضَـعُ إِلَّا بِعِلْمـِهِ ...﴾(فصلت:47).﴿... وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾(ق:7). ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيـدِ*وَالنَّخْــلَ بَاسِقَــاتٍ لَّهـَا طَلْعٌ نَّضِيـدٌ﴾(ق:9-10). ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(الذاريات:49). ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ*أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾(الواقعة:63-64). ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ*أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهـَا أَمْ نَحْـــنُ الْمُنشِــؤُونَ﴾(الواقعة:71-72).﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً*يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً﴾(نوح:10-12).﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً*لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً*وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً﴾(النبأ:14-16). ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا*أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا﴾(النازعات:30-31). ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ*أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً*ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً*فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً*وَعِنَباً وَقَضْباً*وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً*وَحَدَائِقَ غُلْباً*وَفَاكِهَةً وَأَبّاً*مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾(عبس:24-32). ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ*الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾(قريش :3-4). ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ...﴾(المائدة:66). ﴿إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾(الأنعام:95). ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(الأنعام:99). ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾(الأنعام:141). ﴿... فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ...﴾(الأعراف:57). ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً ... ﴾(الأعراف:58). ﴿... وَأَنـزَلَ مِنَ السَّمَـاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ ...﴾(البقرة:22). ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ*يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(النحل:10-11). ﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(النحل:67). ﴿فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ*وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ﴾(المؤمنون:19-20). ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ*وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ*لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾(يس:33-35).
عبر هذه الآيات المزدحمة، والتي تدير المنظور على ظاهرة الإنبات من جوانبها كافّة، يحدّثنا كتاب اللّه عن جملة من الأمور التي تبدأ بمعجزة الزّوجيّة التي تتنامى بواسطتها الحياة، وبالماء الواحد الذي يخرج جنّات الأعناب والزّرع والزّيتون والنّخيل ومن كلّ الثّمرات مختلف ألوانها، متشابهة وغير متشابهة... ليس هذا فحسب بل يفضّل بعضها على بعض في الأكل وتلك هي معجزةً أخرى في عالم الخلق... وبالوزن المرسوم الذي يحكم به عالم النّبات القادم من خزائن اللّه فما ينزل إلّا بقدرٍ معلوم، وفق حاجة الإنسان والحيوان، لا يزيد ولا ينقص إلا بإرادة اللّه... وبالأرض الهامدة التي إذا ما تلقّت الماء اهتزت وربت وأخضرّت وأنبتت من كلّ زوجٍ بهيج... وبالجمال المرتبط بظاهرة الإنبات من أجل بثّ البهجة التي ما كان للنّاس جميعاً أن ينبتوا شجرها... وبحياة الأرض القاحلة الجرداء بعد موتها حيث ينزل الماء ليبعث فيها الحياة ... وبمعجزة الشّجر الأخضر الذي يصير ناراً يوقد عليها النّاس ... ومن ثم يَجِيءُ التّحدي الكبير : ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُون*أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾(الواقعة:63-64). ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ*أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ﴾(الواقعة:71-72). حيث لا جواب إنّما هي إرادة اللّه وحده التي تصنع هذه الأعاجيب في دنيا النّبات والفرص الكبيرة التي يمنحها اللّه سبحانه وتعالى لأولئك الذين يلتزمون صراطه المستقيم فيغدق عليهم نعمه مخاطباً إياهم : ﴿يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً﴾(نوح:11-12). ﴿...  لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ...﴾(المائدة:66). ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً ... ﴾(الأعراف:58) ... وبالمياه الدّافقة التي تنزل من السّماء بإرادة اللّه فتخرج الحبّ والنّبات والجنّات الملتفة ... ويدعو الإنسان إلى أن ينظر إلى معجزة إطعامه هذه كيف يصب اللّه سبحانه وتعالى الماء صبّاً، وكيف يشقّ الأرض شقّاً، فينبت فيها عنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهةً وأباً ... الطّعام المعروض للنّاس ولضرعهم على السّواء.
واللّه وحده 9 هو الذي يفلق الحبّ والنّوى، تماماً كما يخرج الحيّ من الميّت ومخرج الميّت من الحي ... وثمّة آية تثير الدّهشة في سورة الأنعام تَجِيءُ علوم النّبات المعاصرة فتؤكّد ما ورد فيها حرفاً بحرف تلك التي تقول : ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً ...﴾(الأنعام:99)، ها هنا حيث لا تتشكّل ثمار النّبات إلاّ بعد أن تجتاز ثلاثيّة التّعامل مع ضوء الشّمس وثاني أوكسيد الكربون ومادّة الكلوروفيل الخضراء، ولهذا يَجِيءُ إخراج الحبّ المتراكب بعد إخراج الخضر.
وثمّة فضلاً عن المنفعة التي يقدّمها النّبات، تأكيد في كتاب اللّه على الجانب الجمالي الذي يضرب ما يقوله الملاحدة والطّبيعيّون، القائلون بعبثيّة الخلق وقيامه على الصّدفـة، ويجعل لــه هدفيّـة وقصداً ومغـزىً:﴿..وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾(الحج:5). ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً؟﴾(الحج:63).﴿... وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ﴾(النمل:60). ﴿... وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾(ق:7). ﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ﴾(ق:10). ﴿...  انظُرُواْ إِلِى ثَمَرهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ... ﴾(الأنعام:99)!!
إنّ الذي يبني داراً أو قصراً كبيراً لاستقبال السّاكنين ... ألا يُهَيِّئُ لهم الموائد والأطباق العامرة لكي يستمتعوا ويشبعوا بطونهم، ويتمكّنوا بعدها من ممارسة أعمالهم المتشعّبة ... كذلك شاءت حكمة اللّه 9 في تقديم هذه الوجبات السّخيّة من الطّعام لساكني الكرة الأرضيّة لكي يتمكّنوا من مواصلة مشوارهم الحضاري ... ومن أجل هذا يَجِيءُ التّأكيد أكثر من مرّة على أنّ هذه الظّاهرة الفذّة في الخلق، لا يدركها ويقدرها حقّ قدرها إلاّ أولو العلم والنّهى... ومن ثمّ تتردّد هذه القيمة القرآنيّة : ﴿... إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾(الرعد:4). ﴿... إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى﴾(طه:54). ﴿... إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(النحل:79). ﴿... إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾(الرعد:3 ). ﴿... لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(الأنعام:152) ... وفي مقابل هذا سيل من الآيات التي تدين من لا يملكون بصائر وعقولاً ترى معجزة الخلق هذه مكشوفةً أمامهم على مصراعيها : ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾(الشعراء:8). ﴿...بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾(النمل:60). ﴿...بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾(العنكبوت:63). ﴿... أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾(السجدة:27). ﴿...فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾(الأنعام:95 ).﴿... أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾(يس:35).
ومن أجل ذلك كلّه جاءت كلمات اللّه لتؤكّد : ﴿..إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادهِ الْعُلَمَاء..﴾(فاطر:28) فليس علماء الشّريعة وحدهم الذين يستحقّون هذه الصّفة إنّما أصحاب العلوم الصّرفة من فلك وجغرافيا ونبات وحيوان ... ومن أجل ذلك تحدّاهم كتاب اللّه : ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(الأحقاف:4).