رسالة فلسطين

بقلم
أ. د. محسن محمد صالح
عالم بلا ”حماس“؟!. (*)
 منذ معركة «طوفان الأقصى» تصاعدت الصّرخات الإسرائيليَّة لسحق «حماس»، وانضمّت إليها دعوات قوى غربيّة كبرى بوجوب إنهاء حكم «حماس» في قطاع غزّة، وشطبها من دائرة التّأثير في صناعة القرار الفلسطيني.
وترافق ذلك مع حملة عالميَّة تشيطن «حماس» وتتّهمها بالإرهاب، وترى فيها عائقًا أمام تحقيق السّلام والاستقرار في الشّرق الأوسط – ولم يخلُ الأمر من وجود قوى عربيّة وإقليميّة فاعلة ضاقت ذرعًا بحماس- وسببًا في إفساد علاقاتها الخارجيّة وإستراتيجيّاتها الأمنيّة والتّنمويّة. ولم يُخفِ ذلك زعماء ومسؤولون عرب تحدّثوا في الغرف المغلقة مع زعماء غربيّين، أو مع شخصيّات كشفت عن ذلك في وسائل الإعلام، مثل: «دينيس روس»، و«توماس فريدمان».
عالم لا «حماس» فيه
إذًا، يرى هؤلاء أنّ «حماس» هي المشكلة، وأنّ رأسها أصبح مطلوبًا، وأنّ مدخل الاستقرار في المنطقة هو شطب «حماس»!
فلنتعامل مع فرضيّة التّخلّص من «حماس» بهدوء، وفي إطار موضوعي. وليجِبْ عن أسئلتنا البسيطة أولئك الذين عبَّؤُوا العالم ووسائل الإعلام ضد «حماس».
نشأت «حماس» كحركة سنة 1987، بعد نحو أربعين عامًا من قرار تقسيم فلسطين، وحرب 1948 وإنشاء الكيان الإسرائيلي، فماذا فعل محبّو السّلام والاستقرار طوال أربعين عامًا لإعطاء الفلسطينيّين حقوقهم، ولإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ولتطبيق قرارات الأمم المتّحدة؟! هل كانت «حماس» هي العائق والمشكلة؟!
وبعد ثلاثين عامًا من اتفاق أوسلو الموقّع سنة 1993 - حيث كانت تأمل قيادة منظّمة التّحرير الفلسطينيّة بإنشاء دولة فلسطينيّة مستقلّة في الضّفة الغربيّة وقطاع غزّة خلال خمس سنوات – من الذي عطّل تنفيذ الاتفاق؟ ومن الذي دمّر مسار التّسوية؟ من الذي دمّر حلّ الدّولتين؟ ومن الذي حوّل تجربة «أوسلو» ومسار التّسوية إلى كارثة على الشّعب الفلسطيني؟! أليس الطّرف الإسرائيلي هو الذي ضاعف أعداد المستوطنين، وصادر الأراضي، وقام بتهويد المقدّسات، وحوّل السّلطة الفلسطينيّة إلى كيان وظيفي أمني يخدم الاحتلال؟
وبعد أكثر من عشرين عامًا على المبادرة العربيّة (السّعودية)، أليس الاحتلال الإسرائيلي هو الذي تجاهلها وأفشلها، وتسبّب في وضعها على الرَّف، إن لم يكن سلّة المهملات؟!
وعلى فرض أنّه لم تكن هناك «حماس» طوال الفترة الماضية، هل كان الإسرائيليّون سيعطون الفلسطينيّين دولة كاملة السّيادة في الضّفة والقطاع؟ أم أنّ المشكلة في جوهر الأيديولوجيّة الصّهيونيّة، والعقليّة الإسرائيليّة الحاكمة صانعة القرار التي ترفض ذلك؟!
على سبيل المثال، قامت «حماس» في الفترة 25/2-3/3/1996 بعدّة عمليّات؛ انتقامًا لاستشهاد «يحيى عياش»، هزّت الكيان الإسرائيلي، فسارعت القوى الغربيّة الكبرى والكيان الإسرائيلي والسّلطة الفلسطينيّة وعدد من الدّول العربيّة ودول العالم بعقد مؤتمر دولي أسمته: «مؤتمر صانعي السلام» في 13 مارس / آذار 1996 في شرم الشّيخ بمصر؛ لدعم مسار التّسوية ومحاربة «الإرهاب».
وقامت السّلطة الفلسطينيّة بالتّعاون مع الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتّحدة- وباستخدام كافّة وسائل القمع والبطش- بحملة شعواء ضدّ «حماس» لمحاولة اجتثاث كلّ ما له صلة بالتّيار الإسلامي المقاوم.
