الأولى

بقلم
فيصل العش
أي مكاسب لطوفان الأقصى؟
 بالنقاط وليس بالضّربة القاضية
مهما كانت نتيجة الحرب على غزّة ومآلاتها، فإنّ الفوز فيها لن يكون بالضّربة القاضية وإنّما بالنّقاط، فلا إسرائيل ستزول بعد هذه الحرب ولا حماس ستمحى من خريطة الفصائل الفلسطينيّة.  فالكيان الصّهيوني فشل بشكل ذريع في تحقيق أحد أبرز أهدافه المعلنة لحربه على قطاع غزّة وهو القضاء على «حماس»، وهو لا يستطيع مواصلة الحرب البريّة التي بدأ في تنفيذها بعد عشرة أيام من عمليّة «طوفان الأقصى» في السّابع من أكتوبر، وهي فترة خصّصها للقصف العشوائي للمدنيين في غزّة خاصّة من الأطفال والنّساء وتدمير المباني على رؤوسهم. 
بالرغم من أنّ الجيش الصّهيوني جيش تكنولوجي بامتياز، يمتلك منظومة اتصالات متطوّرة يستطيع من خلالها قيادة قوّاته وتوجيهها، وبالرّغم من امتلاكه لترسانة ضخمة من الآليّات والدّبابات والطّائرات، فالمهمّة كانت بالغة الصّعوبة بالنّسبة إليه، نظرا لحجم التّحديات العسكريّة التي حملتها المعركة البريّة، في ظلّ ما أبدته حماس والفصائل المقاومة الأخرى من استعداد وقدرة على المناورة وتنوّع التّكتيكات العسكريّة المعتمدة وإلحاق الخسائر بجيش العدو. 
ورغم مرور أكثر من ثمانين يوما من التّدمير الممنهج لقطاع غزّة وارتفاع عدد الشّهداء المدنيين الفلسطينيين إلى مستويات غير مسبوقة، فإنّ الجيش الصّهيوني لم يقدر على القضاء على المقاتلين ولا حتّى شلّ حركتهم واجبارهم على الاختفاء داخل الأنفاق، فالمقاومة مستمرّة ولاتزال لها القدرة على التحكّم في مسار المعركة الميدانيّة واختيار توقيت الفعل العسكري وما يترتّب عليه من خسائر مؤلمة في صفوف الجنود الصّهاينة. وسواء اختار العدوّ الصّهيوني مغادرة القطاع ووقف العدوان أو الحفاظ على تواجد قوّاته في مناطق من غزّة، فذلك لن يقضي على حماس بل سيفسح لها المجال للقيام بعمليّاتها العسكريّة المقاومة ممّا سيتسبّب في ارتفاع أسهمها لدى الشّعب الفلسطيني خاصّة والشّعوب العربيّة والإسلاميّة عامّة. وهكذا فلن يكون انتصار الكيان هذه المرّة - إن حدث- بالضّربة القاضية كما خطّط لذلك نتنياهو، ففي نهاية الأمر لم تستطع القوّة العسكريّة الصهيونيّة الهائلة التي تمّ الدّفع بها إلى غزّة تحقيق أهدافها في احتلال الأنفاق وتحرير الرّهائن والقضاء على حماس بالكامل.
أمّا إذا انتصرت حماس -وهذا هو المأمول - وفرضت شروطها كاملة على العدوّ من وقف للعدوان وتبادل أسرى سواء بتبييض السّجون الاسرائليّة أم لا، وإعادة إعمار غزّة، فإنّ ذلك لن يكون بمثابة الضّربة القاضية للكيان، فغزّة ستبقى محاصرة، من الأخ والصّديق قبل العدو، معزولة عن العالم، وفي المقابل ستسعى كلّ الدّول الغربيّة إلى دعم الكيان وتضميد جراحه بالمال والعتاد، وكذلك ستفعل الأنظمة العربيّة التي تخشى حماس وتأثير انتصارها على الشّعوب العربيّة المحكومة بالاستبداد والنّار والحديد، لأنّ هذا الانتصار سيؤجج روح المقاومة فيها ويعيد إشعال جمر الغضب في أرجاء العالم العربي، ولا يزال ما فعلته بعض الأنظمة من مؤامرات لوأد الثّورات العربيّة بعد 2011 راسخ بأذهان الجميع.