ومن النّاحية العمليّة لم تترك السّلطة حجرًا على حجر، وتمكّنت من تفكيك معظم إن لم يكن كافّة خلايا المقاومة، ونجحت إلى حدّ بعيد في ضرب البنية التّنظيميّة لحماس، وفي خنق قاعدتها الشّعبيّة.
ثم ماذا؟! خلال السّنوات الأربع التّالية، استتبّ الأمر للسّلطة، وتولّت هي وأجهزتها الأمنية «التّسعة» تلبية المطالب الإسرائيليّة، وتحقيق «معايير الجودة» المستهدفة. ولكن لم يفعل الاحتلال الإسرائيلي شيئًا سوى متابعة برامج التّهويد والاستيطان، واستخدام مسار التّسوية كغطاء لاختراق المنطقة العربيّة والإسلاميّة والتّطبيع معها، وتكلّل الأمر بفشل مفاوضات كامب ديفيد الثّانية في يوليو/ تموز 2000.
والسؤال الذي يفرض نفسه: لقد كانت تلك الفترة – عمليًّا- «عالمًا بلا حماس»، فلماذا لم تتحقّق التّسوية السّلميّة الموعودة؟
لهذا فقدَ «ياسر عرفات» أيَّ أمل بتحقيق حلم الدّولة الفلسطينيّة الذي يسعى إليه. وهذا الإحباط كان له دور أساس في دفع عرفات لدعم انتفاضة الأقصى التي اندلعت في سبتمبر /أيلول 2000، بل ومشاركة عناصر فتح فيها شعبيًّا وعسكريًّا. 
أمّا النّتيجة الثّانية، فهي أنّ «حماس» خلال وقت قصير جدًا استعادت عافيتها، وتقدّمت لتقود المقاومة المسلّحة، ولتحصل على التّفاف جماهيري غير مسبوق؛ تكلّل بفوزها السّاحق في انتخابات المجلس التّشريعي 2006.
تكرّرت محاولة إيجاد «عالمًا بلا حماس» على يد السّلطة الفلسطينيّة في رام اللّه منذ 2007 ولسنوات عديدة في الضّفة الغربيّة، وعانت «حماس» (ولا تزال تعاني) من بطش السّلطة، (ومعه البطش الإسرائيلي والخبرة الأميركيّة)، ومطاردتها، ومن إغلاق مؤسّساتها، وضرب بناها التّنظيميّة، فماذا كانت النتيجة بعد 16 عامًا؟!
النّتيجة أنّ «حماس» هي الفصيل الأكثر شعبيّة في الضّفة، أو على الأقل الفصيل الأساس المنافس لفتح! وإلّا فلماذا تهرَّبت قيادة فتح من استحقاقات الانتخابات، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني في ربيع 2021، وما زالت تتهرب منه حتّى الآن؟! وحتّى في قطاع غزّة، فإنّ الحصار المضني، وخوض خمس حروب مدمّرة على مدى 16 عامًا لم يزيد «حماس» إلاّ قوة وشعبيّة!!
ولذلك، فالسّؤال الموجّه للاحتلال الإسرائيلي: إذا كانت الضّفة الغربيّة تحت احتلالكم المباشر وغير المباشر، وفشلتم على مدى 36 عامًا في اجتثاث «حماس»، حتّى بوجود شريك فلسطيني معكم، ولا تزال في أَوَج شعبيّتها؛ فماذا تتوقّعون على فرض أنّكم تمكّنتم من إعادة احتلال القطاع؟! لماذا الإصرار على «تجريب المُجرّب»؟ وعلى «إعادة اختراع العجلة»؟!
إرادة الاحتلال.. أم إرادة الشّعب؟!
ثمّة سؤال بديهي يطرح نفسه: هل «عالمًا بلا حماس»، يعكس إرادة الاحتلال وحلفائه، أم إرادة الشّعب الفلسطيني؟!
وبالتّالي، هل للاحتلال الإسرائيلي وحلفائه حقّ الوصاية على الشّعب الفلسطيني؟ وهل من حقّهم فرض معاييرهم لاختيار الشّعب الفلسطيني ممثّليه وقيادته؟ وما هذه الدّرجة من الوقاحة والغطرسة أن يُقرّر العدّو شكل ومواصفات قيادة شعب هو ضحية الاحتلال؟!
والسّؤال البديهي الثّاني: لماذا يسعى العالم الغربي والمطبّعون العرب وحلفاؤهم إلى تكييف الأوضاع في فلسطين وَفق رغبات الاحتلال ومعاييره، وبما يريح «إسرائيل»؟ بدلًا من السّعي وَفق مئات القرارات الدّوليّة وبديهيّات حقوق الشّعوب في تقرير المصير، إلى تكييف الأوضاع لصالح إنهاء الاحتلال وممارسة كافة الضّغوط عليه لإجباره على ذلك؟!
وبالتّالي، فإنّ بقاء الاحتلال الإسرائيلي – كـ «دولة فوق القانون»، بحيث يتمّ تأمين احتلاله وضمان استمراره في إخضاع شعب آخر- هو الحالة الشّاذة التي يجب أن تزول.
ولذلك، فإذا اختار الشّعب الفلسطيني «حماس»- في تعبير حرّ عن إرادته- فالصّحيح هو احترام إرادة الشّعب لا إرادة الاحتلال. و«حماس» حكمت قطاع غزّة وفق أغلبيّة فلسطينيّة انتخبتها، وهي لم تأتِ بإذن «إسرائيل» ولا أميركا، ولا بموافقتهما، حتّى تبقى إذا رضِيتا أو تذهب إذا غضبتا؛ فليس هذا شأنهما.
المؤشّرات الواقعيّة
تظهر المؤشّرات أنّه بعد أكثر من 75 يومًا من العدوان الإسرائيلي الوحشي المدمّر على قطاع غزّة، أنّ شعبيّة «حماس» ما زالت عالية ومتصاعدة، ولا تزال الحاضنة الفلسطينيّة تلتفّ حولها في داخل فلسطين وخارجها. وأنّ أسلوب المذابح والمجازر عمّق الرّغبة لدى الشّعب الفلسطيني في الانتقام وفي تقديم المزيد من التّضحيات لإنهاء الاحتلال.
أي أنّ الرّغبة الإسرائيليّة المجنونة للوصول إلى «عالمٍ بلا حماس»، لم تزد «حماس» إلاّ قوّة، بل ورفعت قدرها فلسطينيًّا وعربيًّا وإسلاميًّا وعالميًّا كحركة مقاومة وتحرّر؛ في الوقت الذي انكشف فيه أكثر وأكثر الوجه القبيح للاحتلال.
وتظهر آخر استطلاعات الرّأي- التي صدرت عن المركز الفلسطيني للبحوث السّياسيّة والمسحيّة في 13/12/2023 – تصاعدَ شعبيّة «حماس»، والمزيدَ من الالتفاف حول خطّ المقاومة، ووجود أغلبيّة ساحقة تطالب باستقالة عباس.
وفوق ذلك، فلربّما لو كان ثمّة استفتاء حول أكثر الفصائل أو الأحزاب شعبيّة في العالم العربي والإسلامي، لفازت «حماس» بأغلبيّة مريحة، وحازت مكانة لا يحلم بها فصيل فلسطيني، أو حزب، أو زعيم عربي أو إسلامي. ولربّما حاز «أبوعبيدة» – الذي لا نعرف اسمه ولا شكل وجهه- أصواتًا أعلى بكثير من العديد من الزّعماء والرّؤساء الذين تصدح بأسمائهم وسائل الإعلام صباحَ مساء!
حماس والمجتمع الدّولي
هل إذا كان العالم بلا «حماس»، فسيكون أفضل لدعم المجتمع الدولي قضيةَ فلسطين؟!
في الحقيقة، فإنّ الدّراسة الموضوعيّة لمسار تفاعل العالم مع قضيّة فلسطين- وتصدّرها الأجندةَ الدّوليّةَ، وارتفاع نسبة التّصويت لها منذ أن نشأت «حماس» وحتّى الآن (1987-2023)- تشير إلى أنّه كلّما كانت هناك مقاومةٌ وأجواء انتفاضة ومواجهة مع الاحتلال وصعودٌ لدور «حماس»، فإنّ هذه النّسبة تزداد في تصويت الأمم المتّحدة ومؤسّساتها، وفي تفاعل العالم رسميًّا وشعبيًّا.
وأنّه كلّما سيطر تيار التّسوية وفرض حالة من «الهدوء»، تراجعَ الاهتمام والدّعم الدّولي ونسب التّصويت في الأمم المتّحدة؛ واستغل ذلك الجانب الإسرائيلي لمزيد من الاستيطان والتهويد باتجاه إغلاق الملف الفلسطيني، وفرض تصوّراته التي تشطب حقوق الشّعب الفلسطيني في أرضه ومقدّساته. وقد كتب عن هذه الظّاهرة باحثون متخصّصون أمثال «د. وليد عبد الحي».