مكاسب استراتيجيّة هامّة
إذا كانت الضّربة القاضية بعيدة المنال كنتيجة للمعركة، وبالتالي انتفاء فكرة «زوال إسرائيل»، فما هي المكاسب التي تحقّقت فلسطينيّا وعربيّا من جرّائها؟ وهل تستحق تلك المكاسب كمقابل حجم الدّمار الذي أصاب غزّة وعدد الشّهداء من المدنيين العزّل الذي تجاوز العشرين ألفا؟
* انهيار سرديّة «الجيش الذي لا يقهر»
المكسب الأول هو كسر هيبة الكيان الصّهيوني ومؤسّساته العسكريّة والأمنيّة بشكل غير مسبوق فلم يعد ذلك الجيش الذي لا يقهر ولم يعد الجندي الاسرائيلي المدجّج بأعتى الأسلحة يخشاه الآخرون. فما حقّقته حماس وبقيّة الفصائل المقاومة في أرض المعركة سواء في السّابع من أكتوبر أو بعده، وما أظهرته من تفوّق تكتيكي وميداني ملحوظ وإنجازات هامّة متمثّلة خاصّة في العدد الكبير من القتلى والأسرى «الإسرائيليّين»، ومشاهد المواجهات المباشرة بين المقاومين والجنود الصّهاينة قد أنتج لدى الرّأي العام العالمي عموما والصّهيوني خصوصا ولدى القوى السّياسيّة والعسكريّة صورة من الصّعب ترميمها بالنّسبة للكيان في السّنوات القادمة. صورة سيكون لها الأثر الكبير على معنويات الجميع ولكن بشكل معكوس سواء المقاومة وجمهورها من جهة وجيش الاحتلال وجبهته الدّاخليّة من جهة ثانية. كما أنّ تحطيم صورة «إسرائيل» كقوّة عسكريّة وأمنيّة كبيرة لا يضاهيها أحد في المنطقة سيكون له أثره السّلبي لا محالة على مسار التّطبيع مع الدّول العربيّة والإسلاميّة. فقد تُوقِّفُ بعضها تطبيعها مع الكيان بصفة كليّة، وقد لا تتخلّى بعضها، مثل السّعوديّة، عن مشروع التّطبيع مع الكيان في المدى الطّويل، لكنّ من المرجح أن تجمّد نتائج الحرب الأخيرة هذه الجهود في الأجل القصير أو المتوسّط. 
* تفكيك مستوطنات الغلاف والهجرة العكسية
يتمثّل المكسب الثّاني في التّغيّر الدّيمغرافي المرتقب في الكيان الصّهيوني الذي يمكن اعتباره نقطة الانطلاق لزوال إسرائيل. فقد استطاعت «حماس» من خلال عمليّة طوفان الأقصى أن تغيّر المعادلة المتعلّقة بميدان المواجهات، فبعد أن أجريت المواجهات السّابقة داخل قطاع غزّة، تمكّنت كتائب القسّام لأوّل مرّة، من نقل المعركة إلى داخل الأراضي الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي عندما اقتحم مقاتلوها -برًا وبحرًا وجوًا- السّياج العازل بين قطاع غزّة وما يسمّى بـ «غلاف غزّة »(1) تجاه العمق الإسرائيلي. حيث شُوهد، ولأوّل مرّة، مقاتلو كتائب القسّام يتجوّلون بأسلحتهم داخل مستوطنات الغلاف، وهو ما وضع إسرائيل أمام معضلة نزوح جماعي للمستوطنين من هذا الغلاف، وصعوبة العودة مجددًا.
وحتّى إن حاولت حكومة الكيان الصّهيوني- سواء رأسها نتنياهو أو غيره - العمل على استبقاء عدد من المستوطنين في تلك المستوطنات مقابل تخصيص منح وامتيازات كبيرة، ستكون مرهقة عسكريا وأمنيا واقتصاديا لمحاولة طمأنتهم وإبقائهم فيها، فإنّ مصير مستوطنات غلاف غزة على المدى البعيد.سيكون أقرب إلى التّفكيك والرّحيل عنها كما حدث من قبل في مستوطنات قطاع غزّة.
كما أدّت عمليّة « طوفان الأقصى» في السّابع من أكتوبر ونجاح المقاومة الفلسطينيّة بعد ذلك في دكّ المستوطنات والمدن الإسرائليّة من بينها «تل أبيب» بالصّواريخ محلّية الصّنع إلى زعزعة ثقة الجمهور الإسرائلي في حكومته وجيشه وقدرتهما على حمايته وهو الذي هاجر إلى إسرائيل بعد أن اقتنع بسرديّة اعتبارها المكان الوحيد الذي يشعر فيه اليهود بالأمان والقوّة، بالتّالي فإنّ النّتيجة الحتميّة هي انقلاب في طبيعة الهجرة لتصبح هجرة من إسرائيل وليس إلى إسرائيل، الأمر الذي سيؤدّي إلى تغيّر ديمغرافي خطير بالنّسبة للكيان الصّهيوني ستكون نتائجه وخيمة على مصيره.
* انتصار خط المقاومة وانتهاء مسار التسوية
بذلت الولايات المتحدة الأمريكيّة والكيان الصهيوني والعديد من الدّول الغربيّة الدّاعمة له طيلة 17 سنة جهودا كبيرة لإنجاح الحصار المفروض على قطاع غزّة من أجل عزل حماس عن العالم الخارجي ودفعها نحو الاستسلام، كما عملت بكلّ جهدها على إفشال كلّ محاولة لالتئام شمل الفلسطينيين في جبهة واحدة معتمدة على سياسة «فرّق تسد» وفصل غزّة عن الضّفة الغربيّة، وسعت خلال العقود الأخيرة  إلى تضخيم دور السّلطة الفلسطينيّة واستغلالها لكبح جماح حماس ومحاصرتها، واعتبار عباس وجماعته السّلطة الشّرعيّة الوحيدة للشّعب الفلسطيني، لكنّ تمادي الكيان في خططه الاستيطانيّة وقمعه المستمر للفلسطينيين في الضّفة كما في القطاع، وانتهاكاته المستمرّة للمسجد الأقصى مقابل سكوت السّلطة وتخاذلها في الدّفاع عن شعبها، زاد من التفاف الشّعب الفلسطيني حول حماس وبقيّة الفصائل الرّافضة لمسار السّلام، وجاءت عمليّة طوفان الأقصى وما تبعها من أعمال إجراميّة قام بها الكيان ضدّ المدنيين العزل في القطاع لتحسم الأمر نهائيّا لفائدة المقاومة ضدّ مسار التّسوية، فازدادت شعبيّة حماس في الدّاخل والخارج لتنجح في تثبيت نفسها كمدافع عن القضيّة الفلسطينيّة ومقاوم شرس لإسرائيل، وتضع حدّا لمسار لم يجن منه الشّعب الفلسطيني إلاّ المآسي ومزيدا من الاستيطان.
  ولعلّ ما يزيد في ترسيخ مسار المقاومة النّتائج المنتظرة من تبادل الأسرى حيث سيكون من بين المفرج عنهم قيادات فلسطينيّة من فصائل غير إسلاميّة تتبنّى مبدا المقاومة وترفض المسار التي اتبعته السّلطة الفلسطينيّة منذ أسلو، من بينهم الزّعيم الفتحاوي مروان البرغوثي الذي سيكون الإفراج عنه وعودته إلى الضّفة الغربيّة بمثابة الإعلان عن نهاية خطّ عبّاس وعودة فتح إلى خطّ المقاومة من جديد، وهو ما سيغيّر بالكامل المعادلة داخل الصّفّ الفلسطيني وبالتّالي في العلاقة بالكيان الصّهيوني.
* عودة الروح للحركات ذات التّوجه الإسلامي
أعاد طوفان الأقصى وما بعده من أحداث الرّوح في الحركات السّياسيّة ذات التوجّه الإسلامي بعد أن كادت تفقد بريقها وانحسرت شعبيتها نتيجة فشلها الذّريع عند ممارستها الحكم في العديد من الدّول العربيّة مثل مصر وتونس والمغرب وليبيا، ففي الوقت الذي ساد فيه خطاب نهاية الإسلام الحركي والسّياسي، وارتفعت فيه شعارات تعتبر الصّحوة الإسلاميّة قوسا قد فُتح وتمّ إغلاقه نهائيّا، ظهرت مبادرة «حماس» وانبعثت من تحت الحصار ومن الأنفاق لتعطي إشارة انبعاث جديد وبداية مرحلة جديدة، ولتكون محرّكا ورافعا جديدا لكي تعود الحركة الإسلاميّة للسّاحة. 