حماس و«الإرهاب»
تتّهم عدّة دول غربيّة «حماس» بـ «الإرهاب»، وبقتل المدنيّين، ولذلك ترى ضرورة لإخراجها عن الشّرعيّة الدّوليّة. أمّا بالنّسبة للشّعب الفلسطيني وللعرب وللمسلمين، فحماس حركة إسلاميّة معتدلة منفتحة، وهي حركة تحرّر وطني، ووجودها مرتبط بمواجهة إرهاب الصّهاينة وبإنهاء الاحتلال.
ومحاولة سحق «حماس» وتحييدها لن ينهي جوهر فكرة التّحرير، فهو حقّ مقدّس أصيل لكلّ شعب لديه كرامة، ويسعى لتقرير مصيره بنفسه. واتهام «حماس» بالإرهاب هو مجرد أداة لمنع أي عمل مقاوم مشروع ضد الاحتلال.
أما موضوع استهداف المدنيّين، فربّما لا مجال هنا لنقاشه، ولكن من النّاحية التّاريخيّة يكفي أن نشير إلى أنّ «حماس» سعت منذ إنشائها للتّركيز على الأهداف العسكريّة، وسبق لها بعد مجزرة الحرم الإبراهيمي التي قام بها أحد الصّهاينة سنة 1994 أن عرضت على الاحتلال تجنّب قتل المدنيين، ولكن الاحتلال تجاهل ذلك، وواصل مجازره.
وللعلم فإنّ الإحصائيّات الموثّقة، تشير إلى أنّ الاحتلال قتل أكثر من 11 ألف فلسطيني، أغلبيّتهم السّاحقة مدنيّون في الفترة منذ سنة 2000، وحتّى قُبيل عمليّة «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر الماضي. والعالم كلّه الآن شاهد على المذابح الصّهيونيّة في قطاع غزّة.. فلنتحدث أولًا عن «الإرهاب الصّهيوني».
إنَّ الفكر الإسلامي الحضاري المعتدل هو المدرسة الأكثر قوّة وعمقًا واتساعًا في فلسطين والعالم العربي والإسلامي؛ وفلسطين بمكانتها الدّينيّة العظيمة وتراثها، تحتلّ مكانًا مركزيًّا في وجدان وقلب كلّ عربي ومسلم.
وبمقدور هذه المدرسة- حتى لو ضُربت «حماس» – أن تُعيد إنتاج حركة أكثر قوّة واتساعًا. وهو أمر يرى أصحابه أنّه مرتبط بمعركة عادلة تستحق التّضحية والموت لأجلها، كما أنّه مرتبط بمكانة فلسطين وليس بالضّرورة بوجود «حماس». إنّها أيديولوجيّة راسخة في المجتمع الفلسطيني والأمّة، ومن الغباء تجاهلها والإصرار على السّير عكس حركة التّاريخ بعد ثلاثين عامًا من الاستعمار البريطاني، و75 عامًا من الاستعمار الصّهيوني، واستخدام آليّات ثبَت فشلها.
النّتيجة الواضحة لهذا النّقاش هو أنّ أولئك الذين يتحدّثون عن عالمٍ بلا «حماس»، لا يقصدون «حماس» بذاتها فقط، وإنّما يستهدفون مقاومة الشّعب الفلسطيني وقواه الحية والحرة، يريدونه عالمًا يفرض بيئة مناسبة لاستمرار الاحتلال والظلم وقهر الشعب الفلسطيني.. ويريدون شعبًا فلسطينيًا بلا إرادة، شعبًا يرقص على أنغام الاحتلال، شعبًا بلا أظفار ولا أسنان؛ وهو ما لن يكون!!
وبدلًا من ذلك، يجب أن يَنصَبَّ الجهد العالمي على إيجاد عالمٍ بلا استعمار.. عالمٍ بلا احتلال.. عالم بلا مشروع صهيوني استعماري إحتلالي توسعي عدواني.. عالم يحترم الإرادة الحرة للشعوب.. ويَنصبّ على الضغط على «إسرائيل»، لا على المقاتلين من أجل حريتهم، عالم يتوقف عن التهرّب من الاستحقاق الذي سيحدث، عاجلًا أم آجلًا، وهو تحرير فلسطين وإنهاء الاحتلال.
الهوامش
(*) تمّ نشر أصل هذا المقال على موقع الجزيرة نت، ، 21/12/2023.