فضح «طوفان الأقصى» زيف شعارات الحضارة الغربيّة التي نصّبت نفسها لقرون حامية للمبادئ الإنسانيّة كالحرّية والمساواة والعدل والأخلاق السّامية، وأظهر في المقابل مدى رفعة أخلاق المقاومة والتزامها بالقيم الإنسانيّة خاصّة في مجال التّعامل مع الأسرى، فكان بالفعل نقطة انطلاق جولة جديدة من التّدافع الحضاري للأمّة الإسلاميّة وبداية مرحلة استئناف ونهوض للإسلام والمسلمين، وبالتّالي سيكون من واجب الحركات الإسلاميّة الأخرى - إن أرادت العودة إلى السّاحة - ليس فقط مواصلة دعمها لحماس والتّضامن معها، بل أيضا التقاط الإشارات التي وصلتها من «طوفان الأقصى» واستثمار نتائجه الإيجابيّة، فتخرج من حالة اليأس والإحباط وتتوقّف عن إعادة تدوير الوسائل التي اعتمدتها في المرحلة السّابقة، وتنخرط في هذا الانبعاث الجديد بعد أن تجد لنفسها (كلّ حركة حسب ظروفها وخصائص واقعها) المنطلقات المناسبة لإعداد منصّات إقلاع للمرحلة جديدة. 
* انحسار الصراع الطائفي 
من نتائج «طوفان الأقصى» انحسار الصّراع السّني الشّيعي، حيث دفعت جرائم الصّهيونيّة البشعةجميع الأطراف المسلمة إلى تخفيف الاحتقان الطّائفي وإخماد ناره وتجميع حركات المقاومة الشّيعيّة والسّنّية في نفس الخندق ضدّ عدوّ مشترك وهو الكيان الغاصب، وبالتّالي انصرفت هذه الحركات - ولو لحين- عن المعارك الدّاخليّة لدعم المقاومة في فلسطين، فأعلن حزب اللّه في لبنان والحوثيّون في اليمن وعدّة فصائل وميليشيات شيعيّة عراقيّة مباركتها لعمليّة «طوفان الأقصى» ودعمها للمقاومة الفلسطينيّة ووقوفها معها قولا وعملا. وقد ساهم الكيان الصّهيوني بوحشيته وتغطيته لها بخطاب ديني تلموديّ في توحيد الشّيعة والسّنة حول فلسطين، ومن هنا نفهم معنى تعليق المستشار السّابق، في البنتاغون الأميركي، دوغلاس ماكغريغور حين قال: «إسرائيل» تفعل اليوم شيئاً لم يقم بفعله أحد سابقاً على الإطلاق، وهو توحيد السّنة والشّيعة ضدّها، وعلينا حماية «إسرائيل» من نفسها». لقد ساهم «طوفان الأقصى» في ردم الهوّة بين الشّيعة والسّنّة وتوحيدهم حول القضيّة الفلسطينيّة، وكلّما ازدات هذه القضيّة وهجا وإشعاعا على السّاحة، انحسرت الصّراعات الطّائفيّة وازدادت امكانيّة توحيد المسلمين لمواجهة عدوّهم المشترك. 
وإجابة على سؤال : هل تستحق هذه المكاسب كمقابل حجم الدّمار الذي أصاب غزّة وعدد الشّهداء من المدنيين العزّل الذي تجاوز العشرين ألفا؟ نجيب بأنّ تحرير الأوطان يتطلّب الكثير من التّضحيات، وأن للحريّة والكرامة ثمنا يجب أن يدفعه المناضلون مهما كان مرتفعا.
الهوامش
(1) أنشأ الكيان الصهيوني الغلاف عقب انسحابه من غزة عام 2005 م، ويمتد طوله إلى نحو 40 كيلو مترا من السّياج العازل حول غزة
نحو خط حدود إسرائيل مع الغلاف، وعرض يتراوح من 15 - 5 كيلو متر، ويحتوي على قواعد إسرائيليّة مثل قاعدة ريعيم العسكريّة، ويضمّ نحو 50 مستوطنة يعيش فيها قرابة 55 ألف مستوطن، ومن أهم مستوطناته: سديروت وزيكيم وكيسوفيم وأشكول ونحال عوز وماغن وكفار عزة..الخ